السر في الموسيقى

ما هو السر في الموسيقى؟

لماذا ينتابك ذلك الشعور الخفي والنشوة الروحية الفريدة حين تستمع لمقطوعة فنية يجتمع فيها العازفون بآلاتهم، ويطرب لها الحاضرون بأسماعهم؟

دائمًا ما تثار هذه الفكرة في عقلي كلما استمعت للموسيقى الصافية الخالية من أي رتوش كلامية، وخاصة تلك السيمفونيات، مثل ما يبدعه محمد القحوم من مقطوعات تراثية (من أجملها المقطوعة التي تحمل اسم “ليل دان” والتي دمج فيها التراث اليمني بالمصري، رابط الفيديو في أول تعليق)

أتذكر حين انجذبت روحي لمعزوفة أحمد الشيبة -رحمه الله- تلك التي دمج فيها عدة أغاني يمنية من مختلف المناطق والمحافظات وصنع من ألحانها قطعة فنية باذخة الجمال، كم أعجبتني ولازالت.

وأنا أقول أن (روحي) هي التي تنجذب وليس عقلي أو سمعي، لأن الموسيقى هي من الأسرار الروحية التي يصعب علينا تفسيرها، وهي من خارج حدود العقل والإدارك، هي سر مرتبط بعالم آخر أكبر وأوسع يصعب على الإنسان المحدود تفكيك أسراره أو غور بحاره، لذلك هو سر كما أن الروح سر.

لربما أن السبب هو التناسق والانسجام، فلا بد لكل مقطوعة أن تتناسق أنغامها وتنسجم أصواتها، وهذا يصنع شيءاً جميلاً، والجمال لا يتعلق بالصورة فقط، ولا بالصوت وحدة، الجمال يمكن أن يأتي بصور مختلفة، صور مما يتسع له عقل الإنسان وما لا يتسع، والجمال هو مبدأ أساسي يظهر في جميع مخلوقات الله، لكن ما هو السر في الجمال يا ترى، إنه التناسق والانسجام.

﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾

نختلف في أشكالنا وألواننا، لكن يبقى الإنسان -بشكل عام- جميلاً، وحتى أولئك الذين لم يهبهم الله قدرًا كبيرًا من الجمال الظاهري، هم في موضع يصنع صورة جميلة، فالجمال يتعلق أيضاً بالزمن، فهو شيء رباعي الأبعاد -أو أكثر-، بمعنى أنك بحاجة لأن تتتبع حياة ذلك الشخص (الدميم) من الميلاد حتى الممات، ليس هذا فحسب، بل وتتتبع كل الآثار التي صُنعت بسبب وجوده، لتكتشف أن الصورة الكبيرة جميلة.

ويدعم رأيي هذا ما نجده من انجذاب وحب للأوركسترا (السمفونيات) والتي تعرّف على أنها (عبارة عن مجموعة من عازفي الأدوات الموسيقية، وغالبا ما تكون مجموعة كبيرة تضم ما يقارب المائة عازف لمختلف الآلآت الموسيقية بشتى أنواعها).

إذن هي مجموعة (كثيرة)، وهي آلات موسيقية (مختلفة) ورغم هذه الكثرة وهذا الاختلاف إلا أنها تتناسق جميعًا وتنسجم فيما بينها انسجامًا يرتبط طرديًا مع المتعة التي نحصل عليها، فكلما زاد الانسجام لِما يُعزف زاد الانجذاب لِما نسمع.

ألا يذكِّرك هذا بشيء
هؤلاء العازفون بآلاتهم المخلتفة ومهاراتهم المتنوعة، يجتمعون ليصنعون لوحة (صوتية) منسجمة؟
ألا ترى الانسجام داخل جسمك، أعضاء مختلفة وخلايا متنوعة كلها تعمل معًا في تعاونٍ وانسجام لتستمر الحياة العجيبة لهذا الكائن الأعجب.
انظر إلى السماء، اسأل عالم الفلك والفضاء، أو تأمل في عالم الذرات والإلكترونات، أينما وليت عقلك فستجد التصميم الدقيق والانسجام العجيب في جنبات هذا الكون، فلا تملك إلا أن تسبح الله على خلقه وإبداعه.

ثم منحك -أيها الانسان- شرف تجربة متعة الخلق، أن تصنع شيءاً جميلاً بنفسك، أن تبدع وتبتكر وتؤلف، وهذا كله بإذن الله ومدده الذي لا ينقطع، فهو الخالق والفاعل في حقيقة الأمر (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) وقد أذن لنا أن نصبح خالقين (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، وأنّا لهذا الخالق الصغير أن يظاهي الخالق الأكبر جل جلاله وتقدست أسماؤه.

أذن، عملية التأليف والأداء الموسيقي هي عملية خلق وابتكار، شيء جميل يُستهلك عبر الأذن، شيء مؤلف من أشياء متفرقة ومتناثرة، أصوات خام تطلقها الآلات عبر ملامسة الأصابع أو الشفاة أو حتى الأرجل، وإصدار الصوت الجميل من الآلة هو شيء فريد معقد في حد ذاته، فكيف حين يبدع العازف ليس في إصدار نغمة جميلة من آلته، بل في أن يجعل نغمته تلك تنسجم مع نغمات رفاقه ليصنعوا في نهاية الأمر قطعة فنية جميلة.

مثلما تتعاضد البروتونات مع الإلكترونات لتشكل الذرة، وتشكل الذرة مع غيرها من الذرات العناصر، ويتحد عنصر مع آخر ليشكل الماء، ثم يشكل الماء مع غيره من المواد هذه اللوحة الجميلة التي تسمى (الحياة).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ).