رحلة الإنسان الروحية في الحياة الدنيوية (اسلام – إيمان – إحسان)

الحياة تتطور باستمرار، من الذرة إلى المجرة، ولا أدل على ذلك من برعمة صغيرة، كانت بذرة، وستصبح نبتة فشجرة، لكن المؤسف هو بقاء المسلم دون تطور روحي، دون قطع المراحل الموصلة وتجاوز العقبات الحائلة، حين تمضي عليه الأيام والسنون دون تقدم، فيبدأ من بوابة الشريعة ويبقي فيها.

أتى جبريل عليه السلام ليعلم أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن من بعدهم، أصول التطور، عوالم الروح الثلاثة التي ينبغي للمسلم تخطيها في رحلته إلى الله، أن يكون مسلماً، فمؤمناً، فمحسناً، فالإسلام هو البوابة الأولى والقاعدة الصلبة التي يؤسس عليه البناء، فهي إقرار بالوحدانية، وصلاة وصيام وحج، وزكاة من شأنها إقامة المجتمع الذي يعيش فيه الناس في أمن وسلام، فالأمن مرتبطٌ بلقمة العيش ومدى توفرها.

متابعة قراءة رحلة الإنسان الروحية في الحياة الدنيوية (اسلام – إيمان – إحسان)

عصر الطفرات الفكرية والروحية

أنهيت مشاهدة محاضرة للشيخ محمد حسين يعقوب ضمن سلسلة (شرح مدارج السالكين) وقد تحدث عن (منزلة التفكر) ومما ذكره أن يتفكر الإنسان كيف سهل الله له الفائدة وسخر له خلقه ليكونوا سبباً في هدايته، ليس فقط ممن حوله، لكن حتى من هم يبعدون عنه آلاف الكليومترات، وفعلاً كنت أشاهد تلك المحاضرة القيمة التي يلقيها شخص قد شاب رأسه في عبادة الله والتروحن وفهم دقائق الأمور الإيمانية ثم هو يعطينيها على طبق من ذهب، فأشاهد وأنا أشرب الشاي في غرفة دافئة، ليس هذا فحسب، وإنما سخر لنا الآخرين والبعيدين ممن طوروا لنا هذه التقنية وصنّعوا الحواسيب، فعبر الانترنت أشاهد، وهذا الانترنت وهذا الحاسب الآلي ربما يكون نتاج جهود أناس لا يؤمنون بالإله إصلاً، إنه فضلٌ عظيم ونعمة جليلة جداً.

متابعة قراءة عصر الطفرات الفكرية والروحية

الكلمة، وما أدراك من الكلمة

وصلتني اليوم رسالة تفيض بعبارات الشكر والامتنان، قالت أنها قرأت مقالة قديمة لي عن (الامتنان)، فرحت بتلك الرسالة، ثم تذكرت شخصاً آخر أريد أنا كذلك أن أرسل له برقية شكر، أعبر فيها عن امتناني وإعجابي بما كتب من نثر يذوب القلب بين سطوره وكلماته، لكن للأسف ليس شخصاً فيسبوكياً، ليس هنالك من طريقة لمراسلته عبر الشابكة (الانترنت)، ولا أعرف حتى عنوان سكنه.

لكن حتى لو عرفت، فلن أتمكن من مراسلته، أتدرون لماذا؟ لأنه قد غادر حياتنا الدنيا وانتقل للحياة التي طالما حلم بها وتحدث عنها، ولقد عشت أوقاتاً جميلة مع نثره ومقالاته، كم مرة خرجت تجاه المنتزه الجميل، وجلست تحت شجرة حنونة، ثم بدأت بقراءة ما كتب قبل 100 عام من الآن، فأندهش وكأني أقرأ لشخص معاصر يكتب في جدار الفيسبوك أو في مدونته الشخصية.

لقد شارفت على الانتهاء من قراءة أحد أشهر كتبه، كتابٌ أودع فيه أفكاره الجميلة وزفرات نفسه الرحيمة، كان الكتاب تعريفاً وافياً بشخصه، فما أن تفتح دفتيه حتى تعيد الحياة لصاحبه وتسمح له بأن يحدثك، ويسامرك، ويسر إليك بأسراره الخاصة، وأنت مع كل عبارة تسمعها منه وكل موضوع يحدثك فيه، أنت تزداد به إعجاباً وله حباً، فهو يقول كثيراً مما في نفسك لكن بتعابير بليغة يعجز لسانك أو قلمك عن الإتيان بمثلها.

تجربة رائعة تلك التي خضتها مع ذلك الكتاب، هو كتاب يحتوي على مقالات متفرقة، عبرت عن رؤية المؤلف للعالم، وعن أفكاره تجاه الحياة، بعضها قصير كقصاصات ورقية أو منشورات فيسبوكية، وبعضها طويلة تتراقص الكلمات الجميلة في سطورها ولا تمل أنت من طولها، إنها تشكيلة من أشهى الأفكار والخواطر والقصص الحقيقية والمتخيلة.

إنه كتاب (النظرات) لـ (مصطفى لطفي المنفلوطي).

ما أريد الإشارة إليه هنا، هو تأثير الكلمة، بقاؤها رغم اندثار جسد صاحبها، خلوده الذي يصنعه عبر الكتابة والنشر، حين يختصر كل حياته في صفحات ورقية وعبر كلمات متراصة، ولا يتم ذلك غالباً إلا في الشق الأخير من عمره، بعد أن تقترب التجربة الحياتية من كمالها، يتدارك الإنسان قرب رحيله وفنائه الدنيوي، فيحاول التشبث بأي قشة تبقيه على قيد الحياة، فلا يجد إلا الكتابة، فيبدأ بتحويل حياته المادية إلى مجموعة من الأفكار والخواطر والقصص، فيصيغ عالمه الخاص الذي تحدده كتبه وتحصيه أوراقه، فإذا ما غادر الحياة الدنيا، علم أنه ترك أثراً إليه، وخيطاً يوصل الراغبين في إحيائه، ليعود روحاً تسري بين السطور، فيصاحب من يريد مصاحبته، ويتحدث لكل من يقرأه.

الكلمة، وما أدراك ما الكلمة، هي سبيل الخلود وبوابة المجد.

إقامة جديدة… فرصة جديدة

أبشركم يا أصدقائي، لقد حصلت على إقامة أخرى لسنة جديدة.

لقد غمرني السرور، وامتلأ قلبي بالبهجة، وعدت للمنزل كطير يخرج من قفصه.

حصل هذا قبل أيام، حين ذهبت لمصلحة الجوازات لاستلام الإقامة، كانت هذه هي الزيارة الثالثة لهم، الأولى للتقديم، الثانية للتنفيذ، والأخيرة للاستلام، كلها في شهرٍ واحد، شهر من كل سنة.

نعم أنا مقيم يا سادة، لست من أهل هذه البلاد، ولأني كذلك، فيجب علي أن أقدم الأوراق وأنتظر في الطوابير وأدفع مبلغاً من المال كل سنة، حتى أحصل على إذن يسمح لي بالإقامة هنا.

حتى أنتم ..!

أنتم مقيمون كذلك وإن كنتم في أوطانكم، نحن جميعاً في إقامة في هذه الأرض، وكل سنة تتاح لنا فرصة جديدة للإقامة حيث نقيم، أياً كان محل إقامتنا، الفرق بيني وبينكم (يامن تقيمون في أوطانكم) أن هنالك محطة سنوية (هي موعد تجديد الإقامة) تذكرني دائماً وتقرع رأسي، تذكرني أن سنة كاملة قد انقضت، تذكرني (عبر التاريخ المدون) بأنني قد أُعْطِيت مهلة أخرى، كي أنجز، وأحقق، وأعمل.

إن كنت تسكن في وطنك، فللأسف ليس لك هذا الامتياز، ليست لك هذه المحطة السنوية التي تحثك على الخطى وتدفعك للجد، ليس ثمة تاريخ انتهاء مدون في بطاقة أو في جواز سفر، في حين أن هنالك تاريخ انتهاء حقيقي لكل واحدٍ فينا، لكنه غير مدون، ويفترض بك أن تؤدي عملاً رائعاً وتبلي بلاءً حسناً خلال هذه الفترة، فترة إقامتك في هذه الحياة.

لكن ماذا عن المال الذي أدفعه أنا، ولا تدفعه أنت؟ سأجيبك وأقول: الله هو الملك والمالك، وهو المعطي والمانح، هو من يتكفل بمصاريف الإقامة (مِن وإلى)، سواءً ما أدفعه نقداً لشباك التحصيل، أو ما أدفعه للبقالة والسكن، لقد حصلت على وعد منه سبحانه (كما حصلت أنت)، أليس هو القائل (وفي السماء رزقكم وما توعدون)، أعلم أن هنالك بلداناً تفرض أموالاً طائلة نظير هذه الإقامة (كان الله في عونهم) لكن لا قلق عليهم ما دام الله موجوداً، لا قلق مادام باب الدعاء والطلب مفتوح لا يغلق، ومن لم يتمكن، فأرض الله واسعة، والله يعين كل من عزم وتوكل.

في كل سنة، وبعد أن استلم الإقامة، يزايلني شعورٌ فريد من مشاعر (السعادة) فهنالك -كما تعلمون- أنواع كثيرة من (السعادة) لكن للأسف قاموس اللغة لا يتسع لها كلها، وقد ذقت -بحمد الله- أنواعاً جديدة حين استقر بي الحال في هذه البلاد، ومن هذه الأنواع (السعادة التي تأتيك فور استلام الإقامة).

هذه السعادة مرتبطة بالأمل الذي يرتسم أمامك حين تعطى فرصة جديدة للعمل والإنجاز، لا أنكر أنها ناشئة أيضاً من استكمال الاجراءات دون إعاقة، ومن توفر المال دون مشقة، لكن الباعث الأهم هو (الفرصة)، ويمكن أن نشبهها بشعور السعادة الذي ينشأ فور نجاتك من موت محقق، لأنك حينها ستعطى (فرصة) جديدة للحياة، ولو سألت أحد الناجين عن شعوره بعد النجاة، لأخبرك أن قلبه قد تحول إلى عصفور يطير من فرط السعادة.

طبعاً الفرق كبير بين سعادة النجاة من الموت، والحصول على الإقامة، لكنها من نفس النوع والصنف، وهنالك سعادة أخرى أصغر منهما هي من نفس النوع أيضاً، وهذه -لحسن الحظ- يمكن للجميع تذوقها، من يعيشون في بلدانهم ومن هم مغتربون عن أوطانهم، إنها السعادة المنبعثة من معجزة الفجر، ومطلع الصبح.

تطلع الشمس كل يوم بعد أن أكملت الأرض دورتها اليومية، تشرق الشمس على الأرض كما تشرق على قلوب البشر، تعيد لهم الأمل والنشاط والقوة، هنلك صبح جديد يولد في رحم الكون، هنالك فرصة أخرى تتاح للإنسان، هنالك إقامة جديدة ليوم كامل تتاح لك بالمجان، فإما أن تصحو حين يصحو العصافير، وتملأ قلبك من رحيق الحياة، فتنطلق بطاقة الفجر، وتعمل ما يمكن عمله، وتنجز ما يمكن إنجازه، وإما أن تفوتك معجزة الفجر، فتنام والأرض تصحو، وتغفل بينما الأرزاق توزع.

هنالك إقامة لسنة كاملة، وهنالك إقامة لشهر كامل، وهنالك إقامة لأسبوع (تستلمها بعد صلاة الجمعة) وهنالك إقامة جديدة كل يوم، ونصيحتي لك، أن تبكر ثم تصلي ثم تخرج وتمضي باتجاه النور، فتشهد بزوغ الشمس، وتحصل على ختم الإقامة المجانية، وهو ختم بدون حبر، تطبعه الشمس على جبينك في أول ظهورٍ لها.

أنا أنقرض … وأنت كذلك

تأمل فيني ونظر إلى جسدي النحيل وقال: جسمك ينحل يا أبتي
أجبته: إني أنقرض يا بني

– لا تقل هذا

– فعلاً، أنا أنقرض، وأنت كذلك، وكل إنسان في هذه الحياة، كل يوم يمر يأخذ من أعمارنا شيئاً يسيراً، نحن ننقرض بفعل الزمن، مع كل إشراقة صباح نقترب أكثر نحو نهايتنا المحتومة، إن لم أكن في سبيل الانقراض الجسدي، فأنا في سبيل الانقراض العمري.

كان ذلك حواراً عابراً، لكن ما ليس بعابر، ما يبقى في الذهن على الدوام، يقرع طبلة الوعي كل ما صفى لي فكر أو تاه عقلي في تأمل، هو ذلك الشعور بأن العمر يتفلت من بين يدي، هو أنني قد اقتربت من سن الأربعين، أن أحلامي الكثيرة وأهدافي العديدة لاتزال قابعة في صالة الانتظار، لا تدري متى يأتي دورها،،، أو هل يأتي أصلاً.

الحياة مركب عظيم، مركب في بحر الزمان والمكان يقودك في رحلة عظيمة، رحلة تكوين إنسان وتشكيل وعي ونضوج روح، وخلال هذه الرحلة أنت مطالب بالعمل، العمل الصالح تحديداً، مع الإيمان طبعاً، لذلك، فبقدر الإمكان … اعمل، أنجز كلما سنحت الفرصة، أكمل عملك كي تنتقل سريعاً للعمل التالي، للمشروع التالي، للفكرة التالية، استغل وقتك واستثمره بشكل أفضل، أيامك معدودة، حياتك محدودة، مركبك يمر وسط بحر الزمكان لا يتوقف أبداً، كانت بدايتك قبل سنوات عديدة، وقد وصلت إلى ما وصلت إليه واكتسبت ما اكتسبه، سخر ما معك من موارد (صحة + وقت + خبرة + مال) في العمل أكثر والإنجاز أفضل، استمر وسابق رحلة انقراضك.

نعم أنا أنقرض، وأنت وهو وهي وكلنا نسير في رحلة الانقراض هذه، صحيح أن جسمي قد نحل ووزني قد خف، كذلك هو عمري قد قصر ووقتي قد صغر، وليس المهم هنا هو انقراض الجسد، ما دمت في صحة جيدة، المهم هنا هو عمرك الذي ينقرض شيئاً فشيئاً، زمانك الذي يقل تدريجياً مع كل مساء وصباح، كن على وعي بذلك، ولا تضيع وقتك الثمين.

اعمل ثم اعمل ثم اعمل
(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)

لا تقارن حقيقتك بوهمهم

فوق كتلة إسمنتية تطل على البحر، جلست أنا وصديقي نتذوق حلاوة المنظر، أمسكت الهاتف والتقطت صورة ثم رحنا نتأملها سوية، نظر إليها وقال مفكراً؛ لو أني نشرت هذه الصورة في حسابي في الفيسبوك، لتمنى الناس أن يكونوا مكاني، سيعتقدون أنني أتجول سائحاً في هذه البلاد وأعيش على هرم السعادة، لن يعرفوا أن ما أتى بي إلى هنا ليس سوى المرض، مرض الزوجة الذي ما وجدت له دواءاً في بلدي، فأتيت إلى هنا ألتمس الدواء، قد يعتقد من يشاهد هذه الصورة الجميلة أن قلبي يحلق في أجواء السعادة، بينما الهم يقبع فيه، فما جئت لأبحث عنه عجزت أن أجده، وهائنا أصل لنهاية رحلتي دون أن أجد الدواء، سأعود بالمرض الذي أتيت به، هذا الهم الذي أحمله لن يظهر لهم في الصورة، وعلة التواجد في هذه الأرض لن تكتب على واجهتها، سيشاهدون فيها الوهم وستغيب عنهم الحقيقة.

نعم، إنه الوهم، ما تشاهده عبر الصور -الثابت منها والمتحرك- ليس سوى الوهم، لكن المشكلة أنك تقارن حقيقتك بوهمهم، تقارن حياتك المترنحة ما بين فرح وحزن، وألم ومتعة، بتلك الأوهام التي تبنيها في عقلك كلما شاهدت صورة تنضح منها رائحة السعادة، أو تقارن حياتك بحياة تُعرض عليك عبر مقطع لا يُريك من الجمل إلا أذنه، تتحسر، تتمنى، ثم تسعى وتشقى، وقد كان يعفيك عن هذا كله؛ غض بصرك عن صورة قد تؤذي روحك.

في الغالب؛ الناس السعداء حقاً لا ينشرون صورهم على الشبكة، ليست قاعدة ولكن المنطق يقول؛ أن من يمتلك السعادة بالفعل لن يجد أي دافع لينشر صورته التي تظهر للناس سعادته، بينما العكس صحيح، من هو مدمن لنشر صوره التي تُظهره بأحسن حال وفي أفضل مكان، هو من يفقد السعادة، فهو يتلمسها بين حروف الشاكرين وانبهار المارين، فترتفع كلما زادت عدد اللايكات، وما أن تهبط في دهليز النسيان إلا ويسارع في نشر صورة أخرى ليحصل على جرعته التالية من تلك السعادة الزائفة.

هنالك آية في كتاب الله الكريم تشير إلى هذا المفهوم، يدعوك الله فيها أن تغض بصرك عن حيوات الآخرين وما فيها من تفاصيل، فكل حياة فيها ما فيها، ولا يعلم ما فيها سوى العليم.

(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) {131 طه}.

لا تمدن عينيك …

هذه الآية ينبغي أن تكون قاعدة ذهبية نسير بها في الحياة، وهي أشد أهمية في هذا العصر من أي عصر سابق، فقديماً، حين يفكر المرء أن يمد عينيه، قد يمدها لجاره، لصديقه، لشخص يلقاه في محافل المدينة، إن حالفه الحظ فقد يمد عينيه في اليوم بضع مرات، فهو محصور في مكانه مقيد بزمانه، أما اليوم، فما أسهل مد العين، ما أسهل أن تغوص في الصور وتشاهد ثم تشاهد ثم تشاهد، فإن مليت من الصور الجامدة، فهنالك من الفيديوهات والـ(فلوقات) ما يمتع ناظريك، أشخاص يعرضون لك أفضل أجزاء حياتهم، يصورون ساعات طويلة، ثم عبر برامج المونتاج، يقتنصون الأفضل والأحسن، زهرة الحياة الدنيا، ليهدوها إليك حتى تسلي بها وقتك، وأنت تشاهد في ملل، تتمنى … تتحسر ثم تسعى وتشقى.

لا تمدن عينيك …

ليست تلك سوى صور يختفي خلفها ألف ألم، ليست سوى مشاهد يقبع من ورائها ألف هم، لا تمدن عينيك كي تعيش سعيداً راضياً، لا تمدنها كي لا تتلاعب تلك الصور بالرغبة في قلبك، فتميل بك يميناً ويساراً، فساعة تريد هذا، وساعة تريد ذاك، لا تمدنها كي لا تغويك عن مسارك، فتصبح مشتتاً لا تدري ما تريد، لا تطيل النظر كي لا تطول حسرتك على وقتك المهدر.

لا تمدن عينيك، ولا تشغل الناس بمد أعينهم إليك.

خواطر شهر مارس 2020

أتنفس الحروف والكلمات، فساعة أشهق وساعة أزفر، أعيش على شراب الحبر، فساعة أرشف وساعة أعصر، أستنشق الأفكار والتجارب والرؤى، فتمتزج أفكارهم بخواطري، وتجاربهم بحكاياتي، وبديع كلامهم بعبير كلماتي، أقرأ ثم أقرأ ثم أقرأ، حتى لا أجد إلا أن … أكتب.

أكتب لاتنفس
أتنفس … لأكتب.

13- ما بين الفعل ورد الفعل

بسبب العزلة الذاتية وبقائي في المنزل مع الأولاد (بسبب جائحة كورونا)، صحوت اليوم وبدأت في ممارسة حياتي، ثم صحى الأولاد، ولأني كنت عندهم في المنزل، فقد كانت الطلبات تنهال علي، ذلك يريد أن ألعب معه، والآخر أن أصنع له طائرة ورقية، ثم طلبت مني بنتي الكرتون الصغير الفارغ الذي رأته في دولابي، وحين رءاها أخيها الأصغر أتى إلي وبدأ بالبكاء يريد كرتوناً آخر مثلها، ثم انشغلت بالبحث عن بديل ….الخ

وهكذا يمكن أن يستنفذ وقتي بالكامل في (الاستجابة لمطالب الآخرين)، أي أن تكون أفعالي هي عبارة عن (ردات أفعال) أو (استجابة خارجية) بدلاً أن تكون نابعة من الداخل من صميم أهدافي في الحياة، طبعاً أنا لا أقول أن لا نلعب مع أولادنا أو نقضي معهم بعض الوقت كل يوم، بل أنا ممن يهتم بقضاء بعض الوقت مع الأولاد ودخول عالمهم واللعب معهم، لكني أستدل هنا بهذا الموقف لما هو أكبر.

يقال (إذا لم تقم بتصميم خطة لحياتك، فمن المحتمل أنك جزء من خطة أحدٍ ما) وهذا صحيح إلى حد بعيد، فمن لديه فراغ في حياته فسيقوم الآخرون بملئه سواءً أراد أم لم يرد، لكني أريد أن أذهب لأبعد من هذه النقطة …

حتى عندما أكون وحدي في مكتبي بعيد عن الأولاد وعن أي مؤثر خارجي، أنا للأسف أستجيب للمطالب وأضيع جزء من وقتي فيها، لكن أية مطالب يا ترى ؟؟ مطالب النفس، حين أشاهد فيديو عشوائي في اليوتيوب أو أتصفح أقوال الناس في الفيسبوك أو أتجول بدون هدف في الانترنت، تلك هي مطالب النفس التي لا تفتأ تطلب وتطلب وتطلب، وأنت أمامها إما أن تكون جاداً وتنهاها ثم تؤدي الواجب عليك تأديته، أو تستجيب لمطالبها، مثلما تستجيب لمطالب أطفالك، بل أسوأ من ذلك، فعلى الأقل هنالك فائدة تربوية لأطفالك حين تستجيب لبعض مطالبهم، لكن هنا فأنت خسران خسران.

12- الإيمان تجربة روحية

ونحن نتحدث عن الدعاء أنا وأبنائي، أدلى كبيرهم بمداخلة وقال لأخته الأصغر منه “أنه في مرة من المرات شرب ماء زمزم ثم دعى الله أن يعطيه لعبة عبارة عن سيارة ذات جهاز تحكم عن بعد (ريموت) وبعد أسبوعين حصل عليها”. انتهى كلامه، ولم أسأله عن التفاصيل، متى وأين وكيف كان ذلك، لم أسأله أياً من ذلك، لأن المهم أن هذه البذرة قد نبتت في قلبه، بذرة الدعاء والإجابة، أول خيط صغير من روضة معرفة الله، أعلم أن الطريق أمامه طويل، لكني أحمد الله أنه قد أمسك بأول الخيط وهو في هذا السن.

إن أكبر وسيلة لتحصين أبناءنا وتقوية عقيدتهم هي أن نسهل عليهم أن يحصلوا على تلك التجاربة الروحية (الإيمانية) ولأنها “تجارب” فأنت غير قادر أن تلقحها إلى طفلك عبر الكلام، بل يجب عليه أن يخوضها بنفسه (أن يجربها) أما دورك (كأب أو أم) فهو أن تحكي له عن تجاربك الإيمانية، أن توضح له الطرق والسبل التي تسهل عليه المضي: فيعرف رحمة الله وقدرة الله وسمع الله لكل من دعاه، ويعرف ضعف الإنسان وحاجته للرحمن وغيرها من المعاني، لكن كل تلك المعرفة لا تعطيه تجربة، بل تسهل عليه الحصول على التجارب في الوقت المناسب حين يريد الله ذلك.

نحن لا نهدي أولادنا، الهادي هو الله، بل نؤدي الواجب علينا، نفتح لهم الأبواب ليسلكوا هم الطريق، لا يمكننا أن نحملهم نحن على ظهورنا ونمضي بهم في الطريق، لن يكون لهم بذلك تجربة خاصة بهم، تجربة إيمانية تحميهم من موجات الضلال التي ستتلقاها عقولهم حين يكبرون، وخاصة في هذا العصر المنفتح على كل شيء.

11- ثم تمضي إليه

عرفت شخصاً قبل سنوات، أتى إلى مصر ليسلك طريق النجاح وفتح شركة وتحقيق حلمه، أمضى الأشهر والسنوات وهو يكافح كي يستقيم أمرها لكن وكأنه يحرث على الماء، إلى أن أتى اليوم الذي قرر فيه أن يترك كل شيء ويعود لعمله السابق، والذي كان خطيباً في أحد المساجد في دولة أوروبية، فتخصصه الأصلي متعلق بالشريعة، لكنه أحب أن ينجز شيء، والآن وقد مرت على مغادرته عدة سنوات، أتتبع بعض أخباره وأعتقد أنه سعيد في حياته.

من تدابير الله ولطفه لبعض خلقه، أن يسد عليهم الأبواب، يخسرون هنا وهناك ثم حين يتعبون من كثرة السعي واللهث بعد الدنيا، يزهدون حينها في الدنيا ويبغون إلى ربهم سبيلا، فهو من حبه لهم يسد عليهم الأبواب، كي يتوجهوا إلى من أوجد الأبواب، إلى النور المطلق والحبيب الأول، وأي مطلب هو أعز من طلب وجه الأعز الأكرم.

بينما نجد أن الله قد يفتح لأناس في الدنيا، فينجحون ويكسبون ويصلون إلى مراكز مرموقة، ثم حين يكتشفون حقيقة الدنيا الخداعة ومتاعها الزائل، يغيرون وجهتهم ثم يسلكوا الطريق إليه سبحانه، وهذا ما حدث مع الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز.

وهكذا، كل إنسان له حال، وكل إنسان له ما يناسبه، والله يعلم كيف يجلبك إليه عاجلاً أم آجلاً، فقط عليك بالاستجابة حين تصلك الإشارة.

10- استعن بالصلاة، واستعن عليها بالصوم

الصلاة هي عماد الدين، هي التي تعينك على أن تكون الإنسان الذي تريد والذي تحب، هي التي تقوي صلبك وتشد من أزرك، لذلك يجب على كل فرد فينا أن يهتم كثيراً لصلاته، ويحاسب نفسه دائماً عليها، أن يعقد الاتفاقات مع النفس ويجري الحوارات معها، حتى تستقيم على أمر الصلاة، على إقامة الصلاة وليس مجرد أداءها بدون روح، أن تكون من المبكرين إلى المساجد، ومن الخاشعين، ومن الذاكرين بعد وقبل.

لكن الزمن صعب، والملهيات والمشتتات كثيرة وكبيرة، نعرف أن الصلاة عونٌ لنا، لكن يا ترى من يعيننا عليها أو على أنفسنا لإقامتها كما يجب، سأقول لك بكلمة واحدة –> الصوم، نعم إنه الصوم، جرب بنفسك دون أن أخبرك، صُم يوماً لله، سوف تجد أن نفسك أصبحت خفيفة ونشيطة للذهاب إلى المسجد ونشيطة لترك الذنوب وفعل الخيرات.

9- أن أصبح خفيفا، حياً وميتاً

مررت بمسجد وصليت فيه الظهر، ثم قدموا جنازتين وصلينا عليهما، احداهم كان رجلا نحيلا (ربما أنحل مني) فكان خفيفا سهلا في الحمل والتحرك، لم يكلفهم الكثير من الجهد.

انا بحمد الله نحيف الجسم نوعا ما (لكني صحيح)، وكم أتمنى أن أستمر خفيفا في جسدي، وخفيفا في طبعي كذلك، لا أثقل على أحد ولا أحرج أحداً، حتى إن علا شأني وتعددت مسؤلياتي، أستمر خفيفاً سهلاً قريب، أيضا عندما أكبر ويشيخ جسمي، أن تستمر خفتي المادية والمعنوية، فلا أكون مصدر إزعاج حتى إلى أشد الناس قرباً مني، أرجو من الله أن لا تخور قواي حتى لا أصبح كلاً على أحد، أحمل نفسي طيلة حياتي، والمرة الوحيدة التي أحمل فيها؛ هي عند المضي بي إلى قبري، أو ربما بدون هذه كذلك.

8- يوشك العالم أن ينقسم إلى نصفين؛ من يشاركون، ومن يشاهدون

وقعت اليوم على قناة يوتيوبية أجنبية لعائلة تشارك حياتها عبر اليوتيوب وتقتات من ورائها، لديهم 8 أطفال، لكن ليس هذا هو أغرب شيء، بل أن نصف أولئك الأطفال (الأكبر سناً) لديهم كذلك قنواتهم الخاصة بهم، وكلٌ على ليلاه يغني، كل واحد فيهم منشغل بعمل الفيديوهات، مقالب ويوميات وتحديات والكثير الكثير من إضاعة الأوقات.

ضحكت في نفسي وقلت، يوشك العالم أن ينقسم إلى نصفين؛ من يشاركون تفاصيل حياتهم عبر الانترنت، ومن يشاهدون تلك الحيوات، أصبح العالم غريباً جداً ويزداد غرابة، لا أدري إلى أين سنصل، لكن كل ما أعرفه أن الأمر غير مبشر، كل ما أعرفه أن لا أحد مستفيد من هذه العملية، لا من يشارك ولا من يشاهد، فأولئك وإن كسبوا بعض الدولارات، هم يفقدون ما هو أهم من المال؛ حياتهم وخصوصيتهم وراحة بالهم، أما المتفرجون فهم يفقدون أهم ما يمتلكون بعد صحتهم؛ وقتهم، ولعلي أشير هنا إلى فيديو نشرته مؤخراً يحكي بعض عجائب اليوتيوب. عموماً، كانت هذه مجرد ملاحظة ووضع لعلامة تعجب.

متابعة القراءة …

خواطر شهر فبراير 2020

من القرارات الجيدة التي عقدتها بداية هذه السنة، هي أن أكتب كل الأفكار والتأملات دون تأجيل، فلقد أدركت أني إن لم أكتبها في حينها، ولو في صيغتها الأولية، فسيصبح من الصعب علي إمساكها بعد ذلك أو تدوينها كما كانت مشرقة ناصعة حين الولادة.

ومن القرارات السيئة؛ أني قررت أن أكتب تلك الخواطر في جدار الفيسبوك، ذلك الجدار سيئ السمعة، من ينمي الرياء في القلب كما تنمو النبتة في فصلٍ ماطر، لذلك فقد قررت أن أكتب هذه الخواطر هنا في المدونة، بعيداً عن الزحمة، أن أكتبها طيلة الشهر حين ورودها في صفحة واحدة ثم أنشرها نهاية كل شهر، وبالتالي ستكون سلسلة شهرية لتدوين الخواطر الفكرية، كل صفحة بها خواطر وتأملات ما جاد به العقل طيلة أيام الشهر.

7- أحلامٌ مؤجلة

ولي أحلامٌ تنتظر حكم التنفيذ، لا هيَّ أعتقتني ولا أنا قادرٌ على التخلي، تتناوبُ عليَّ أطيافها، وتنعش القلب بالتذكير، فأجبر خاطرها بكلمتين؛ سيأتي يوم ولادتك المشهود، وسأعلن عن هذا بفرحة وسرور، سأخبرهم أن ربي كريم، لا يُضيع حلمَ حالمٍ منا، سيأتي يومٌ، سيأتي يوم.

6- التكلف عدو الاستمرارية

وقعتُ على مدونة أحدهم وتصفحت بعض ما كتبه صاحبها فيها، وجدت كلام من أعذب الكلام، وتدوينات رائعة الجمال، لكن صاحبها متوقف عن الكتابة منذ 2015، قد يكون السبب هو انشغاله بالحياة وطلب الرزق فيها، وقد يكون أمرٌ آخر، ثم عدت إلى مدونتي هذه فحدثت نفسي: وأنت يا عمر، متى هو يا ترى موعد هجرك للمدونة؟ حزنت، ثم فكرت وقلت في نفسي: حين تصبح الكتابة أمراً سهلاً وسريعاً، حينها يمكن الاستمرار لأنها لن تعيقني عن الحياة والإنجاز، لذلك فلا يجب أن أتكلف كثيراً أثناء الكتابة، ما أن تردني فكرة أو خاطرة أو فائدة إلا وأكتبها بشكل عفوي، لا يجب علي أبالغ في البناء اللغوي أو في المحتوى المعرفي، كي لا أمل ولا أترك …. إن التكلف عدو الاستمرارية، هوس الإتقان يمنعك من الاستمرار.

5- ثقافة القتل

في الأفلام السينمائية، المخرج هو الذي يتحكم بمشاعرك، فساعة يغدو القتل أمراً هيناً جداً، وساعة يصبح أمراً عظيماً وفعلاً شائناً إلى أبعد الحدود، تشاهد البطل وهو يقفز ويصارع الأعداء فيطرح ثلة عن يمينة، ويقضي على ثلة أخرى عن شماله دون أن يغمض له جفن ولا أن يتوقف أو يتردد أو يفكر، وأنت تمضي معه في رتم الأحداث، وكأن أولئك ليسوا سوى دمىً أو بشر آليين ليس فيهم أرواح ولا من خلفهم قصص وآمال وأسر وأطفال.

ثم في فيلم آخر، حين يريد المخرج أن يحرك مشاعرك ويكسب تعاطفك، تغدو الحركة أبطأ، والأحداث أكثر تفصيلاً، حتى إذا انطلقت تلك الرصاصة الغادرة وأصابت ذلك الشخص الذي يريدك المخرج أن تتعاطف معه، حينها ستتوقف الكاميرا طويلاً عنده، وليست كاميرا بلا كاميرات كل واحدة من زاوية، سيصور لك ألمه ومعاناته، سيأتي رفيقه وينزل دمعتين على خده، حينها سيغدو القتل في نظرك أمراً فادح السوء والوحشية.

لهذا السبب -وأسباب أخرى- لا أحب الأفلام التي توصف بأنها (أكشن)، وللأسف هذه الأفلام خطيرة على المجتمعات وعلى الإنسانية بأكملها، القتل لا يجب أن يصبح ثقافة سائدة وأمراً عادياً، يفترض بنا أن نعالج المشكلة في شاشاتنا أولاً، حتى نتمكن من معالجتها في واقعنا.

4- من يحبون الله

قرأت بعض كلام جلال الدين الرومي، وتأملت بعض أحوال الصوفية، ثم تأملت في المحب حين ينغمس في حب فتاة تأخذ قلبه، كيف يتغير حاله، يعيش معنا بجسده لكن لديه أحوال مختلفة، وقد يقدم على أمور لا يمكن أن نقدم عليها نحن، وقد يوصف بالجنون، بل أنهم وصفوا بذلك أشخاص (مجنون ليلى على سبيل المثال)، وهذا كله عندما يحب الإنسان إنساناً مثله، فكيف بمن يحب الخالق جل وعلى، حباً صادقاً لا ادعاءً، من الطبيعي أن تتغير أحواله، وقد لا نعي ما يمر به من أحوال، وقد لا نصدق أو ننكر عليه، والكثير من المحبين الحقيقيين لديهم أشياء غريبة وخوارق لكن لا يظهرونها للآخرين، فلن يفهم أحد، لن يفهم إلا من ذاق الحب الحقيقي، فهو أمر خارق للعادة، أن يحب الإنسان -بصدق- ربه.

نسأل الله أن يرزقنا حبه، وحب من أحبه، وحب كل عمل يقربنا إلى حبه.

3- وقت خروج الطيبين

وقت خروجهم هو الصباح الباكر، ألقاهم حين أركب قطار المدينة الذي يشقها نصفين، ويقطعها من الأول إلى الآخر، بعد الفجر، ووقت الشروق تسمع هديره يشق جدار الصمت، أركب فيه لأجد الرجال الحقيقيين، من يبكرون إلى أعمالهم ويعيلون أسرهم، وعادة ما يكونوا العمال الكادحين، والموظفين المغمورين.

حين أركب القطار باكراً، أجد صنف خاص من البشر، الصنف الذي تطمئن إلى الحياة بوجودهم فيه، فعلى الوجيه ترتسم ملامح السماحة، البعض منهم يمسك مسبحته ولا يفتأ يفرك حباتها بأصبعه، أخرون يحملقون في شاشة الهاتف وينهلون من معين الحقيقة (القرآن)، وحتى أولئك الذين لا يفعلون شيئا، يكفيهم فخرا أنهم من أصحاب البكور، ينامون مع اختفاء الشمس، ويصحون وقت ظهورها.

أحب أن أركب القطار باكراً، فهذا يعطيني طاقة كبيرة، ويبعث على نفسي السكينة، ويذكرني بأن أستمر في العمل، في السعي، في خوض هذه التجربة الفريدة؛ تجربة الحياة.

2- مجلس غِيبة داخل المسجد

قضيت مساء الأمس مع صديقي، لقيته في المغرب وجلسنا نصف ساعة نتحدث بينما كان المطر ينهمر، خرجنا فاشتهينا المشي على الأرض المبتلة بعدما توقف، وبعد مسافة ليست قصيرة، دخلنا مسجداً آخر لصلاة العشاء، وبعد الصلاة رأى صديقي ورقة مكتوبٌ عليها “لا تنسى نية الاعتكاف في المسجد” فاقترح علي أن نعتكف نصف ساعة في المسجد، نظرت إليه وابتسمت وقلت “ماذا نفعل في هذه النصف ساعة؟ نغتاب كما فعلنا بعد المغرب!”

لقد حدثني في المسجد بعد المغرب عن زوجته، كان يشتكي منها ومن أفعالها، في تلك الأثناء حين كنت أستمع له، لم أكن أدرك أنني كنت أستمع للغيبة، أنني كنت أرتكب إثماً، بل اعتقدت أني كنت أعمل صالحاً، بأني أفتح له قلبي ليبث فيه ما يريد، لكن ما كنت أجهله أن صورة سيئة عن زوجته قد انطبعت في عقلي اللاواعي بسبب ما سمعت منه.

هذه هي خطورة الغيبة بشكل عام، خطورتها في أنها تشكل الصور السلبية للأشخاص في العقل اللاواعي، فيتسرب الكره وبقية المشاعر السلبية إلى القلب ولو بالشيء اليسير دون أن تشعر، أو تقل مشاعر الحب والرأفة والرحمة لذلك الإنسان الذي تمت غيبته أياً كان، والمفروض أن يمتلئ قلب المؤمن بهذه المشاعر لا بتلك، فهي التي يرتقي بها ومعها في مدارج الكمال.

كأن الامتناع عن الغيبة هذا هو هدفه، يريد ربنا أن ترتقي أرواحنا، أن نتخلق -حقيقتاً- بصفاته، ولن يكون ذلك الا بصدق مشاعرنا وأحاسيسنا، والغيبة تقتل ذلك فينا.

إن الغيبة منتشرة جداً فيما حولنا، نتورط فيها كثيراً سواءً قائلين أو سماعين، ويجب على المؤمن أن يشدد الحراسة على لسانه وسمعه، وهذا هو تطبيق عملي لمفهوم “التقوى”.

1- إجري على رزقك إجري

اليوم دخلت المتنزه الكبير بعد أن أوصلت ابنتي إلى المدرسة، كنت ألبس المعطف وأضع الشال على رقبتي لتحميني من برد الشتاء، وحين دخلت وانفتحت روحي أمام المشهد الفاتن، بدأت بالركض، ركضت ولست أرتدي ملابس الجري أو الملابس الرياضية، وبدأت أردد مع نفسي “إجري … إجري على رزقك إجري“!

مع بداية هذا السنة، صرت أكثر تهاوناً في موضوع العمل الذي يدر المال، ذلك المصدر الأهم للدخل والذي أستعين به على مصاريف العيال، تولدت عندي قناعة -رغم معرفتي بذلك- بأن الأسباب هذه التي نقوم بها ليس لها علاقة بالرزق، لأن الرزاق هو الله، وكم من مرة سعيت وسعيت ثم خرجت صفر اليدين، وأحياناً يأتيني رزقي دون حيلة مني، قررت أن أمضي في عملي لكن على هون، وسأتوجه إلى ربي وأخلص له في العبادة.

في الحقيقية؛ هنا يقع منزلق شيطاني، فالرزاق هو الله لاشك في ذلك، لكن الأخذ بالأسباب هو طاعة لله كذلك، وطريقة الأخذ بالأسباب تختلف من شخص لأخر بحسب طموحه، وأنا من الناس الطامحين في ما أعتقد، فلدي أحلام وأهداف وأفكار كثيرة، والله هو من يحقق لنا آمالنا وهو من يوصلنا إلى أحلامنا لا شك، لكن الله يريد منّا أن نجتهد في العمل والطلب، كلٌ بقدر أحلامه.

أنا لا أقول أني تركت الأخذ بالأسباب، لكن همتي في العمل ضعفت، وتكاسلي قد زاد، في حين أن أملي لازال كما هو بأني سأصل يوماً لتلك الأحلام الكبيرة، أعني: الله سيوصلني إليها.

بالطبع سيوصلني الله إليها ولست أنا من يفعل ذلك، بل أني لا أمتلك زمام أهم عضو في جسمي والذي يمدني بشرايين الحياة، لكن بجانب هذا كله، يجب أن أتذكر أن الله قد وضع قوانين ونظام دقيق، نظام قائم على السببية، ويجب علي أن أحترم هذا النظام وأن أمشي في ركبه، طاعة له وليس للأسباب.

أهم شيء هو أن لا يطغى العمل على الخطوط الحمراء التي أضعها لنفسي لحراسة الإيمان، أن لا يسرق العمل من وقت ذكر الله، لأنه كما نعلم وكما قال الله في كتابه (ولذكر الله أكبر)، وذكر الله ليس فقط (سبحانه الله والحمد لله و…الخ) وإنما الصلاة وقراءة القرآن وذكر الله باللسان وبقية الأشياء المعروفة. إذاً يجب علي الاجتهاد في كلا الأمرين، في ذكر الله (الخطة الإيمانية) وفي العمل والأخذ بالأسباب (الخطة المعاشية)، والإيمان سيحمي القلب من التعلق بالأسباب أو النتائج.

المهم أني منذ اليوم -ان شاء الله- سأعود للجري، لن أكتفي بالمشي فقط، سأجري في طلب الرزق وفي إنجاز الأعمال وفي تحقيق التميز، سأخفف ساعات النوم وأستغل كل الوقت وأترك الملهيات ما استطعت إلى ذلك سبيلا (وأهمها الفيسبوك)، وهذا كله بجانب الجدية في ذكر الله، سأستمر في الجري، بجوارحي وقلبي، فنحن في دار العمل، في دار الجري.