أيام يأتي فيها الخاطر كسيل النهر الزلال، وأيام تغيب الشمس عن نور العقل لكثرة الغفلة والمعاصي، وما أجمل أن يبادر الإنسان لكتابة ما تناثر من أفكار، كي يقيد العبرة والفائدة قبل أن تتبخر
التدرج في مراقي الكمال
رأيت صورة لشيخنا الفاضل (عدنان ابراهيم) نشرها أحدهم في حسابه في الفيسبوك، فقلت لنفسي: سبحانه الله، كيف كان وكيف أصبح، لا أعني الشكل، لكن في العلم والمعرفة والقرب من الله، في طهارة الروح ونقائها، وأنا طبعا لم أكن أعلم حاله في السابق، لكني أعرف الكثير من أحواله في الوقت الحاضر بسبب كثرة الاستماع والمشاهدة، وبالتأكيد أنه اليوم أفضل من الأمس، وبالأمس كان أفضل من الذي قبله، وهكذا هو الإنسان.
إن الحياة فرصة ثمينة للترقي، في مجال العلم والمعرفة، وفي مجال الأخلاق والمعاملة، والترقي الصحيح هو أن تقترب من الله، وكلما اقترب الإنسان من الله كان إلى الكمال أقرب، على أنه لن يصل إلى منتهى الكمال طبعًا.
كيف كان وكيف أصبح، هذا الإنسان بشكل عام، الإنسان الذي كابد مرارات الحياة وصعوبات التعلم، الذي خاض تجربة الحياة بما فيها، فتعلّم من التجارب أكثر مما تعلم من الكتب، غير أن التجارب عادة ما تتفاعل مع ما في الكتب فتثمر معرفة غير مكتوبة أو مقروءة، وأكبر المعارف معرفة العبد بربه وطرق إنماء حبه.
ما أجمل الحياة حين تراها من نهايتها، على أنك قد سلكت الطريق الصحيح، حين ترى نفسك وقد تطورت وتكاملت واقتربت، ما أسعدها من حياة، وما أسرّها في كتابك يوم توزع الكتب، وما أجملها من ذكرى جميلة تخلد إلى الأبد، لأنها تبقى معك في حياتك الأخرى، لقد كانت أيامًا لا تنسى، بما فيها من ألم وتعب ومعاناة، كلها ترسم صورة باذخة الجمال، متنوعة الألوان، لا يشبع الناظر منها ولو تأملها ألف عام، وفي الجنة متسعٌ واسعٌ للتأمل.
لن تتوقف الحياة بغيابك أو رحيلك
مساكين نحن، نظن أننا لو تركنا أو غادرنا أن كل شيء سيتوقف أو يخرب، لقد رحل عمي بدون توقع، وأتذكر كيف كنت أدعو الله في آخر أيامه وهو في العناية المركزة وأرجو الله أن يبقيه لأولاده لأنهم لازالوا صغار، الكبير لم يتزوج بعد، والبقية في المدارس وهم كثير، من لهم بعده، وكم كنت جاهل ومسكين، فالحياة لم تتوقف بعد أن رحل، والأمور على ما يرام أو هي أحسن ربما، من يدري.
كذلك عمي الآخر الذي رحل قبل عدة سنوات، هو بالذات كانت حالته أصعب من حالة عمي هذا، فقد كان يعاني من كلف العيش وقلة المدخول، ولم يكن لديه بيت مستقل وكان يعاني من مشاكل أسرية، فاختار له الله الرحيل، وتكفل بعده بالأمور فآلت إلى أحسن حال، فأصبح لديهم منزل مستقل وكبر الأولاد ولايزالون يتنعمون بالخير واليُسر. لم تتوقف الحياة برحيل هذا أو ذاك.
لذلك، فلن يحدث شيء إن اضررت إلى السفر أيه الزوج أو أيتها الزوجة لغرض مهم، كزيارة أم أو أهل، سافر وغب شهر أو شهرين ولا تقلق، فقط توكل على الله، واتركهم فإنهم في رعايته عز وجل، فلسنا سوى أسباب يقيمنا الله ( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا )، فأنت -أيها الإنسان- لست الفاعل الحقيقي ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ).
اللهم اكفني بحبك عمن سواك
من الأدعية الجميلة (اللهم اكفني بحلالك عن حرامك) أما العارف، فقد أسلم أمره لله، وتوكل عليه، وتيقن أنه لن يضيعه، فمضى في الحياة رويدا، يتلذذ بحب ربه وشعور القرب منه، ويرى الناس وقد أُغنو بالمال والمتاع، بالمناصب والإنجاز، فيبادر الحزن ويقطعه عن قلبه، ويلهج بدعاء (اللهم اكفني بحبك عمن سواك).
ذاك حصّل كذا، وذاك حقق كذا، وذاك وصل إلى كذا وكذا، وأنتِ أيتها النفس، أما يكفيك أن يعود الناس بالحطام المادي، وتعودين بحب الله في قلبك؟
اللهم اجعل حبك أغلى مطلب، ومعرفتك أكبر غاية، فيهون كل شيء بعد ذلك، فلا تصبح المفرحات مفرحات، ولا المحزنات محزنات، إنما الفرح والسرور بذكرك، والهناء كل الهناء بشعور القرب منك.
يكفي أن الله معي، أناجيه في سري، أدعوه عند طمعي وخوفي، أذكره في ساعات صفوي، أتلو كلامه فينزل كالماء على البارد على قلبي، فما حاجتي إليكِ أيتها الدنيا، فقد بت اليوم أغنى الأغنياء، وأسعد السعداء.