كورونا … آية من آيات الله

لدي من الأبناء ثلاثة، أصغرهم هو أفضلهم مناعة وأقواهم صحة بحمد الله، لكن قبل سنوات؛ وبعد ولادته بأيام؛ أصيب بالبرد، وزاره السعال الشديد لأيام كثيرة، كانت قلوبنا تتقطع ونحن نشاهده يسعل يومياً وعلى مدار الساعة، ولأنه كان صغيراً جداً فقد صَعُب علينا إعطاؤه أي دواء، فانتظرنا حتى شفاه الله بدون علاج.

سجل هذه المعلومة عندك، فسنعود إليها لاحقاً.

الآن سأحدثكم عن الموضوع الرئيسي الذي حثني على الكتابة، وهو موضوع البشرية الرئيسي اليوم وشغلها الشاغل، هذا الفيروس الحقير في حجمه والخطير في أثره؛ الجندي الذي أرسله الله إلينا كي نتعلم دروساً كثيرة لا حصر لها.

“لا تخرج قبل أن تقول لا إله إلا الله” تذكرون هذه العبارة والتي كانت تُلصق على بعض الصور الغريبة (والمفبركة في كثيرٍ من الأحيان)، ثم تنشر في الفيس ويطلب صاحبها من كل من يشاهد أن يكتب أو يقول كلمة التوحيد قبل أن يخرج، هذا هو حالي بالضبط حين أتابع المواقع الإخبارية هذه الأيام، فلا أخرج من تلك الصفحات إلا بعد أن أقول (لا إله إلا الله) و (آمنت بالله).

بالنسبة لي؛ ما يحدث هذه الأيام هو دليل كافٍ على وجود الله، وقدرة الله، وعظمة الله، هو دليل لكل إنسان كي يؤمن بالإله الواحد، بأنه هو القوي الفعال لما يريد، والمتصرف في الكون، وغيرها من الصفات التي تفرّد بها سبحانه.

بالأمس وأنا أتابع الأخبار، تذكرت الآية الكريمة (وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله)

وأنا هنا أتحدث عن البشرية ككل وليس عن شعب أو دولة بعينها.

هل منعتنا حصوننا (العلمية) اليوم من هذا الجندي البسيط؟ ماذا عن حصوننا (التقنية) والتي سمحت لي اليوم أن أكتب من غرفة منزلي لتقرأ أنت في بقعة أخرى من الكرة الأرضية، الحصون التقنية التي سهلت لنا اكتشاف الأمراض ومكافحتها والتلقيح ضدها، حصوننا (الطبية) التي وصلت إلى مرتبة عظيمة ربما لم تصل إليها البشرية في أي عصر آخر، هذه حصون وتلك حصون ولازال الإنسان يبني الحصون.

أن لا أقول أن لا نبني الحصون، بل واجبٌ علينا الاستمرار في البناء، وإلا فلمَ خلقنا إذاً؟

أنا أقول أن (لا يظن) الإنسان أن تلك الحصون (قد) تمنعه من الله، بل أن (لا تسول له نفسه) أن يظن مثل هذا الظن الشنيع.

طبعاً القلوب بيد الله، وأنا لا أدري ما قد يظنه جاري القريب، فكيف لي أن أعرف ما يجول في خاطر ذلك الإنسان البعيد.

لكنه يبقى درس، تبقى آية من آيات الله، موعظة بليغة للبشرية أن تفيق وتعي وتدرك الأخطار وتتأمل أين تمضي.

آيات الله موجودة لدينا منذ مئات السنين، مسطورة في الكتاب تتلى ليلاً ونهاراً، تتسرب بهدوء إلى قولب المؤمنين، لكن العالم اليوم أصبح صاخباً جدا، وكأن سريان الآيات بهدوء لم يعد يجدي معه، في عصر الدولار واليورو، في عصر الصراخ والعويل (الذي يسمى غناءً في قاموس هذا العصر)، في عصر أصبح الإنسان فيه بعيداً عن مصدر وجوده، عن النور الذي يهدي قلبه، في عصر انتشرت فيه الفواحش الباطنة، تلك التي تصل بالمجان إلى كل من يمتلك خط اتصال، في عصرٍ أصبح الشذوذ الجنسي فيه أمراً مقبولاً ومقنناً (في العالم الغربي).

حين لم تعد الآيات الهادئة تصل للآذان وسط هذا الصخب، أتتنا آية مدوية، قوية لدرجة أن صداها رج الأرض رجاً لم يعرف أبناء هذا الجيل مثله، فوصل صداها إلى كل الدنيا في أيامٍ وأسابيع قليلة، أصبح شغلنا الشاغل، أغلق المدن، وأقفل المطارات، أعلنت البشرية حالة الطوارئ.

ما بالكم يا قوم… إنه مجرد فيروس لا يرى بالعين المجردة، لم نقل بعوضة، لم نقل ذبابة، بل أصغر من ذلك بكثير، وهو لا يقتل نصف من يصيب، إنما فقط 3 أو 4%، أيحدث فيكم هذا المخلوق الصغير هذا الرعب الكبير؟

نعم، يحدثه فينا ويحدث أكثر من ذلك، أتدرون لماذا؟ ليس لأنه قوي (هذا الفيروس) بل لأننا ضعفاء، نعم هذا هو السبب، نحن ضعفاء مهما بنينا من حصون لنواري سوأة ضعفنا، سنبقى ضعفاء، وسيبقى هو -سبحانه- القوي.

أنا لا أتحدث هنا بمنطق (العقوبة) فهذه أمور يعلمها الخالق وليس لنا دخل فيها، فلقد ترك الله أصحاب الأخدود يفعلون ما يريدون وسمح لذلك الجرم الشنيع (إحراق المؤمنين أحياءً) أن يتم في نطاق ملكه وأخّر عقوبتهم إلى يوم القيامة، قد يفعل الله ذلك، وقد يعجل بالعقوبة أيضاً إن أراد، قد يستجيب لدعاء الضعفاء في الحال، وما أدراك أن دعوة من قلب وليٌ من أوليائه ناله الظلم فتوجه إلى الله بقلبه المكلوم ورفع يده لمن لا ترد عنده الأيادي، فلم ينزلهما حتى نزل أمر الله المحتوم، ألسنا نعرف حديث (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب).

طيب فما ذنب الناس الأبرياء، وما ذنب الأطفال والعجزة؟

إن هذه الآية، وغيرها من الآيات، هي من مظاهر رحمة الله سبحانه وتعالى، فحين لم تعد البشرية تستمع لآيات الله الهادئة (المكتوبة)، ظهرت لنا هذه الآية المدوية التي صرخت فينا بأعلى صوتها، حتى نعي وندرك أن سعادتنا في الحياتين لن تكون إلا في كنف الرحمان وفي إطاعة أمره بإذعان.

واعلم أن الله (له في خلقه شئون)، فما يصيب الإنسان من أمر، إلا وله حكمة ومغزى، فهذا يُؤدَب، وذاك يُكَفّر عنه الذنوب، وآخر لكي يصحو، ورابع لكي يتعلم، والله أدرى بخلقه، فما لنا وللخلق، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، إنما علينا الاشتغال بأنفسنا، بأن نتعظ ونتعلم، ونستمر على الصالح من العمل.

وقد يقول قائل؛ فما بال الطفل إن أصابه ابتلاء أو مرض، وهو الذي لم يعرف من الدنيا شيء، أي جرم قد ارتكب كي يعاقبه الله عليه، وأي درس يمكنه أن يتعلمه من مرضٍ أو وجع.

أعود وأقول (لله في خلقه شئون) وهل تقدر أنت أيها المسكين أن تحصي (شئون الله وطرائقه) ألم أخبرك في بداية المقالة عن ابني الذي اشتدت مناعته وقويت صحته، وقد كان ذلك بسبب المرض الذي ألمّ به بعد ولادته، الألم والعذاب الذي تجرعه وتجرعناه نحن معه بقلوبنا، ذلك الألم الذي أدى إلا أن يصبح أفضل إخوانه صحة وأقواهم مناعةً، وهذا بحمد الله وفضله أولاً وأخيراً.

أرأيت …. لقد حمدتُ الله للتو، شكرته على هذه النعمة، هذه النعمة التي كنت أراها قبل سنوات ألماً وعذاباً، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على ضعفي وجهلي، إلى ضعف الإنسان وقلة حيلته، مهما بنى من حصون، مهما ظن أنه قادر، هو الضعيف دائماً وأبداً.

إن علينا أن نتوب، أن نعود، نلجأ بضعفنا إلى قوته، نعود لآياته المسطورة ونتلوها حق التلاوة، وأن نعمل الصالحات ونستمر في البناء والتشييد، على أمل أن نفوز بمحبة الله وروضوانه، فهل يمكن أن يشقى من رضي الله عنه؟ لا، بل يسعد سعادة لا مثيل لها.

رضي الله عنّا وعنكم، وعافانا وإياكم، ولطف بنا وبكم.

أهمية الطقوس اليومية

عمر الإنسان يتكون من مراحل، والمرحلة من سنوات، والسنة من أشهر، وكل شهر به عدد محدود من الأيام، أما اليوم فهو الوحدة الأساسية التي يتكون منها عمرك، هي الدورة الكاملة التي تعاد وتعاد وتعاد، مع إشراق يومٍ جديد؛ هنالك دورة أخرى تبدأ بالصباح وتختمها بالمساء، وعليك أن تفعل شيئاً -أو أشياء- في هذه الفترة الضيقة، قد يكون شيء مختلف في كل يوم (ضمن إطار عملك)، لكن هنالك أشياء تعيدها وتكررها كل يوم بنفس الطريقة وفي نفس التوقيت.

الصلوات أمور مشتركة بين جميع المسملين (وحتى من غير المسلمين؛ كلٌ له صلاته وطريقة اتصاله بخالقه)، لكن ورغم توحد شكل وطريقة أداء الصلاة، إلا أن هنالك تفاصيل قد تختلف من شخص لآخر، مثلاً: أماكن تأديتها، ما يأتي قبلها وما يأتي بعدها، هذه أمور قد تختلف من شخص إلى آخر، وكذلك الذِكْر، البعض لديه ورد من الذكر يؤديه في مكانٍ معين، في المسجد بعد المغرب، أو في المنتزه أو قبل النوم، وكذلك قراءة القرآن، ما هي طقوسك في قراءته، بعد الفجر مثلاً، في المسجد أو في حديقة بيتك أو في البلكونة وأنت تحتسي كوب القهوة، وغيرها من التفاصيل التي تختلف من إنسان إلى آخر.

كل ذلك يتعلق بالجانب الروحي (الإيماني) والحياة السعيدة هي التي توازنها بين الثلاثة جوانب: الروحي – العقلي – الجسدي، ويكون فيها لكل جانب جزءٌ معلوم من يومك، وبقية اليوم يكون لتأديه التزاماتك ومهامك في الحياة.

ثم تأتي طقوس تنمية العقل (الجانب المعرفي)، وأهم طريقة هي القراءة، لكن كيفية تأديتها يختلف من شخص لآخر، فكلٌ له طقوسه الخاصة في القراءة وتحصيل المعرفة بشكل عام، فأنا مثلاً لا أستطيع القراءة في البيت عند الأولاد، يجب أن أقرأ في مكان هادئ بعيد عن الملوثات السمعية، ومن أحب الأمور إلى قلبي هي القراءة في المتنزه الكبير وأنا أتمشى وسط الحشائش، البعض يحب القراءة في الضوضاء، والبعض يقرأ قبيل النوم أو في المساء والجميع نيام، وهكذا كل إنسان له طقوسه الخاصة فيما يخص تطوير الجانب المعرفي.

ثم نأتي أخيراً إلى الجسد، وأهم طريقة لتنميته هي الرياضة والجري أو المشي، وكل إنسان له طقوسه الخاصة، فالبعض يمشي كثيراً، يختار المسجد البعيد دون القريب، والبعض متعودٌ أن يعود من العمل مشياً على قدميه، آخرون يحافظون على الجري بانتظام، شخص يجري في الحديقة وآخر في الحارات بشكل دائري على منزله وآخر على البحر، البعض يذهب إلى الصالة الرياضية (الجِم)، وكل شخص له طريقته (طقوسه).

أهم نوع من الثلاثة هو الجانب الروحي، وهو الذي يغفل عنه الكثير للأسف، ويمضون في الحياة دون تغذية لأرواحهم فيصابون بالمشاكل النفسية ويعانون في الحياة ويغيب عنهم طعم السعادة، وكل ذلك كان حله يسير لو أنهم تمسكوا بتلك الطقوس اليومية المتعلقة بالجانب الروحي، وطبعاً نحن -كبشر- لا نحدد كيفية تطوير الجانب الروحي ولا يجب أن تستقي ذلك من أي كتاب أو فكر إنساني، لأن كل البشر عاجزون عن فهم مكنون هذا السر الغامض (الروح) والعليم به هو من خلقه، لذلك فأنت تلتزم بما يقوله لك الخالق عبر كلامه وعبر صحيح سنة نبيه (الذي ارتضاه لنا قدوة وأمرنا باتباعه)، ثم تبني لنفسك طقوساً معينة ضمن الإطار الذي حدده لك الشرع.

فيما يخص الجانب العقل (الجانب المعرفي) فقد يكتفي المرئ بالتعلم في الجامعة أو في الدورات التدريبية التي تعينه على التمكن من تخصصه، وهذا يعتبر نوع من أنواع التغذية العقلية، لكن يفضل عدم الاكتفاء بالتخصص فقط، أن تقرأ ولو حتى نصف ساعة يومياً في مجالات مختلفة ومتنوعة، كي تصبح القراءة جزء من طقوسك اليومية.

أما الرياضة والحركة (تغذية الجسد) فهي مهمة ويغفل عنها أكثر الناس، والناس لديهم أعذار كثيرة، أهمها ضيق الوقت، ولو رأيت حياتهم لوجدت أن هنالك ساعة على الأقل أو ساعات تضيع منهم كل يوم، ما بين تصفح غير موجه للانترنت وبين نوم أكثر من اللازم أو مسامرات وأحاديث ليس لها داعي وجلوس في القهوات أو مقائل القات، بينما يمكن أن تدمج طقوس الرياضة مع فعاليات يومك، يمكن أن تذهب لعملك باكراً لكن ماشياً لا راكباً، يمكن أن تصلي في المسجد البعيد في أحد الصلوات أو تعود منه جرياً، وبالتالي أنت تدمج طقوس الروح مع طقوس الجسد، تضرب عصفورين بحجر.

يمكنني أن أشارك معك بعض طقوسي اليومية، لكن لا يمكن أن أمليها عليك وأطلب منك تنفيذها في حياتك، فكل إنسان مختلف، ولكل إنسان ظروفه المختلفة، وهذه الطقوس لا تتشكل بين ليلية وضحاها، كما أنها لا تدوم إلى الأبد، لكنك تطورها مع الأيام، حتى تصل إلى الطريقة الأمثل والأفضل، وتستمر على التعديل عليها والتحسين كي تستمر في الترقي والتقدم، والأهم دائماً هو المحافظة عليها، ليست العبرة في الحسن والجودة يل في الاستمرارية.

الهدف من هذا كله هو أن تعيش في توازن، في سعادة، أن تتطور روحك وتتوسع معارفك، وبالتالي تتوسع مدارك فهمك ورؤيتك للحياة، أنت بهذا تترقى في مدارج الكمال (التي ليس لها نهاية) وتتحول من مخلوق من طين إلى روح تهيم في عليين، وتفوز يوم توزع الجوائز يوم الدين.

الإنسان وكورونا والسينما الغربية

هنالك العشرات، وربما المئات مما يسمى بأفلام الخيال العلمي والرعب وغيرها من الأفلام التي يبدع فيها الإنسان بتخيل أفضع الأمور وأشد المصائب التي يمكن -ولا يمكن- أن تحدث للبشرية.

عشرات الأفلام التخيلية التي تحكي تفشي الفيروسات وموت الناس (هذا مثال)، بل أسوأ من ذلك، أن يتحول الإنسان إلى (زومبي) يقتل بعضه بعضا، تُصدّر تلك الافلام ويستمر إنتاجها سنة بعد أخرى وتصرف فيها الملايين وتُسخّر لأجلها الجهود البشرية والتقنية لتصوير تلك الفضائع بأقوى المؤثرات البصرية كي تخرج واقعية إلى أبعد الحدود.

في حياتنا اليومية، إذا تحدث أحدنا بالسوء قلنا له أصمت لا تقل، إذا حلم أحدنا حلما سيئاً أصبح كاتماً له لم يحدث به أحدا كي لا تلتقطه يد الأقدار، نحن الذين نردد مقولة (لابن آدم ثلث ما نطق) فنقدم الكلام الطيب على السيء، ونتحدث بالخير دون الشر، ونتفائل ونكره من يتشاءم.

أنمتنع عن هذه الأمور في الكلام، ثم نطبقها بالصوت والصورة، في الأفلام؟

هاهو ما تنبأتم به طيلة العقود الماضية، فيروس صغير أحدث رعبا في العالم لا يوازي ربع رعب أفلامكم، ها هو الفأل السيء يتحقق في أبسط صُوره، ألم تنفقوا مئات الملايين في إنتاج هذا الشؤم عبر شاشات السينما وعبر أقراص  الترفيه المنزلي، ألم يشارك في حفلات الرعب تلك ملايين البشر حول العالم، لا أدري كيف أصبح هذا نوعا من “الترفيه”، أيعقل أن نشاهد الناس وهم يموتون ويتعذبون -وإن كان تمثيلاً- ثم نسمي هذا فناً، أما أنا فأسميه مسخاً للذوق وطمساً للإحساس.

الفن رسالة، والخيال وسيلة، والقصص التي تكتب بحرفية وحبكة ذكية؛ يفترض بها أن تساهم في تنمية الإنسان، وفي تشكيل الواقع المأول، ولو في الأذهان.

وأخيرا، وكما قال “تولستوي” في إحدى قصصه “بمَ يعيش الناس، فأتاه الرد: بالرحمة”، فالرحمة هي الباقية، بها نعيش وعليها نؤمل، رحمته سبحانه بنا ورحمتنا فيما بيننا، فهو الرحيم اللطيف الحليم، وسبحانه.

نسأله اللطف والسلامة، والعفو والعافية، لنا ولجميع خلقه.

متعة التسوق

بالأمس عرفت معنى هذه العبارة فعلاً، فقد شاهدتها أمامي واقعاً ملموساً، كان ذلك وأنا وسط زحام أحد المولات الكبيرة (الهايبر ماركت)، والتي تجد فيها كل شيء، كل المواد الغذائية والمستلزمات المنزلية وحتى الملابس الداخلية والخارجية، ونحن على بعد أيام من رمضان وأيضاً في فترة عروض مقدمة من ذلك المتجر العملاق (من قبيل اشتري بـ 19.50 بدلاً من 20 جنيه).

المهم أنني كنت أتأمل في نفسي وفي الناس، تلك العربات الممتلئة بتلك المنتجات، اختراعات عجيبة
وأنواع جديدة تظهر بين الفينة والأخرى، لا أدري من أين يأتون بتلك الأسماء، خذ مثلاً الأجبان، أشكال وألوااااان لا تنتهي، يمكن أن تقف ساعة كاملة أمام ثلاجة الأجبان وأنت تتأمل فقط في الأسماء والأنواع، وقس على ذلك بقية الأصناف.

تدخل السوبر ماركت وفي رأسك ثلاثة أشياء تريد شراءها، ثم تخرج وقد حملت العربة بثلاثين صنف، تتكرر الصدمة دائماً حين يأتي موعد الدفع، تكتشف أن المبلغ المستحق هو أكثر من المتوقع بحدود الضعف، ثم تتكرر تلك الحسرة التي تنتابك وأنت في طريق العودة، تلوم نفسك متسائلاً: ألم يكن الأجدر بي أن أشتري تلك الأصناف الثلاثة من بقالة الحي القريبة؟

التسوق اليوم لم يعد بخصوص الاحتياج، لقد أصبح متعلقاً بالمتعة، فعلاً لقد أصبح التسوق متعة، لقد تأملت بالأمس هذا المعنى واكتشفت كم كانوا صادقين حين أطلقوا هذا المصطلح، وكم كنا نحن -ولازلنا- غافلين.

إن مجرد التجول بعربة التسوق في تلك المولات هي متعة تعطيك لذة عجيبة، رغم أنك تصل للبيت وأنت منهك القوى من طول الوقفة والتجول داخل المتاجر، إلا أنك لا تحس بالتعب أثناء التسوق، والسبب: أنك كنت تستمتع بالأمر، والمتعة تُنسي التعب.

لكن كل ذلك (كوم) والتسوق الإلكتروني (كوم آخر) فأنت غير مضطر بأن تخرج من بيتك وتتحمل عناء الذهاب إلى المول الكبير حتى تحصل على تلك المتعة (متعة التسوق) لقد أتتك المتاجر إلى باب بيتك، ويالها من متاجر، فيها كل شيء، فيها الغرائب والعجائب، جرب وادخل وتصفح وستخرج بقناعة أنك بحاجة لـ 100 صنف ومنتج، تريد شراء هذا وذاك وتلك و….الخ، وحينها ارجع لعملك الوظيفي ولدوامك الذي تتحول فيه لمكنة آلية تعمل دون توقف، من أجل أن تستلم راتبك نهاية الشهر فتصرف تلك الدراهم والدولارات على ما لست بحاجة إليه.

الشركات العملاقة تريد كسب الكثير من المال، كي تملأ جيوب الأغنياء، فلديهم أيضاً (متعة تسوق) الفرق أنك أيها المسكين تستمتع بشراء أنواع الجبن المختلفة، وهم يستمتعون بشراء السيارات الفارهة والقطع الأثيرة النادرة، ويغيرون وجهتهم السياحية في كل مرة، كي يستمتعوا بعصير الأفوكادا الطازج، في كوخ خشبي فوق ماء نقية ترى باطنها من ظاهرها …

لذلك، فأولئك الأغنياء يستأجرون العقول المبدعة كي تتفنن في اختراع منتجات جديدة وعقول أخرى كي تسوق وتصنع الاعلانات الملفتة كي تعرضها بأفضل طريقة، حتى تغريك وتجرك إلى المتاجر الرقمية والواقعية، كي تُخرِج ما في محفظتك أو بطاقتك البنكية بعد أن تنال متعتك (متعة التسوق)، وكل ذلك حتى تسمح لؤلئك بإن يحصلوا هم كذلك على متعتهم (متعة التسوق).

يالها من دائرة ملعونة !

لقد تحول مفهوم التسوق عن هدفه الأصلي (تغطية الاحتياج) فأصبح مجرد (متعة) …
وكأن الحياة لا تعطينا ما يكفي من (المتع) و (الزخارف) …
وكأنها لم تلهينا كفاية …
إلهاء أبعدنا عن الحياة الحقيقية …
حياة الروح والإيمان .. حياة الرقي والعرفان

والله المستعان …