معلومة صادمة من كندا

بالأمس عرفت معلومة صادمة عن كندا ، وجعلتني أزيد قناعة إلى قناعتي، وهي القناعة التي بُنيت خلال سنوات مضت، ولم تكن موجودة حين أتيت إلى مصر قبل عدة سنوات.
.
قدمت إلى أرض مصر قدوم استقرار مؤقت، كنت أطمح للسفر إلى الخارج، إلى العالم المتقدم (حسب وهمي) بل كنت أقول لصديقي مازحًا: يمكن أن تعتبرني صديقك الكندي من الآن، كان اعتقادي الساذج أن جمال الطبيعة لا يوجد إلا هناك، والتقدم الحضاري غير متوفر إلا عندهم، والحقيقة تقال، أن الحضارة عندهم بالفعل، لكن ليست الحضارة أهم شيء، يكفي أن تقرأ كتاب المفكر (بيجوفيتش): الإسلام بين الشرق والغرب، وأن تطلع على بعض أفكار الدكتور (عبدالوهاب المسيري) وأن تتقفى تجارب من عاش هناك، حتى تدرك إدراك اليقين أن الحضارة ليست أهم شيء، وأنك، كـ(فرد وزوج وأب)، تحتاج لأشياء أخرى أهم من الحضارة المادية.

متابعة قراءة معلومة صادمة من كندا

قبل فتح الإشارة بعشر ثواني

عشر ثواني فقط، هي المدة التي تبقت إلى أن تفتح إشارة عبور المشاة في الطريق السريع، الطريق نفسه الذي حصلت فيه حادثة قبل سنوات لشابين كانا يعبرانه فأتى طائشٌ بسيارته المسرعة، فمات الأول وأصيب الثاني، الآن أصبح لدينا إشارة لعبور المشاة تم تركيبها قبل سنة تقريبًا، صحيحٌ أنها ليست بقرب منزلي، لكني أتعمد أن أمشي إليها مرات عديدة من أجل أن (أسن سنة حسنة)، أن أعلم نفسي والآخرين أن هذا سلوكٌ حضاري، بل أنه سلوك (مصيري).

متابعة قراءة قبل فتح الإشارة بعشر ثواني

الشبسي الذي لم يعد يُعجِب

دار الجدال وحصل الخصام، والسبب كيس الشبسي، الأطفال يريدون (نكهات مختلفة) وأنا مُصرٌ على الشبسي العادي بالملح، وكم من مرة حكيت لهم عن أضرار تلك الألوان والنكهات الصناعية، فحين يقدمون لنا شبسي بطعم (الجبنة) فليس هنالك ثمة جبنة، إنما هي نكهة صناعية لا أدري من أي مواد كيمائية تم استخراجها، كما أن الشبسي أبو (كباب) لم يتم قليه في زيت مع سيخين كباب مثلاً، فكنت أخسر جولة ويكسبون أخرى، مرة أصر فأشتري لهم بالملح، ومرة ينتصرون فأشتري لهم بنكهة أخرى.

هذا المنشور يطرح نقطة مهمة، أنا هنا لا أعرض موقفًا عاديًا من مواقف الحياة، كما أني لا أتطرق لموضوع الصحة -رغم أهميته-، بل ما هو أكبر من ذلك، إنني أتحدث عن الـ(عادي)، عن حياتنا وكيف أصبحت مملة، وعن المنتجات التي تظهر بشكل مستمر بأشكال وألوان، عن الحياة العصرية والشركات الرأسمالية، عن الإنسان والجشع والقيمة والعمل الصالح، يمكن أن نستخدم (كيس الشبسي) كمدخل لعدة قضايا مصيرية.

قبل عشر سنوات تقريبًا، زارني أخي إلى بلد الدراسة، وقد تذوق حينها أول شريحة شبسي مقرمشة، وكم أُغرِم بها، كان يشتري تلك الأكياس بشكل يومي ولا يشبع من طعمها، بل أنه صرّح أنه يتمنى أن يسافر من بلده ويقيم هنا من أجل أن يأكل الشبسي كل يوم، فقد كانت متعته بهذا الطعم لا توصف.

فعلا طعم تلك الشرائح لذيذ، كان لذيذ ولايزال لذيذ، لم تكن الشركات حينها قد اخترعت فكرة (النهكات)، فما الذي تغير؟

انبثقت فكرة هذه المقال حين قالت ابنتي أن هذا الشبسي (العادي) ليس له طعم، لقد عاتبتني عتابًا شديدًا وكأني قد ألحقت بها عقابًا أليمًا، قلت في نفسي مندهشًا (بدون طعم!!)، قلتها وأنا أتذكر دهشة أخي من هذا الكيس نفسه، ثم جلسنا سويًا واقترحت عليهم أن نقوم بنشاط (التذوق)، أخذت الكيس من يدها وأعطيتها شريحة واحدة فقط، وأكلت أنا شريحة، ثم طلبت منها أن تغمض عينيها ثم تأكله ببطئ وتتذوق، فعلنا ذلك سوية، لقد أخذني الطعم إلى السماء وحلقت به فوق السحاب، وسألتها عن الطعم وعن شعورها، هل هو فعلاً (بدون طعم) فأجابت بالنفي، واذعنت لكلامي بعد أن أثبته بلسانها لا بلساني.

دعونا ننقتل لسؤالنا الجوهري: لماذا أصبحت الحياة بدون طعم، لماذا وهي المليئة بالبهجة والسرور والأشياء الجميلة التي تسهل حياتنا وتدعم مقامنا؟

لقد أصبحنا نمتلك من المقتنيات ما لم يحلم به أسلافنا لكننا أقل سعادة ورضى منهم، والسبب لأنه أصبح هنالك (نكهات أخرى)، حياتنا الجميلة أصبحت عادية (بدون طعم) لأن أصحاب الأموال يريدون المزيد، فأوهمونا أن هنالك أشياء أفضل (مما لا نمتلكه) ونكهات أخرى (مما لم نتذوقه) فأعرضنا عن الحياة البسيطة الجميلة وانطلقنا في سعي ليس له نهاية، لتحصيل تلك النهكات التي لا تُشبِع روح ولا تُرضي قلب، فانتشرت فينا الأمراض النفسية وتعددت الأزمات الحياتية.

لنعد إلى الوراء قليلاً، لنتذوق قطعة الشبسي العادية، لنغمض أعيننا ثم نوقض فينا الوعي ليكتشف ما فيها من لذة ومتعة، لقد وهب لنا الله حياة أصلية خالية من نكهات صناعية خادعة، شروقُ شمسٍ، بسمةً طفلٍ، ضحكة حب بين زوجين، ركعتين في جوف الليل، تسبيحٌ وتأملٌ وذكرٌ لله، الحياة لها طعم أصلي لا يقارن بأي شيء، نحتاج فقط أن نعود ونهدأ ونتأمل.

لقد بدأ الأمر حين قررت شركة (س) أن توسع مبيعاتها، أو حين ظهر المنافسون فاضطر الجميع أن يفكروا خارج الصندوق، فابتكروا النكهات الصناعية، وبالمثل حين ظهرت لنا شبكات وتطبيقات ثم ظهر المنافسون، كان لدينا فيسبوك ويوتيوب فظهرت تويتر ثم تكتوك، كلها منصات للمحتوى لكن بنكهات أخرى، ينتقل الناس فرادا وجماعات لتجربة نكهات جديدة، وكل نكهة تأتي بمضارها، والإنسان لا يشبع، يريد الجديد، يريد المزيد، وهو في سعي مستمر وفي شقاء متجدد.

وحش الاكتئاب وحصن الإيمان

سمعت رسائله في اندهاش، يحاول وصف ما لا يوصف، وإيصال مشاعر لم تُجرّب، لا ليست مشاعر، بل هو وحشٌ كاسر ليس له معالم، هو سواد سحيق في قاع الروح، إنه الاكتئاب، إنها هجمات الهلع (panic attack) ولقد سمعت عنها وقرأت، ويا للعجب مما قرأت، هي فعلاً هجمة شديدة لكن المشكلة أن الضحية لا يرى المهاجم، وإلا لكان نزالاً عادلاً وجهًا لوجه، فما هذه الهجمات وما هذا الوحش؟

لقد مرتتَ بظروفٍ صعبة لكن هنالك من مر بأصعب، صحيح أن الاكتئاب هو اختلال في بعض المواد الكيمائية داخل الجسم لكن هذه هي الأعراض، فما هي الأسباب، كيف وصلت إلى ما وصلت إليه، أين كانت أجهزتك الدفاعية وقت أن وقعت الأزمة، كيف تمكن الشيطان من الوصول إلى أعمق نطقة فيك (روحك).

سيثار استياء من هذا الكلام، فما دخل الروح في هذا المرض، ولماذا نلصق التهمة بالشيطان الرجيم، فالشيطان ليس من ضمن الأعراض التي في كتب الطب، لكن متى كانت الروح من ضمن قاموس الطب أصلاً، في حين أن الروح هي أصل أصيل في كينونة الإنسان ووجوده، والشيطان هو العدو اللدود للإنسان كما أخبرنا الواجد لكل موجود (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، لذلك، وهذه قناعة شخصية، أعتقد أن المهاجم في تلك الهجمات هو الشيطان، والخطورة أنك لا تستطيع رؤيته ومن الصعب رد هجمته.

إن ما يظهر من أعراض جسمية ليس سوى استجابة لحالة نفسية/روحية، وليس هنالك عيب في علاج المكتئب بالعقاقير لمساعدة جسده للعودة لوظائفه الطبيعية وبالتالي النهوض من جديد واكمال مشوار الحياة، لكن هل هذا كل شيء، هل علاج الأعراض يغني عن علاج المشكلة الأساسية؟

إذن، فما هو الجهاز الدفاعي الذي يمكن به مواجهة تلك الهجمات التي لا نعلم مصدرها، إنه الإيمان، تلك الكلمة المعروفة للجميع، لكن نقول أن الذي أصيب بالاكتئاب لم يكن مؤمنًا، لا، أنا وأنت وهو مؤمنون بحمد الله، لكن السؤال هنا: ما قوة إيماني وإيمانك، وهل هذا الإيمان قادرٌ على مواجهة خطوب الزمان ومصائب الدهر، ومن أجل تقريب الفكرة، تخيل الإيمان كأنه جدارٌ حاجز (لصد المعتدين) أنت تزيد من سمكه مع الأيام تدريجًا، وتحمي به نواة كينونتك (روحك) ولن تكتشف سماكة هذا الجدار إلا حين ترميك الحياة بالرزايا، حين تزيد المشاكل وتكثر الهموم، عندها يظهر إيمانك، هل هو قادرٌ على حماية روحك؟ هل هو قادر على صد الهجمات؟

الشيطان يتحين الفرص، والمعركة دائرة لا تفتر، تساعده الدنيا من الخارج وتسانده النفس من الداخل، يعمل ليل نهار لإلهائك عن مصدر قوتك، عن تلك الأنشطة اليومية البسيطة التي تضمن زيادة الإيمان في قلبك (زيادة سماكة الجدار) ثم حين تحين الفرصة، يهجم عليك مستعينًا بمصائب الحياة ومستفيدًا من ضعف الحصون فيصل إلى نقطة عميقة فيك لا يجب أن يتواجد فيها، فتظهر الأعراض الغريبة التي لا يمكن وصفها، ويستجيب الجسم وتتغير بعض مواده الكيمائية، فنقول حينها: اكتئاب.

وما هذا الحصن العجيب الذي سوف يحميني ويحميك من تلك الهجمات المسعورة، ما هو الإيمان؟ إن موضوع الإيمان هو مما يصعب شرحه، لكنه لا شك قوةٌ دافعة وحصنٌ منيع، وما يهمنا هو كيفية بنائه وتقويته، والحل بسيط يمكن تلخيصه في كلمة واحدة هي (الذكر) وهذه الكلمة تتفرع إلى ثلاثة أنشطة يومية هي (ذكر اللسان وتلاوة القرآن والصلاة)، أعلم أننا نصلي بحمد الله، لكن هل هي صلاة حقيقية تساهم في بناء الإيمان، أم هي عادة موروثة تكفل الجسد بأدئها قيامًا وقعودا، وحين نذكر الله، هل يغرد القلب مع اللسان ويسبح في ملكوت الله، و ماذا عن صلاة الفجر، ماذا عن وقت السحر، ثم أين نحن من قيام الليل، تلك العبادة التي فرضها الله على نبيه لأنه (سيلقي عليه قولا ثقيلا)، نعم، إن الحياة قد تصبح (حملا ثقيلا)، فإن لم يكن لديك إيمانٌ شديد يحميك فربما كنتَ الضحية القادمة لوحش الاكتئاب.

حقيقة أخرى يجب أن تكون واضحة، الإيمان يُبنى مع الأيام؛ الوقت عنصر أساسي في عملية البناء، لذلك نحن نقول أنها أنشطة يومية يجب أن نتشبث بها ولا نتساهل فيها، أي أنه من الضروري أن يكون لك وردٌ يومي لتلاوة القرآن (أو الاستماع له) بتدبر وحضور قلب، وأن نحافظ على صلاة الجماعة وصلاة الفجر على وجه الخصوص، وأن يكون لنا وردٌ يومي من ذكر الله والعقل حاضر غير سرحان، وأن نصلي في الليل حتى ركعتين ونأنس بمناجاة الله حتى دقيقتين، وكل يوم أنت تؤدي مهامك أنت بذلك تقوي إيمانك، وكل يوم تغفل عن ذلك إيمانك يضعف، وللأسف لن تكتشف قوته إلى حين تحل المصائب وتكثر المشاكل، حينها سيكون من الصعب الخروج من تلك الدائرة اللعينة.

الأمر قد يحدث لي أو لك في أي وقت، والحياة غير مضمونة، اليوم حياتك جيدة وأمورك طيبة، لكن لا تغتر بما لديك من أجدر أو أعمدة تستند عليها، قد ينهار أي عمود في أي لحظة، قد تفقد وظيفتك، قد تنقلب عليك زوجتك، قد وقد وقد، وحينها لن ينفعك إلا عمود واحد يمكن أن يصمد أمام كل شيء، لأنه ببساطة شيء خارج إطار الحياة ومتعالي عليها.

القلب المعلق بالله لا يضره شيء لأنه معلق بمن بيده كل شيء، الحياة كلها مجرد عوارض تظهر وتختفي، هو يسعى لما هو أكبر، فإن خسر عرضًا أو أعراض فلايزال الهدف الأهم أمامه يحلي بالأمل أيامه، وقد يكون صبره على تلك المصائب سبيلًا للوصل إلى حب مولاه، نحن بحاجة إلى حب حقيقي يذوب أمامه كل شيء، والسلم للوصول إلى هذا الحب هوالإيمان، والطريقة لبناء هذا السلم هو الذكر، والذكر هو أنشطة يومية تمارس على مستوى الجسد والفكر والقلب.

السبيل هو المجاهدة، لن تدعك الحياة بزحمتها ولا الشيطان بمكره أن تؤدي تلك الأنشطة كما يجب، إن هزمتَ نفسك بترك أريكتك المريحة وخرجت للمسجد فستجد الشيطان بالمرصاد يحاول صرف قلبك عن روح الصلاة (الخشوع) تحتاج للمجاهدة خارجيًا وداخليًا، الدنيا تغريك بالمشتهيات والسعي ورائها يلهيك عن المهمات، وعليك أن تجاهد وتكافح، هكذا ينبى الإيمان، أما حين تؤخر الصلاة لأنك مشغول، وتترك المسجد لأنك كسلان، أو تؤثر السهر على حساب صلاة الفجر، فهذا لا يبنى إيمانا، إنما نخادع به أنفسنا، وحين تأتي الخطوب يظهر الخبر.

وقد يقول قائل/ لقد اختزلت كل شيء في الإيمان، أين العمل الصالح الذي يتعدد ويتفرع، والذي هو الموصل لرضوان الله، والإجابة ببساطة أن الإيمان هو القوة الدافعة للعمل الصالح بجانب أنه الحصن المنيع، هو المبتدأ والمنطلق، ثم تأتي الأمور الأخرى من ورائه، ولعلنا نوضح الأمر أكثر في مقالة أخرى ان شاء الله.

إذن، الإيمان قد لا يشفي من الاكتئاب، لكنه يحمي من الوقوع فيه، وليس شرطًا أن يكون من أصيب بهذا المرض ضعيف الإيمان، ربما إيمانه قوي لكن لم يكن بالقوة الكافية التي تناسب ما مر به من خطوب وأحداث، لم يكن الحصن منيعًا ضد هجمات ذلك الوحش الكاسر المسمى (الاكتئاب).

لا تتوقع المعجزات بعد الدعاء

كان يعاني من مشكلة صحية ويدعو الله أن يشفيه، وحين اقترحت عليه أن يذهب لدكتور أو يجري فحوصات، رفض ودعى الله أن يشفيه دون ذهابٍ إلى دكتور وبلا أية فحوصات، فقلت له أن هذا لا يصح، ادع الله لكن لا تحدد عليه طريقة الإجابة، فليدبر الأمر كيف يشاء بحكمته، اطلب الصحة من أي طريقٍ أتت وبأي سبب قُدِّرت، إما عبر روشته طبيب، أو عبر حزمة أعشاب، أو حتى عبر الماء الذي تشربه، الله يفعل ما يشاء.

متابعة قراءة لا تتوقع المعجزات بعد الدعاء

شيخ يسمع الموسيقى

كتبت بالأمس 👇
(نحن بحاجة إلى:
شيخ يسمع الموسيقى
وموسيقي يحرص على الصف الأول)
ولم أفصّل في الأمر، فأثارت هذه الكلمات حفيظة البعض،
أعتذر من الجميع وأكفر عن خطيئتي بهذا المنشور الذي أتمنى أن يتسع له وقتكم.

أولاً/ كلمة (موسيقى) لا تعني (الأغاني) وكلمة أغاني لا تعني (كليبات) فالأغنية المصورة تتكون من ثلاثة عناصر:
1- العرض المرئي
2- الشعر المتغنى به
3- الموسيقى المصاحبة
ومحور حديثنا هنا هو عن أحد هذه العناصر (العنصر الخام)، عن آلات مصنوعة من الخشب أو المعدن، يتفاعل معها الإنسان ليصدر أصوات منسجمة.

ثانيًا/ لا يسايرني شك في أن الموسيقى (أو المعازف) هي من الأمور الحياتية المسكوت عنها، والتي ليست من المحرمات أو حتى المكروهات في الإسلام،

ولا يسعنى أن نناقش هذا الأمر لأن القول فيه لأولي العلم، ولكن، كل إنسان لديه ملكة التفكير والنقد، والانترنت سهل علينا الوصول إلى كل المعلومات والآراء، وأمامك الانترنت استمع لهذا وذاك واقرأ كل الأقوال والآراء، وستجد أن حجة من يحللون أقوى بكثير، واقرب إلى الفطرة وإلى روح الإسلام، وسوف تجد الكثير من العلماء في القديم والحديث ممن يؤيدون هذا الرأي وحتى من مطبخ السلفية نفسه (مثلاً فتوى الشيخ المغامسي عن المعازف:)

ثالثًا/ حين نقول أني أريد من الشيخ أن (يسمع) للموسيقى، فلا يعني كلامي أني أريد منه أن (يحب) الموسيقى، أو (يدمن) على الاستماع لها، بل أقول (يسمع)، فمن الطبيعي أن يكون شغف وحب العالِم العلم، وحب قارئ القرآن القرآن، وكل صاحب الفن يحب فنه.

بل أعني أن لا يكون لديه مانع من الاستماع للموسيقى، بل أن يستمع إليها في بعض المناسبات وبعض الأوقات،
بل أعني أن لا يكون لديه مانع من الاستماع للموسيقى، بل أن يستمع إليها في بعض المناسبات وبعض الأوقات،

نأتي الآن إلى تفصيل ما كتبت، فقد قلت (نحن) وتساءل أحد الأصدقاء مستنكرًا (من تقصد بـ”نحن”)

أنا أقصد العالم الإسلامي عمومًا، صحيح أني فرد صغير لا يهش ولا ينش، ومن أنا حتى أملي على الأمة ما تحتاج إليه وما لا تحتاجه، لكن في نفس الوقت لدي الحق الكلام والتعبير عن الرأي والمساهمة في إثارة الأفكار ونقد الواقع.

أما الشطر الأول، فنحن بحاجة لشيخ يسمع الموسيقى، وحين نجد أن معظم علماء ومشائخ الأمة لا يمانعون من الاستماع للموسيقى، فيعني هذا أن الفكر الديني قد تطور لدرجة جيدة، وأن بوارق النهضة قد لاحت في الأفق، لا أقول أن تحريم المعازف هو سبب تخلفنا، وأن كل مشاكلنا سوف تُحل حين نستمع للموسيقى، بل أقصد أنه مؤشر بأن عجلة الاجتهاد قد بدأت بالتحرك، وأن حركة التجديد قد لاح شمسها.

الأمر الآخر، أن الشيخ أو المفتي أو العالم، سيكون قريبًا من الناس، الناس العادية التي تستمع للموسيقى في البيت والشارع والمقهى، ومن المضحك أن البعض لايزال يحرم المعازف (نظريًا) بينما في الواقع قد أصبح كل شيء معجونا بها، وبدلًا من أن يشارك الناس الصالحين أصحاب الأذواق الجميلة في تشكيل الموسيقى وتوجيه الذوق العام نحو الأفضل، نجد أنه ببعدهم عنها، قد تركو المجال لغيرهم في توجيه الدفة، لذلك نجد أشكالا مزعجة من الموسيقى، أشكالًا تُصخِب بدلًا من أن تُطرِب.

حين يستمع الشيخ للموسيقى فهو ينقل رسالة مفادها أن هذا أمرٌ عادي، هذه الرسالة تنتقل لمجتمع المتدينين، وبالتالي يشارك هذا المجتمع الكبير الحراك الثقافي أو الفني، يشاركون في الاختيار والدعم، حينها سيجد من يقدم فنًا راقيا (وهنا أعني الأغاني على وجه التحديد)، سيجد جمهورًا يسمع له، سيتمكن من النجاح وبالتالي البروز والوصول للنجومية، وأنتم تعرفون أن النجم في واقعنا المعاصر هو من يقتدي الشباب به، ومن يساهم حقًا في تغيير المجتمع.

إلى متى نستمر في دس رؤسنا في التراب، نستمر في الهروب من مواجهة مشاكلنا، نستمر في غلق باب الفكر والتجديد على عقولنا ونتقوقع والعالم يموج من حولنا بالتغييرات التي قريبًا تطرق أبوابنا، بل أنها قد طرقت، ربما وأنت تقرأ كلامي الآن، قد ظهر لك -قبل دقائق- إعلان مليء بالموسيقى والمعازف، واستمعت إليه مضطرًا، لأننا أصلًا لا نملك قرارنا، فالانترنت من تطويرهم والموقع من تصميمهم والاعلانات من صنع شركاتهم.

وأما (الموسيقي) الذي أتمنى أن (يحرص على الصف الأول في المسجد) فهذا هو الأمر الطبيعي، هذا هو الأمر العادي لكل مسلم حقيقي، فأنا أريد أن أشاهد مجتمعًا مسلمًا طبيعيًا غير مصابًا بالانفصام في الشخصية، وأصدقكم القول أن أحد أسباب هذا الانفصام هو الجمود الديني الذي نعاني منه، فالموسيقي حين يقرر الدخول في عالم الفن هو يطلّق التدين أولاً حتى يرتاح ضميره، فالدين (كما يتوهم) يحرّم عليه الموسيقى، والموسيقى (كما يتوهم البعض) لا تجتمع مع القرآن في قلبٍ واحد.

بعض الأشخاص يحبون هذا المجال، يجد شغفه في الدق أو الضرب بالوتر، فهل تمنع هذا الشباب من هذا المجال الذي يحبه، لا، لكن الأصل أن تُبنى شخصية المسلم وفق أولويات واضحة وقيم ناصعة، ومن أهمها قيمة “ذكر الله” وأنها قبل وفوق كل شيء، فحين ينادَى للصلاة (والصلاة أعلى مقامات الذكر) يترك كل شيء ويذهب ليلبي نداء الله، فعلاقته بربه قبل وأهم من كل شيء، وهمه الأخروي أكبر من همه الدنيوي.

هذا الموسيقي الذي يحرص على الصف الأول، ويتلو كتاب الله، عندما يُدعى لحفلة فيها سفور وتبرج، حينها سيتذكر كلام الله (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) وحينها سيمتنع عن تلك الحفلة، أما إن كان مشهورًا ويشار إليه بالبنان، حينها ستضطر إدارة الحفل أن تغير وتعدل حتى تلبي متطلباته، وحينها أقول: مبروك، نحن نصنع مجتمعاً عفيفًا، بدون إرغام أو صدام.

هذا الموسيقي (أو المطرب) الذي يحرص على الصف الأول، وربما يتابعه الملايين عبر شبكات التواصل، سيقتدي به ألوف من الشباب، وحينها أقول: مبروك فقد تم تعزيز قيم الإسلام في نفوس الشباب بدون خطب أو مواعظ.

هذا المطرب الملتزم، سيكون ملتزمًا أيضًا بفنه، سيختار كلماته بعناية، وسيبحث عن كلمات تنشر الخير وتعزز القيم، وقد يصل فنه إلى العالمية، وينتشر إلى بقاع بعيدة ومجتمعات عديدة، وحينها سيتعرف ملايين الناس على الإسلام عبر بوابة الفن والموسيقى، وحينها أقول: مبروك، هاهو الإسلام ينتشر من تلقاء نفسه.

أخيرًا، أدعوكم لمشاهدة هذا المقطع (في أول تعليق) وسوف تتعجبون كما تعجبت أنا، عبارة عن فرقة غنائية من تايوان يؤدون -جماعيًا- مقطوعة بعنوان (ذكر)، يبدأونها بـ (حسبي ربي جل الله * ما في قلبي غير الله)

ويستمر الغناء حتى ينطلق صوت يخطف الأسماع من وراء الحشد وهو يقول (لا إله إلا الله).

ليسوا مسلمين، ولا يعرفون العربية، مع ذلك، فقد وصلت هذه الكلمات إليهم عبر قارب (الفن والموسيقى) والفن هو رسالة، من خلالها يمكن لمن أراد اكتشاف هذه الحضارة وما تكتنزه من جوهر ثمين يشع نورًا منذ 14 قرنًا، نور يكفي ليضيء العالم بأسره، لكن فقط حين نحسن الفهم والتصرف.

هداني الله وإياكم لأقرب مما نحن فيه رشدا.

السر في الموسيقى

ما هو السر في الموسيقى؟

لماذا ينتابك ذلك الشعور الخفي والنشوة الروحية الفريدة حين تستمع لمقطوعة فنية يجتمع فيها العازفون بآلاتهم، ويطرب لها الحاضرون بأسماعهم؟

دائمًا ما تثار هذه الفكرة في عقلي كلما استمعت للموسيقى الصافية الخالية من أي رتوش كلامية، وخاصة تلك السيمفونيات، مثل ما يبدعه محمد القحوم من مقطوعات تراثية (من أجملها المقطوعة التي تحمل اسم “ليل دان” والتي دمج فيها التراث اليمني بالمصري، رابط الفيديو في أول تعليق)

أتذكر حين انجذبت روحي لمعزوفة أحمد الشيبة -رحمه الله- تلك التي دمج فيها عدة أغاني يمنية من مختلف المناطق والمحافظات وصنع من ألحانها قطعة فنية باذخة الجمال، كم أعجبتني ولازالت.

وأنا أقول أن (روحي) هي التي تنجذب وليس عقلي أو سمعي، لأن الموسيقى هي من الأسرار الروحية التي يصعب علينا تفسيرها، وهي من خارج حدود العقل والإدارك، هي سر مرتبط بعالم آخر أكبر وأوسع يصعب على الإنسان المحدود تفكيك أسراره أو غور بحاره، لذلك هو سر كما أن الروح سر.

لربما أن السبب هو التناسق والانسجام، فلا بد لكل مقطوعة أن تتناسق أنغامها وتنسجم أصواتها، وهذا يصنع شيءاً جميلاً، والجمال لا يتعلق بالصورة فقط، ولا بالصوت وحدة، الجمال يمكن أن يأتي بصور مختلفة، صور مما يتسع له عقل الإنسان وما لا يتسع، والجمال هو مبدأ أساسي يظهر في جميع مخلوقات الله، لكن ما هو السر في الجمال يا ترى، إنه التناسق والانسجام.

﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾

نختلف في أشكالنا وألواننا، لكن يبقى الإنسان -بشكل عام- جميلاً، وحتى أولئك الذين لم يهبهم الله قدرًا كبيرًا من الجمال الظاهري، هم في موضع يصنع صورة جميلة، فالجمال يتعلق أيضاً بالزمن، فهو شيء رباعي الأبعاد -أو أكثر-، بمعنى أنك بحاجة لأن تتتبع حياة ذلك الشخص (الدميم) من الميلاد حتى الممات، ليس هذا فحسب، بل وتتتبع كل الآثار التي صُنعت بسبب وجوده، لتكتشف أن الصورة الكبيرة جميلة.

ويدعم رأيي هذا ما نجده من انجذاب وحب للأوركسترا (السمفونيات) والتي تعرّف على أنها (عبارة عن مجموعة من عازفي الأدوات الموسيقية، وغالبا ما تكون مجموعة كبيرة تضم ما يقارب المائة عازف لمختلف الآلآت الموسيقية بشتى أنواعها).

إذن هي مجموعة (كثيرة)، وهي آلات موسيقية (مختلفة) ورغم هذه الكثرة وهذا الاختلاف إلا أنها تتناسق جميعًا وتنسجم فيما بينها انسجامًا يرتبط طرديًا مع المتعة التي نحصل عليها، فكلما زاد الانسجام لِما يُعزف زاد الانجذاب لِما نسمع.

ألا يذكِّرك هذا بشيء
هؤلاء العازفون بآلاتهم المخلتفة ومهاراتهم المتنوعة، يجتمعون ليصنعون لوحة (صوتية) منسجمة؟
ألا ترى الانسجام داخل جسمك، أعضاء مختلفة وخلايا متنوعة كلها تعمل معًا في تعاونٍ وانسجام لتستمر الحياة العجيبة لهذا الكائن الأعجب.
انظر إلى السماء، اسأل عالم الفلك والفضاء، أو تأمل في عالم الذرات والإلكترونات، أينما وليت عقلك فستجد التصميم الدقيق والانسجام العجيب في جنبات هذا الكون، فلا تملك إلا أن تسبح الله على خلقه وإبداعه.

ثم منحك -أيها الانسان- شرف تجربة متعة الخلق، أن تصنع شيءاً جميلاً بنفسك، أن تبدع وتبتكر وتؤلف، وهذا كله بإذن الله ومدده الذي لا ينقطع، فهو الخالق والفاعل في حقيقة الأمر (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) وقد أذن لنا أن نصبح خالقين (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، وأنّا لهذا الخالق الصغير أن يظاهي الخالق الأكبر جل جلاله وتقدست أسماؤه.

أذن، عملية التأليف والأداء الموسيقي هي عملية خلق وابتكار، شيء جميل يُستهلك عبر الأذن، شيء مؤلف من أشياء متفرقة ومتناثرة، أصوات خام تطلقها الآلات عبر ملامسة الأصابع أو الشفاة أو حتى الأرجل، وإصدار الصوت الجميل من الآلة هو شيء فريد معقد في حد ذاته، فكيف حين يبدع العازف ليس في إصدار نغمة جميلة من آلته، بل في أن يجعل نغمته تلك تنسجم مع نغمات رفاقه ليصنعوا في نهاية الأمر قطعة فنية جميلة.

مثلما تتعاضد البروتونات مع الإلكترونات لتشكل الذرة، وتشكل الذرة مع غيرها من الذرات العناصر، ويتحد عنصر مع آخر ليشكل الماء، ثم يشكل الماء مع غيره من المواد هذه اللوحة الجميلة التي تسمى (الحياة).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ).

عصر الطفرات الفكرية والروحية

أنهيت مشاهدة محاضرة للشيخ محمد حسين يعقوب ضمن سلسلة (شرح مدارج السالكين) وقد تحدث عن (منزلة التفكر) ومما ذكره أن يتفكر الإنسان كيف سهل الله له الفائدة وسخر له خلقه ليكونوا سبباً في هدايته، ليس فقط ممن حوله، لكن حتى من هم يبعدون عنه آلاف الكليومترات، وفعلاً كنت أشاهد تلك المحاضرة القيمة التي يلقيها شخص قد شاب رأسه في عبادة الله والتروحن وفهم دقائق الأمور الإيمانية ثم هو يعطينيها على طبق من ذهب، فأشاهد وأنا أشرب الشاي في غرفة دافئة، ليس هذا فحسب، وإنما سخر لنا الآخرين والبعيدين ممن طوروا لنا هذه التقنية وصنّعوا الحواسيب، فعبر الانترنت أشاهد، وهذا الانترنت وهذا الحاسب الآلي ربما يكون نتاج جهود أناس لا يؤمنون بالإله إصلاً، إنه فضلٌ عظيم ونعمة جليلة جداً.

متابعة قراءة عصر الطفرات الفكرية والروحية

الخلود الغير بيلوجي عبر آلات التصوير

أفضل وسيلة للخلود الغير بيلوجي (الغير مادي أو جسدي) عرفها الإنسان منذ القدم؛ كانت الكتابة والتدوين، وهنالك وسائل أخرى مثل النحت والرسم وغيرها، فالإنسان يعرف أن جسده سيفنى، لكنه قادر على تمرير أفكاره وأخباره وقصصه إلى الأجيال القادمة، إذاً هنالك جزءٌ منه قادرٌ على الخلود الدنيوي، والوسيلة لفعل ذلك هي عبر الكتابة والتدوين.

متابعة قراءة الخلود الغير بيلوجي عبر آلات التصوير

صديقي الذي أخذ دوري في الطابور

سأحكي لكم قصة عجيبة شغلت تفكيري في الأيام الماضية، فكنت كلما أتذكرها أقول (فعلاً فعلاً) فما قصة هذه الــ (فعلاً)، أعيروني انتباهكم رعاكم الله، لأن العبرة منها مهمة.

سأذكر لكم أولاً موقف بسيط حدث قبل شهر، وستعرفون لاحقاً علاقته بالموضوع.

حين تسجل ابنك في المدرسة لأول سنة، فيجب عليك أن تتقدم إلى الإدارة التعليمية وتجري بعض الختومات وتسلم بعض الأوراق، وبداية كل سنة دراسية يحدث زحام في مكتب الوافدين في هذه الإدارة، لذلك نقوم بتنظيم أنفسنا، من يصل أولاً يسجل اسمه في ورقه وكلما وصل آخر سجل اسمه ثم ندخل بالدور إلى المكتب، وعادة ما يبكر المراجعون صباحاً لأخذ رقم متقدم، وهذا ما فعلته أنا، حيث وصلت هناك الساعة السابعة صباحاً في حين أن العمل في الإدارة يبدأ من الثامنة والنصف، لكن رغم تبكيري، كان هنالك اثنين قبلي، سجلت إسمي وانتظرنا جميعاً، ثم بعد ساعة ونصف، أدخلت الموظفة أول مراجع، ثم توقفت لتنجز بعض الأعمال المكتبية، وتأخرت كثيراً بينما نحن في الخارج ننتظر على أحر من الجمر، فهنالك من هو مرتبط بعمله ومن له مصالح أخرى ومن ومن ومن ….الخ

كان الدور علي، وكنت أقف خلف الباب مباشرة أنتظر إشارة الانطلاق، لكن فجأة ظهر رجل من حيث لا ندري واندفع داخلاً إلى المكتب، نويت أن أدافع عن حقي في الطابور بكلمات لطيفة لكنه لم يدع لي فرصة للتحدث، لم ينظر إلي أو يعير أحداً اهتمامه، حاول قلبي التماس العذر، فقد بدا وهو يلبس الثوب أنه جديد في هذه البلد، ولم يتعود الالتزام بالطوابير والنظام، لكن عقلي لم يطاوعني، وليس هذا بسبب أخذه لحقي في الطابور، فلن يضر من انتظر ساعات أن ينتظر دقائق إضافية، لكن أكثر ما غاضني هو التصرف نفسه، حين لم يحترم الآخرين الواقفين والجالسين.

المهم، هو موقف عابر من مواقف هذه الحياة، لم أكن لأذكره هنا لولا ما حدث قبل يومين.

اتصل بي قبل أمس أحد اليمنيين الذين أعرفهم، وطلب مني أن أحضر كي نساعد أحد اليمنيين الآخرين في إنجاز أمر من الأمور، لن أدخلكم في تفاصيل هذا الأمر كي لا أضيع وقتكم الثمين، لكن الشاهد هو أني حين وصلت وتعرفت على هذا الشخص، بدأنا نتجاذب أطراف الحديث، لم يكن وجهه غريباً علي، لقد رأيته سابقاً لكني لم أتذكر أين.

حكى لي هذا الأخ (صديق صديقي) عن أشياء كثيرة، ومما حكى لي أنه قد تعود أن لا يلتزم بالطوابير، دائماً يأتي مباشرة وينطلق صوب الباب دون أن ينظر إلى أحد، وأنه يتبع استراتيجية (التغاضي والتطنيش)، يصيح الناس ويعترضون فيتظاهر بعدم سماعهم أو عدم فهمهم، لقد تعود أن يُدخِل كلماتهم من أذن ويخرجها من الأذن الاخرى، فمهما يقولون من كلام فلن يضره الكلام بشيء، هو مجرد كلام، المهم أنه ينجز عمله بسرعة وبدون انتظار، ثم حكى لي بعض الشواهد، فقد قضى معاملة في المكان الفلاني بسرعة، وقد أنجز أوراقاً في المصلحة الفلانية في آخر الدوام دون انتظار، وقد وقد …الخ

ثم حكى لي أنه أنجز معاملة أولادة في الإدارة التعليمية دون أن ينتظر أي طابور، لقد أتى متأخراً ودخل مباشرة وفعل كما يفعل كل مرة، وفي هذه اللحظة، وأنا أنظر إلى وجهه، تذكرته يقيناً، وعرفت أنه الشخص الذي أكل حقي في الطابور، حين دخل قبلي وأثار حنقي وغيضي، فابتسمت وأخبرته بهدوء أنني كنت هناك وأنني الشخص الذي كنت واقفاً عند الباب.

لم تنتهي القصة هنا، وليست هذه هي العبرة.

المهم، انقضت أكثر من ساعة ولم يتم إنجاز ذلك الأمر الذي اجتمعنا من أجله، وهو أمر بسيط يتم إنجازه بالعادة في عشر دقائق، لكن كان هنالك (عرقلة) أو إعاقة من شخص آخر، ثم اتفقنا أن نلتقي في اليوم التالي (يوم أمس) لإتمام إنجاز ذلك الأمر (البسيط والسريع) وقد ذهبت في العصر إلى هناك، ثم حاولنا إنجاز الأمر، فظهرت مشكلة أخرى لم تكن في الحسبان، مشكلة بسيطة أعاقت إنجاز الأمر، ثم مر الوقت حتى انتهى الدوام وأغلق المكتب أبوابه دون أن يتم إنجاز الأمر، ورحلت وأنا منزعج، ثم تأملت في نفسي أثناء عودتي وقلت:

سبحان الله، هذا الأمر البسيط الذي لا يستغرق سوى بضع دقائق، كيف أنه قد تعثر في اليوم الأول، ثم اليوم الثاني كذلك، أكيد أن هنالك سر، ثم مباشرة لمعت الفكرة في رأسي، وعرفت ماهي الحكمة والدرس الذي ربما لم يفهمه هذا الأخ الفاضل، الرسالة التي وجهتها الأقدار إليه، لكنه لم يكلف نفسه لفتحها وقراءتها، فهو كما ذكرنا، يستخدم أسلوب التغافل والتطنيش، فغفل عن هذه الرسالة -كما كان يغفل عن أصوات المراجعين والمنتظرين الذين أخذ حقهم في الطابور-، وكأن الأقدار توجه له ولي وللجميع رسالة مفادها:

“يا أيها الإنسان المسكين، يا من يتحايل في الطوابير ليكسب من وقته ساعة أو ساعتين، هاأنت ذا تتأخر يوم ويومين، ولو جلست مع نفسك وتذكرت سجل حياتك، ثم تأملت كم مرة تعرقلت وتعثرت، كم مرة سعيت في طريق ثم فشلت، كم مرة ظهرت لك المشاكل من تحت التراب وأنت لا تدري ما هي الأسباب، إن الأسباب واضحة لكنك لا تراها، إنه القضاء العادل، تتحايل على عباد الله في أمور بسيطة، فتتحايل عليك الأقدار وتؤدي بك إلى عراقيل كبيرة.”

أريد أن أوجه رسالة لطيفة إلى هذا الأخ الكريم، الذي جمعتني الأقدار به صدفه، وقد لا نجتمع مرة أخرى، فقد رأيت أنه من واجبي أن أقدم النصح، وأن أستخرج الفائدة والعبرة من هذا الموقف لنتعض جميعاً ونستفيد.

أخي الكريم، حين عاتبتك على هذا الأمر قبل يومين، بررت لي موقفك بـ(أن الوضع ما يمشي إلا هكذا) وأن (هكذا هي الحياة وهذا هو الواقع).

لا يا أخي هذا ليس مبرر، نحن في اختبار في هذه الدنيا، لقد خلق الله الحياة والموت أساساً (لينظر أينا أحسن عملا) وتأمل أول سورة الملك وستجد الكلام واضحاً، لا تقل لي: هنالك من يتعامل بالوساطة وهنالك من يقدم الرشوة وهناك وهناك، أنت مكلف بنفسك يا أخي، الله يريد منك أنت أن (تحسن عملا) في كل شيء صغير أو كبير، سواءً كان في طابور في مصلحة حكومية أو في قضية أخرى كبيرة.

أريد أن ألفت انتباهك إلى نقطة: أن هذا الأمر (الحقير في نظرك) هو عظيم وخطير، لأنه متعلق بالعدل، والعدل أمر مهم جداً جداً، يكفي أن تقرأ في سورة الحديد قول الله (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الله يقول أنه أرسل الرسل من أجل أن يقوم الناس بالقسط، وكأن العدل والقسط هو الغاية والهدف من إرسال الرسل والكتب السماوية، أن تكون مقسطاً وعادلاً ولو على نفسك وعلى مصلحتك.

تخيل معي: لو أن موظفاً حكومياً أخذ إذناً بالتأخر مدة ساعتين في الصباح كي يذهب لإتمام أوراق ابنه في الإدارة، وقد وصل مبكراً جداً وانتظر مع البقية حتى يصل دوره، ثم أصبح الوقت المتبقى هو ما يكفي بالكاد ليتم معاملته ويعود إلى عمله قبل انقضاء وقت الإذن، فأتيت أنت ودخلت مباشرة وتجاهلت الكلام والصياح، فتمكنت عبر مهاراتك الذكية أو عبر كلامك المعسول، أو حتى عبر فلوسك التي تدسها خلسة في يد الموظف، تمكنت من الدخول قبل الجميع، فسببت في تأخر الآخرين ربع ساعة كاملة، ثم أتى دور هذا الموظف وانتهى وعاد إلى عمله لكنه كان قد تأخر ربع ساعة (هي التي سرقتها أنت من وقته)، ثم وصل وكان المدير غاضباً، فعاقبه بخصم قسط من راتبه.

أرأيت، كيف يمكن لهذا الفعل الصغير أن يُحدِث هذا الأثر الكبير، فهل تكون بهذا قد أكلت بعض ماله وتسببت في ظلمه، قف مع نفسك وتأمل، واقرأ ما يسمونه بــ (تأثير الفراشة) كي تعلم أن هذا ممكنٌ وقوعه.

المهم، كانت هذه كلماتي التي اعتلجت في صدري، أطلقتها لمن أراد أن يعتبر من هذا الموقف البسيط، فقد جعلني الله شاهداً على بعض أقداره وحكمته، وإني لأتعجب وأستمر في التعجب، وأقول في نفسي (فعلاً فعلاً) حين أتأمل هذا الموقف: تجازوني شخص في الطابور وأخذ حقوق الرجال والنساء الواقفين، ثم إذا بي أقابله بعد شهر وأشهد كيف تعرقلت في وجهه معاملة بسيطة، معاملة ينجزها الناس في ربع ساعة، فأخذت منه ثلاثة أيامٍ كاملة.

تحديث/ ثم التقيت به في اليوم الثالث لإكمال المعاملة، ويا للعجب كيف ظهرت عرقلة جديدة من تحت التراب، حاولنا وذهبنا وعدنا وترجينا الموظفين لكن دون جدوى، ثم في آخر الوقت، بعد أن كدنا نستسلم لليأس، همست في أذنه ونحن ننتظر، وقلت: دعنا نتوب أنا وأنت في سرنا ونستغفر الله بصدق علّ الله يقضي حاجتك وننهي هذا الأمر الذي طال وأرهق أعصابنا، فتبنا إليه واستغفرناه، فانفرجت الكربة، وانحلت المسألة، وتم الأمر على خير ما يرام، فلله الحمد والمنة، كم نتعلم من دروس في هذه الحياة، وكم يربينا عبر المشاكل والمصائب، ونسأله تعالى أن يبصر قلوبنا لعيوب أخلاقنا، وأن يهدي عقولنا لمعرفة رسائله إلينا، إنه عظيم كريم.