مراجعة وملخص لكتاب (النظرات) لـ: مصطفى لطفي المنفلوطي

الكتاب متاح بالمجان عبر تطبيق وموقع مؤسسة هنداوي (انقر هنا):

هي تشكيلة شهية من المقالات التي عكست وجهة نظر الكاتب في الكثير من الأمور، من هو الكاتب؟ هو أديب ومفكر مصري ذائع الصيت يدعى (مطصفى لطفي المنفلوطي)، ولد عام 1876 وتوفي عام 1924، تتنوع تلك المقالات، فمنها قصص فيها عبرة السنين وموعظة الدهر، وتلك القصص منها ما هو من مخياله الأدبي (مثل مدينة السعادة، ورسالة الغفران) ومنها ما يدعي الكاتب وقوعه على أرض الواقع (مثل غرفة الأحزان، والكأس الأولى)، لكن ليست القصص هي محتوى الكتاب الأكبر، بل المقالات الفكرية والاجتماعية، فقد تحدث في الكثير من الأمور وكتب مقالات صغيرة وكبيرة شهية عبر لغة سلسلة عذبة.

لقد استمتعت بقراءة الكتاب من جهتين، من جهة اللب (الأفكار) ومن جهة القشر (الأسلوب والطريقة)، وعلى الرغم من كون المقالات قد كتبت قبل أكثر من 100 عام، إلا أن معظمها هو مما يصلح لهذا الزمان، وما يجد فيه القارئ الفائدة -والمتعة- التي تتجاوز الزمان والمكان، فهو قد تحدث عن أمور اجتماعية وأخلاقية لازالت حاضرة -وسيستمر حضورها إلى أن يشاء الله-، وفيما يلي أفضل المقالات التي أعجبتني:

  • (الغد): كلام إنشائي أدبي عن الزمان والإنسان، وموعظة بليغة عن الحياة، تذكرني هذه المقالة بمقالة أخرى شبيهة بها كتبها الشيخ علي الطنطاوي في مطلع كتابه (صور وخواطر).
  • (الكأس الأولى) يتحدث عن صديقه الذي رضي بأن يشرب الكأس الأولى، ثم المآل الذي وصل إليه، ورغم أن المعنى يتضح من خلال السياق أن المراد هو (كأس الخمر) لكن الكاتب يريد أن يعمم الفائدة لتشمل كل كأسٍ أولى، كل خطوة في طريق الشر والغواية يسلكه المرئ، لأنها أم المصائب وأس المثالب، فيبدع في هذه المقطوعة الأدبية أجمل موعظة، ويهدي إلى كل شاب أبلغ نصيحة.
  • (الغَنيُّ والفقير) يتحدث فيها عن المال والغنى، يقرع رؤوس الأغنياء البخلاء بكلام أدبي راقٍ
  • (إلى الدَّيْر) قصة شاب منحوس ابتلي بزوجته الجاهلة، ثم تخلص منها وأحب فتاة أخرى فإذا بالمصيبة أنها لم تعد له، يتحدث الكتاب عن هذا الشاب وقصته بكلام أدبي جميل وأسلوب مشوق.
  • (الرحمة) من أجمل الكلام الذي قرأته عن الرحمة، لا يخلو من أسلوب قصصي مشوق، ونظم نثري منمق، كما تظهر المقالة جانب من نفسيه الكاتب وقلبه الرحيم.
  • (عبرة الدهر) قصة فيها عبرة، هي عبرة الدهر كما قيل في العنوان، قصة ذلك الغني الباذخ الذي أضاع حياته وأمانته ثم أفاق في سكرة الموت، وهل ينفع الندم بعد فوات الأوان، ومن ذا يصلح الجرة بعد انكسارها، ومن يعيد الولد بعد ضياعه، أو الزوجة بعد خيانتها، (كما تدين تدان) ومن لم تربه الكلمات والمواعض، ربته الحياة بدروسها القاسية.
  • تحتوي مقالة (أفسدك قومُك) على تنبيه مهم لمسؤولية الأب والأسرة والمجتمع في صناعة الفاسد والمجرم والقاتل، ولقد أعجبني كلامه عن الشعر والشعراء في مقالة (النظَّامون)، وفيها يفرق بين الشاعر والنظّام. ثم يتحدث بكلام شديد عن المدنية والتقليد الأعمى للغرب، عبر مقالة (المدنية الغربية)، أما في مقالة (يوم الحساب) فاستفدت منه ما قاله عن قاسم أمين ومحمد عبده، وكأنه يختصر رأيه فيهما وفي فكريهما بكلام غير مباشر، ثم قرأت (الشعرة البيضاء) وهي مقالة أدبية طريفة، يتجادل مع شعرته البيضاء ويودع في هذا الجدال بعض الحكم والمواعض، ثم يتحدث عن السعادة الحقيقية على لسان صياد فقير في مقالة (الصياد).

أما (غرفة الأحزان) فهي قصة مؤثرة، يرويها الكاتب لأحد أصدقائه، وفيها حكمة وموعظة، وقد أنهاها بهذه العبارة: “فيا أقوياء القلوب من الرجال، رفقًا بضعفاء النفوس من النساء! إنكم لا تعلمون حين تخدعونهن عن شرفهن وعفتهن أيَّ قلبٍ تفجعون، وأيَّ دمٍ تسفكون!”

يتحدث عن العفة والزواج في مقالة (الحب والزواج) والتي يرُدُّ فيها على مقالة لأحدهم، والذي يروي كلام إحداهن ممن تبرر الخيانة بالحب، وفيه كلام هجومي ودفاعاً نارياً عن الفضيلة والعفة وبناء الزواج المتين.

قصة اجتماعية أخرى بعنوان (الزوجتان)، فيها موعظة جليلة تلبس إسدالاً أدبياً راقياً، ثم يتحدث عن (أدب المناظرة) فيقول في بعض منها: “لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يكون الغرض من المناظرة شيئًا غير خدمة الحقيقة وتأييدها، وأحسب أن لو سلك الكُتَّاب هذا المسلك في مباحثهم لاتفقوا على مسائل كثيرةٍ هم لا يزالون مختلفين فيها، وما اختلفوا فيها إلا لأنهم فيما بينهم مختلفون؛ يسمع أحدهم الكلمة من صاحبه ويعتقد أنها كلمة حقٍّ لا ريب فيها، ولكنه يبغضه فيبغض الحق من أجله، فينهض للرد عليه بحجج واهيةٍ وأساليب ضعيفةٍ وإن كان هو قويًّا في ذاته؛ لأن القلم لا يقوى إلا إذا استمدَّ من القلب، فإذا عَيَّ بالحجج والبراهين لجأ إلى المراوغة والمهاترة”

وتظهر جوانب من شخصية وفكر المؤلف في مقالة (لا همجيَّةَ في الإسلام) والتي يدافع فيها عن السلام وعن دين الإسلام، ويمقت فيها الحرب والعدوان، ثم يأتي إلى المقالة التي أبدع فيها أيما إبداع، ليس في جمال مبناها فقط، وإنما في استخلاص معناها ولبها، فقد تحدث عن البخل في مقالة (البخل)، وتحول من كاتب إلى طبيب نفسي وخبير سيكلوجي، فأفرد للأسباب الكامنة التي صنعت البخيل بخيلاً، فكتب وحلل وأفاد وأجزل.

لقد أفرد الكاتب في كتابه هذا (في الجزء الأول منه) مقالتين للطلاب، فيهما فوائد جمة، الأولى هي (الانتحار)، والثانية (الجزع)، يوجه حديثه للطالب الذي يبالغ في همه وخوفه، فيعيد الأمور إلى نصابها ويوضح هدف التعليم في المقام الأول، وهي رسائل لازلنا نحتاجها بشدة في هذا العصر الذي طغت فيه الماديات على الروحانيات، والشكليات على جواهر الأشياء ولبابها.

ومن المقالات فائقة الجمال والفائدة، ما سطرته حروفه تحت عنوان (النبوغ) فهو يتحدث فيها عن عزة النفس وعن الاعتداد بها، والفرق بينه وبين الكبر، وقد قال مما قال: “وعندي أنَّ مَن يخطئ في تقدير قيمته مستعليًا خيرٌ مِمَّن يخطئ في تقديرها متدليًا، فإنَّ الرجل إذا صَغُرَتْ نفسُه في عين نفسه يأبى لها مِنْ أحواله وأطواره إلا ما يشاكل منزلتها عنده، فتراه صغيرًا في علمه، صغيرًا في أدبه، صغيرًا في مروءته وهمته، صغيرًا في ميوله وأهوائه، صغيرًا في جميع شئونه وأعماله”

ثم تحدث بكلام بليغ عن (البيان) فبيّن ملامح الكتابة الرصينة، وأورد لذلك توصيفات عديدة، ولعل هذه المقالة مما يجب على من يشتغل بالكتابة قراءته والاطلاع عليه، فهي قطعة من بيان تبين ما يجب أن يكون عليه البيان.

أعجبني دفاعه عن أهمية العمل بعد العلم، فقد كتب تحت عنوان (زيدٌ وعمرو) عن التعليم العقيم الذي لا يفرز عملاً ونهضة وعمران، كما أعجبني أيضاً مقالة قريبة منها بعنوان (العلماء والجهلاء) دافع فيها عن الحكماء ممن ينظر إليهم جهلاء بمقايس العصر الحديث، وتحدث عن الجهلاء الذين يقال عنهم علماء بمقاييس هذا العصر، وقد قال مما قال:

لا أخشى بأسًا إنْ قلت: إنَّ علم العامة أفضل من علم الخاصة؛ لأنه علمٌ خالصٌ من شائبة التكلف والتعمُّل، حتى إنك لتجد في بعض الأحايين بين معلومات الخاصة ومذاهبهم وآرائهم ما يضحك الثَّكلى لغرابته وشذوذه، وما يترفَّع أضيق العامة ذهنًا وأضعفهم فهمًا أن يجعل له شأنًا، أو يقيم له وزنًا، ولأنه يعلق بالنفس ويتغلغل بين طياتها تغلغلًا تظهر آثاره على الجوارح. وكثيرًا ما تجد بين الجهلاء من تُعجبك استقامته، وبين العلماء من يدهشك اعوجاجه، وإنْ كان صحيحًا ما يقولون من أنَّ العلم ما ينتفع به صاحبه، فكثيرٌ من الجهلاء أعلم من كثير من العلماء.

كانت هذه جولة مختصرة ورحلة مشوقة في هذا الكتاب الأدبي الفكري الماتع، ولعلي أفرد مقالة أخرى أورد فيها أفضل الاقتباسات التي أعجبتني.