مراجعة كتاب/ كلبي الهرم كلبي الحبيب

شعر برغبة قوية بالكتابة، الكتابة جعلته يشعر بالتحسن، بدنيًا ونفسيًا، كان يستعد للرحيل، لكن الكتابة أعادت له رمق الحياة الأخير، إنه أسامة الدناصوري في كتابه هذا الذي وثق فيه سيرة حياته، مقتطفات من أيامه وبعض أفكاره، بلغته السهلة المريحة، وقفشاته التي تعكس روحه الجميلة، لقد بدأ بالكتابة في أبريل 2006، وانتهى منه في آخر العام، ثم توفاه الله في الشهر التالي، لقد أمده الله بضعة أشهر حتى ينهي كلماته الأخيرة، ويحول حياته التي علم بها المقربون فقط، إلى كلمات يقرأها الأبعدون أيضًا، فيأخذ كل قارئ منها ما يأخذ، أما أنا فإني قد أخذت العبرة ودلوًا كبيرًا من شعور الامتنان.

لله في خلقه شئون، يخلق هذا صحيحًا معافى، وهذا مريضًا منذ الصغر، وقد كان أسامه كذلك، بدأ المرض معه مذ كان طفلًا رضيعًا، كانت معاناته مع المسالك البولية، ثم انتقلت إلى الكلى حين توقفتا عن العمل، فأصبح مريض فشلٍ كلوي يغسل في الأسبوع ثلاثة مرات، تعلمت في هذا الكاتب الكثير مما كنت أجهله حول مرضى الفشل الكلوي، حول معاناتهم وصعوبات حياتهم، حتى أنك تخجل أن تقول أن في حياتك (صعوبات) بعد هذا الكتاب، وتستشعر حجم النعم الكبيرة التي أحاطك الله بها من كل جانب، منها نعمة الصحة، والتي تتفرع إلى نعم صغيرة، منها نعمة (الكلى) هذه التي لا تلقي لها بالاً، تعمل منذ سنوات طويلة دون عطلٍ أو خلل، قد لا تلتفت إليها إلا في حالتين، إن أصيبت بخلل أو حين تقرأ هذه السير وهذه التجارب، وقس على ذلك البقية، نعمة القلب النابض، نعمة الرئتين التان تشهقان ليل نهار، نعمة الكبد والطحال والمعدة و…الخ

قرأت قبل ذلك كتاب (أنا قادم أيها الضوء) لمحمد أبو الغيط رحمه الله، والذي أصيب بمرض السرطان، وكتب كتابه في أيام مرضه، ثم مات بعد أن أكمل آخر كلماته بأيام أو أسابيع، وقرأت كتاب (سأكون بين اللوز) لحسين البرغوثي الذي أصيب بالسرطان كذلك وكتب آخر كتابه وهو في رحلة العلاج، فغادر بعد إتمامه، وإني أتأمل في هذه المقادير التي جرت مع هؤلاء، حين قرروا أن يتركوا لنا عبرة قبل الرحيل، أمد الله في أعمارهم حتى أكملوا مشاريعهم، ثم غادرونا، فكأن هذه الكتب تصرخ فينا وتقول: اشكروا الله على ما أنتم فيه من نِعم، انطلقوا في ربوع الحياة ببهجة وتفاؤل، استغلوا كل لحظة تمر عليكم في عافية، اعلموا الصالحات ولا تتكاسلوا فإن العمر قصير والفرصة متاحة، وبعد قليل لن تكون كذلك.

إن في قصة حياة الأخ أسامة عبرة لمن يعتبر، ففيها الكثير مما يستحق التأمل، فقد كان صريحًا جدًا صادقًا جدًا، كتب عن نقاط ضعفه قبل قوته، كتب عن سيئاته قبل حسناته، عرض لنا واقع حياته كما هو بدون ترقيع أو تلميع، فقد حكى لنا عن تقصيره في الصلاة، وإلحاح أمه الدائم، وذكر لنا موقفًا يتكرر مع أمهات كثيرات، فقد انكبت أمه في أحد الأيام على قدمه تقبلها وتطلب منه أن يصلي، فقام على الفور وصلّى أمامها، لقد كان يصلي لكن ليس بانتظام، وكان يشرب الحشيش ويدخن، ذكر لنا تفاصيل كثيرة عن حياته بشكل موضوعي وحيادي، لقد كان يكتب من أجل الاستشفاء وليس طلبًا للرضى أو الشهرة، وليأخذ كل قارئ -من كتابه- ما يريد، خذ منه العبرة، أو التسلية، أو التأمل والتفكير، خذ ما تريد ودع المصير لمن بيده مصائر العباد.

وإني أتأمل حياة أسامة دون أن أحكم عليه أو أتحدث في مصيره، فقد ذهب لربه الرحيم وهو أخبر به، وقد لمست من كتابه أنه ممن يحب الله ورسوله، وإنه صاحب قلب طيب ووجه بشوش، وآمل له الرحمة والمغفرة والفوز في الآخرة، فإن علمي ويقيني بأسماء الله وصفاته (خصوصًا اسمه الرحمن) أقوى من علمي ويقيني بحياة هذا الإنسان أو ذاك، أو بتفاصيل ما يختبئ في قلبه مما يراه الله ولا نراه، بل أن الكثير مما في القلب يختفي عن صاحبه، والإنسان قد يفاجأ بذنوب لم يكن يحتسبها، لكنه أيضًا سيفاجأ بفضائل لم يكن يدركها، لذلك، ودائمًا، المصير عند الله لا نتحدث نحن البشر فيه مطلقًا، بل ندعو لكل إنسان بالرحمة ونأمل أن ينال عفو الله وكرمه.

أتأمل في حياتك يا أسامه وأقول: ماذا لو كنت ممن يحافظ على صلاته، أي ممن يحافظ على صلته بخالقه، بمن قدّر عليه هذه الحياة وهذه المعاناة، أنت تحمل روحًا جميلة تقبلت الواقع وتعايشت مع الحياة، وقد كان هذا داعمًا لك في مسيرتك فتقبلت الوضع كيفما كان، وهذه نعمة خفية قد لا يلاحظها البعض، فقد يوجد شخص أعطاه الله الصحة والعافية، لكن في المقابل هو يحمل نفسًا متذمرة وعقلًا هدامًا، وقد يعيش في معاناة (نفسيه) هي أشد من المعاناة الجسدية، والنعم تختلف شكلًا ومضمونًا، والمنعم هو واحد لا ثاني له، فما أجمل أن يعيش الإنسان في حالة شكر دائمة، شكر على النعم الظاهرة، وعلى الابتلاءات التي لها معانٍ خافية.

الصلاة تخفف على الإنسان وعثاء الحياة، تضع عن كاهله أعباء ليس مقدرًا له أن يحملها، الصلاة تزيد الإنسان يقيناً بلقاء ربه فتهون في نظره الحياة، تعطيه قوة يصبر بها على الابتلاءات والمصائب، هذا ما تفعله الصلاة لكن ليست أي صلاة، إنها الصلاة الخاشعة التي هي محادثة هادئة بين العبد وربه، اتصالٌ حقيقي بالخالق عز وعجل وعلاقة ودية حميمة بين من بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله (سبحانه وتعالى).