فُلَّتي العزيزة

أعرفكم على فُلّه، أو كما أناديها داخل المنزل (فلّتي)، كنت في الأيام السابقة حين أدخل المنزل أبادر بالسؤال وأقول (كيف حال فلتي اليوم) فلا أتلقى سوى نظرات التعجب والسخرية، ربما بالغت في الأمر، لكن الأمر قد تطور إلى علاقة حب ومشاعر فياضة.

أتيت بها قبل شهر إلى المنزل، لقد سحرني جمالها ووقعت في حبها من أول نظرة، دخلت المشتل أبغي نبتتة ظلية، لأن الشمس لا تدخل إلى الشرفة إلا قليلاً، فأشار علي البائع بأن ألج إلى الداخل، لكني وقفت أمام نباتات الفل وقد أسرني جمال المنظر، الكثير منها يتراص بجانب بعض، وقد تزينت بزهور الفل الأبيض الفواح، كل نبتة تعرض أجمل ما لديها، تتسابق لتفوز بفرصة الحب الأول، حب من أول نظرة، حينها قررت أن أشتري واحدة، قال لي البائع أن هذه النباتات تحتاج إلى الشمس ست ساعات في اليوم، وأنا لا أملك ذلك، لكني عزمت أن أتحايل على أشعة الشمس، عزمت على أن أقتني نبتة فل، والتي أصبحت (فلّتي العزيزة).

في المنزل، دفعت بها إلى حافة الجدار في الشرفة، ثم صنعت ثقبًا في الإصيص وربطته بحبل إلى العمود، حتى لا يقع إلى الخارج، وقطفنا الأزهار القليلة، ثم مرت الأيام، فساقتها الشمس القوي إلى العطش المميت، وقد قصرت معها في الريّ، فإذا بها تذبل أوراقها بعد أن سقطت زهورها، فحزنت عليها، علمت أني أخطأت في حقها، فهي تحتاج إلى عناية خاصة، ماء في فترات متقاربة، وتريد مني سمادًا مكونًا من ثلاثة عناصر، أعرف أنها تتدلل، لكن أليست فلّة، ألا تبهرنا بجمالها وتبهجنا برائحتها، إذًا فلفلة ما تريد.
.
أخذت المقص وقطعت الأوراق الميتة، أزلت بعض الأفرع وأجريت فيها عمليات مؤلمة، ثم تركتها وأنا أترقبها وأتعهدها بالسقاء والغذاء، فإذا بالمعجزة تحدث، وإذا بالحياة تنبت من جديد، فقلت: سبحان الذي يخرج الحي من الميت.
.
مرت الأيام وأنا أراقب، أرويها وأعتني بها، كانت الفروع الجديدة تنبت من كل جزء فيها، عود خشب تظنه يابسًا لكن فجأة .. تنفلق منه الحياة، فلا تملك إلا أن تقول … سبحان فالق الحب والنوى.
.
نَمَت تلك الغصون الجديدة بسرعة، ثم استقرت بعد سنتيمترات لتعلن ابنثاق الجمال من بين الخضرة، خروج العطور من بين التراب، إنها براعم الزهور، كأنها أجنّة تترقب ساعة الولادة، كأنها الأمل ينبت من وسط الألم، اليسر بعد العسر، الخير بعد القحط، كأنها الحياة.
.
واليوم، وقبل أنام، زرتها لأتمنى لها ليلة سعيدة، فإذا بها تبادرني السلام وتتحدث إليّ بلغة الجمال، فبعض الأزهار قد تفتحت، فكاد قلبي يطير فرحا، فقطفت بعضًا منها ثم اعتدلت في جلستي، وأخذت نفسًا عميقًا ثم استنشقت عطرها الهادئ، فأعادت الرائحة ذكريات كادت تختفي، لأن الفل لدينا مرتبط بالمناسبات السعيدة، حفل تخرج أو عرس بهيج، ذكريات مع الأصحاب والأحباب، حياة ماضية تلاشت وأصبحت ذكريات في سجلات مغلقة يصعب الوصول إليها، لكن هذه الزهرة الصغيرة، هذه المعجزة العجيبة، قد أخذتني في بساطها السحري ونقلت قلبي إلى عالم الماضي الجميل.
.
فسبحان الله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى
سبحان الذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي
سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون
( وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )