شيخ يسمع الموسيقى

كتبت بالأمس 👇
(نحن بحاجة إلى:
شيخ يسمع الموسيقى
وموسيقي يحرص على الصف الأول)
ولم أفصّل في الأمر، فأثارت هذه الكلمات حفيظة البعض،
أعتذر من الجميع وأكفر عن خطيئتي بهذا المنشور الذي أتمنى أن يتسع له وقتكم.

أولاً/ كلمة (موسيقى) لا تعني (الأغاني) وكلمة أغاني لا تعني (كليبات) فالأغنية المصورة تتكون من ثلاثة عناصر:
1- العرض المرئي
2- الشعر المتغنى به
3- الموسيقى المصاحبة
ومحور حديثنا هنا هو عن أحد هذه العناصر (العنصر الخام)، عن آلات مصنوعة من الخشب أو المعدن، يتفاعل معها الإنسان ليصدر أصوات منسجمة.

ثانيًا/ لا يسايرني شك في أن الموسيقى (أو المعازف) هي من الأمور الحياتية المسكوت عنها، والتي ليست من المحرمات أو حتى المكروهات في الإسلام،

ولا يسعنى أن نناقش هذا الأمر لأن القول فيه لأولي العلم، ولكن، كل إنسان لديه ملكة التفكير والنقد، والانترنت سهل علينا الوصول إلى كل المعلومات والآراء، وأمامك الانترنت استمع لهذا وذاك واقرأ كل الأقوال والآراء، وستجد أن حجة من يحللون أقوى بكثير، واقرب إلى الفطرة وإلى روح الإسلام، وسوف تجد الكثير من العلماء في القديم والحديث ممن يؤيدون هذا الرأي وحتى من مطبخ السلفية نفسه (مثلاً فتوى الشيخ المغامسي عن المعازف:)

ثالثًا/ حين نقول أني أريد من الشيخ أن (يسمع) للموسيقى، فلا يعني كلامي أني أريد منه أن (يحب) الموسيقى، أو (يدمن) على الاستماع لها، بل أقول (يسمع)، فمن الطبيعي أن يكون شغف وحب العالِم العلم، وحب قارئ القرآن القرآن، وكل صاحب الفن يحب فنه.

بل أعني أن لا يكون لديه مانع من الاستماع للموسيقى، بل أن يستمع إليها في بعض المناسبات وبعض الأوقات،
بل أعني أن لا يكون لديه مانع من الاستماع للموسيقى، بل أن يستمع إليها في بعض المناسبات وبعض الأوقات،

نأتي الآن إلى تفصيل ما كتبت، فقد قلت (نحن) وتساءل أحد الأصدقاء مستنكرًا (من تقصد بـ”نحن”)

أنا أقصد العالم الإسلامي عمومًا، صحيح أني فرد صغير لا يهش ولا ينش، ومن أنا حتى أملي على الأمة ما تحتاج إليه وما لا تحتاجه، لكن في نفس الوقت لدي الحق الكلام والتعبير عن الرأي والمساهمة في إثارة الأفكار ونقد الواقع.

أما الشطر الأول، فنحن بحاجة لشيخ يسمع الموسيقى، وحين نجد أن معظم علماء ومشائخ الأمة لا يمانعون من الاستماع للموسيقى، فيعني هذا أن الفكر الديني قد تطور لدرجة جيدة، وأن بوارق النهضة قد لاحت في الأفق، لا أقول أن تحريم المعازف هو سبب تخلفنا، وأن كل مشاكلنا سوف تُحل حين نستمع للموسيقى، بل أقصد أنه مؤشر بأن عجلة الاجتهاد قد بدأت بالتحرك، وأن حركة التجديد قد لاح شمسها.

الأمر الآخر، أن الشيخ أو المفتي أو العالم، سيكون قريبًا من الناس، الناس العادية التي تستمع للموسيقى في البيت والشارع والمقهى، ومن المضحك أن البعض لايزال يحرم المعازف (نظريًا) بينما في الواقع قد أصبح كل شيء معجونا بها، وبدلًا من أن يشارك الناس الصالحين أصحاب الأذواق الجميلة في تشكيل الموسيقى وتوجيه الذوق العام نحو الأفضل، نجد أنه ببعدهم عنها، قد تركو المجال لغيرهم في توجيه الدفة، لذلك نجد أشكالا مزعجة من الموسيقى، أشكالًا تُصخِب بدلًا من أن تُطرِب.

حين يستمع الشيخ للموسيقى فهو ينقل رسالة مفادها أن هذا أمرٌ عادي، هذه الرسالة تنتقل لمجتمع المتدينين، وبالتالي يشارك هذا المجتمع الكبير الحراك الثقافي أو الفني، يشاركون في الاختيار والدعم، حينها سيجد من يقدم فنًا راقيا (وهنا أعني الأغاني على وجه التحديد)، سيجد جمهورًا يسمع له، سيتمكن من النجاح وبالتالي البروز والوصول للنجومية، وأنتم تعرفون أن النجم في واقعنا المعاصر هو من يقتدي الشباب به، ومن يساهم حقًا في تغيير المجتمع.

إلى متى نستمر في دس رؤسنا في التراب، نستمر في الهروب من مواجهة مشاكلنا، نستمر في غلق باب الفكر والتجديد على عقولنا ونتقوقع والعالم يموج من حولنا بالتغييرات التي قريبًا تطرق أبوابنا، بل أنها قد طرقت، ربما وأنت تقرأ كلامي الآن، قد ظهر لك -قبل دقائق- إعلان مليء بالموسيقى والمعازف، واستمعت إليه مضطرًا، لأننا أصلًا لا نملك قرارنا، فالانترنت من تطويرهم والموقع من تصميمهم والاعلانات من صنع شركاتهم.

وأما (الموسيقي) الذي أتمنى أن (يحرص على الصف الأول في المسجد) فهذا هو الأمر الطبيعي، هذا هو الأمر العادي لكل مسلم حقيقي، فأنا أريد أن أشاهد مجتمعًا مسلمًا طبيعيًا غير مصابًا بالانفصام في الشخصية، وأصدقكم القول أن أحد أسباب هذا الانفصام هو الجمود الديني الذي نعاني منه، فالموسيقي حين يقرر الدخول في عالم الفن هو يطلّق التدين أولاً حتى يرتاح ضميره، فالدين (كما يتوهم) يحرّم عليه الموسيقى، والموسيقى (كما يتوهم البعض) لا تجتمع مع القرآن في قلبٍ واحد.

بعض الأشخاص يحبون هذا المجال، يجد شغفه في الدق أو الضرب بالوتر، فهل تمنع هذا الشباب من هذا المجال الذي يحبه، لا، لكن الأصل أن تُبنى شخصية المسلم وفق أولويات واضحة وقيم ناصعة، ومن أهمها قيمة “ذكر الله” وأنها قبل وفوق كل شيء، فحين ينادَى للصلاة (والصلاة أعلى مقامات الذكر) يترك كل شيء ويذهب ليلبي نداء الله، فعلاقته بربه قبل وأهم من كل شيء، وهمه الأخروي أكبر من همه الدنيوي.

هذا الموسيقي الذي يحرص على الصف الأول، ويتلو كتاب الله، عندما يُدعى لحفلة فيها سفور وتبرج، حينها سيتذكر كلام الله (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) وحينها سيمتنع عن تلك الحفلة، أما إن كان مشهورًا ويشار إليه بالبنان، حينها ستضطر إدارة الحفل أن تغير وتعدل حتى تلبي متطلباته، وحينها أقول: مبروك، نحن نصنع مجتمعاً عفيفًا، بدون إرغام أو صدام.

هذا الموسيقي (أو المطرب) الذي يحرص على الصف الأول، وربما يتابعه الملايين عبر شبكات التواصل، سيقتدي به ألوف من الشباب، وحينها أقول: مبروك فقد تم تعزيز قيم الإسلام في نفوس الشباب بدون خطب أو مواعظ.

هذا المطرب الملتزم، سيكون ملتزمًا أيضًا بفنه، سيختار كلماته بعناية، وسيبحث عن كلمات تنشر الخير وتعزز القيم، وقد يصل فنه إلى العالمية، وينتشر إلى بقاع بعيدة ومجتمعات عديدة، وحينها سيتعرف ملايين الناس على الإسلام عبر بوابة الفن والموسيقى، وحينها أقول: مبروك، هاهو الإسلام ينتشر من تلقاء نفسه.

أخيرًا، أدعوكم لمشاهدة هذا المقطع (في أول تعليق) وسوف تتعجبون كما تعجبت أنا، عبارة عن فرقة غنائية من تايوان يؤدون -جماعيًا- مقطوعة بعنوان (ذكر)، يبدأونها بـ (حسبي ربي جل الله * ما في قلبي غير الله)

ويستمر الغناء حتى ينطلق صوت يخطف الأسماع من وراء الحشد وهو يقول (لا إله إلا الله).

ليسوا مسلمين، ولا يعرفون العربية، مع ذلك، فقد وصلت هذه الكلمات إليهم عبر قارب (الفن والموسيقى) والفن هو رسالة، من خلالها يمكن لمن أراد اكتشاف هذه الحضارة وما تكتنزه من جوهر ثمين يشع نورًا منذ 14 قرنًا، نور يكفي ليضيء العالم بأسره، لكن فقط حين نحسن الفهم والتصرف.

هداني الله وإياكم لأقرب مما نحن فيه رشدا.

السر في الموسيقى

ما هو السر في الموسيقى؟

لماذا ينتابك ذلك الشعور الخفي والنشوة الروحية الفريدة حين تستمع لمقطوعة فنية يجتمع فيها العازفون بآلاتهم، ويطرب لها الحاضرون بأسماعهم؟

دائمًا ما تثار هذه الفكرة في عقلي كلما استمعت للموسيقى الصافية الخالية من أي رتوش كلامية، وخاصة تلك السيمفونيات، مثل ما يبدعه محمد القحوم من مقطوعات تراثية (من أجملها المقطوعة التي تحمل اسم “ليل دان” والتي دمج فيها التراث اليمني بالمصري، رابط الفيديو في أول تعليق)

أتذكر حين انجذبت روحي لمعزوفة أحمد الشيبة -رحمه الله- تلك التي دمج فيها عدة أغاني يمنية من مختلف المناطق والمحافظات وصنع من ألحانها قطعة فنية باذخة الجمال، كم أعجبتني ولازالت.

وأنا أقول أن (روحي) هي التي تنجذب وليس عقلي أو سمعي، لأن الموسيقى هي من الأسرار الروحية التي يصعب علينا تفسيرها، وهي من خارج حدود العقل والإدارك، هي سر مرتبط بعالم آخر أكبر وأوسع يصعب على الإنسان المحدود تفكيك أسراره أو غور بحاره، لذلك هو سر كما أن الروح سر.

لربما أن السبب هو التناسق والانسجام، فلا بد لكل مقطوعة أن تتناسق أنغامها وتنسجم أصواتها، وهذا يصنع شيءاً جميلاً، والجمال لا يتعلق بالصورة فقط، ولا بالصوت وحدة، الجمال يمكن أن يأتي بصور مختلفة، صور مما يتسع له عقل الإنسان وما لا يتسع، والجمال هو مبدأ أساسي يظهر في جميع مخلوقات الله، لكن ما هو السر في الجمال يا ترى، إنه التناسق والانسجام.

﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾

نختلف في أشكالنا وألواننا، لكن يبقى الإنسان -بشكل عام- جميلاً، وحتى أولئك الذين لم يهبهم الله قدرًا كبيرًا من الجمال الظاهري، هم في موضع يصنع صورة جميلة، فالجمال يتعلق أيضاً بالزمن، فهو شيء رباعي الأبعاد -أو أكثر-، بمعنى أنك بحاجة لأن تتتبع حياة ذلك الشخص (الدميم) من الميلاد حتى الممات، ليس هذا فحسب، بل وتتتبع كل الآثار التي صُنعت بسبب وجوده، لتكتشف أن الصورة الكبيرة جميلة.

ويدعم رأيي هذا ما نجده من انجذاب وحب للأوركسترا (السمفونيات) والتي تعرّف على أنها (عبارة عن مجموعة من عازفي الأدوات الموسيقية، وغالبا ما تكون مجموعة كبيرة تضم ما يقارب المائة عازف لمختلف الآلآت الموسيقية بشتى أنواعها).

إذن هي مجموعة (كثيرة)، وهي آلات موسيقية (مختلفة) ورغم هذه الكثرة وهذا الاختلاف إلا أنها تتناسق جميعًا وتنسجم فيما بينها انسجامًا يرتبط طرديًا مع المتعة التي نحصل عليها، فكلما زاد الانسجام لِما يُعزف زاد الانجذاب لِما نسمع.

ألا يذكِّرك هذا بشيء
هؤلاء العازفون بآلاتهم المخلتفة ومهاراتهم المتنوعة، يجتمعون ليصنعون لوحة (صوتية) منسجمة؟
ألا ترى الانسجام داخل جسمك، أعضاء مختلفة وخلايا متنوعة كلها تعمل معًا في تعاونٍ وانسجام لتستمر الحياة العجيبة لهذا الكائن الأعجب.
انظر إلى السماء، اسأل عالم الفلك والفضاء، أو تأمل في عالم الذرات والإلكترونات، أينما وليت عقلك فستجد التصميم الدقيق والانسجام العجيب في جنبات هذا الكون، فلا تملك إلا أن تسبح الله على خلقه وإبداعه.

ثم منحك -أيها الانسان- شرف تجربة متعة الخلق، أن تصنع شيءاً جميلاً بنفسك، أن تبدع وتبتكر وتؤلف، وهذا كله بإذن الله ومدده الذي لا ينقطع، فهو الخالق والفاعل في حقيقة الأمر (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ) وقد أذن لنا أن نصبح خالقين (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، وأنّا لهذا الخالق الصغير أن يظاهي الخالق الأكبر جل جلاله وتقدست أسماؤه.

أذن، عملية التأليف والأداء الموسيقي هي عملية خلق وابتكار، شيء جميل يُستهلك عبر الأذن، شيء مؤلف من أشياء متفرقة ومتناثرة، أصوات خام تطلقها الآلات عبر ملامسة الأصابع أو الشفاة أو حتى الأرجل، وإصدار الصوت الجميل من الآلة هو شيء فريد معقد في حد ذاته، فكيف حين يبدع العازف ليس في إصدار نغمة جميلة من آلته، بل في أن يجعل نغمته تلك تنسجم مع نغمات رفاقه ليصنعوا في نهاية الأمر قطعة فنية جميلة.

مثلما تتعاضد البروتونات مع الإلكترونات لتشكل الذرة، وتشكل الذرة مع غيرها من الذرات العناصر، ويتحد عنصر مع آخر ليشكل الماء، ثم يشكل الماء مع غيره من المواد هذه اللوحة الجميلة التي تسمى (الحياة).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ).