مراجعة كتاب: قصة حياتي العجيبة لـ: هيلين كيلِر

قصة حياة هيلين كيلِر التي كتبتها بنفسها، ويا للعجب حين تعرف أنها لا تسمع ولا ترى، لكن ورغم ذلك تمكنت من إيصال صوتها والتواصل معي ومع ملايين البشر عبر هذا الكتاب الذي وصل إلينا بعد أكثر من مئة سنة، لكن كيف لها أن تخترق حاجز الوعي وتنهل من بحار المعرفة دون أهم حاستين من حواس الإنسان؛ السمع والبصر؟.

ربما لم يكن لها أن تصل لهذه المكانة والتمتع بهذه الذائقة الأدبية التي مكنتها من الكتابة والإبداع، لولا مدرستها التي صحبتها فترة طويلة من حياتها، والتي تغلبت على أكبر عقبة وتمكنت من النجاح في أهم مهمة، ألا وهي اللغة، فتعلم اللغة هي بوابة الانعتاق من سجنها المظلم وواقعها الكئيب، لكن كيف تمكنت من ذلك بدون سمعٍ أو بصر؟ هذا ما سوف أطلعكم عليه بعد قليل.

لكن أولاً أريد أن أسلط الضوء على تلك العتمة (التي كانت تعيش فيها هيلين)، فأنا قادر على فعل ذلك وأنتم كذلك قادرون على مجاراتي في هذه الإضاءات لأن لدينا جميعاً هذه العطية الربانية النفيسة، وهي التي قال عنها ربنا (وعلم آدم الأسماء كلها)، وقال الله كذلك (خلق الإنسان، علمه البيان) فالبيان (قراءة وكتابة) هو أحد أهم معطيات الإنسان من رب الأكوان، هو وسيط التواصل الأساسي بين بني البشر، وبدون تواصل (عبر اللغة) لن يكون هنالك حضارة أو عمران.

أما اللغة فيتعلمها الطفل عبر الاستماع في سنينه الأولى، وكذلك عبر البصر حين يشاهد شفتي أمه أو أبيه وهما يتحركان ثم يحاول التقليد رويداً رويداً، فإن ذهب البصر فالسمع يكفي، وسوف يتمكن الإنسان من استخدام اللغة الشفهية ببساطة، أما إن ذهب السمع فسيتعلم الطفل لغة الإشارات، لكن حين يذهب سمعه وبصره فهنا تكون المعظلمة.

إنك لتتعجب أشد العجب قدرة هذا الإنسان على التكيف وعلى ابتكار الحلول والتغلب على الصعاب، هذا المخلوق العجائبي القادر على تجاوز نفسه وذاته والقفز فوق حدوده ثم الإنطلاق بتفكيره لما هو أعلى شأناً وأعظم مكانة، فكم فكر الإنسان في هذا الكون وما فوقه أو تحته وكم فكر في الخالق ثم حاجج في وجوده من عدمه، حقاً إن هذه النقطة فقط هي ما يؤكد وجود وعظمة الخالق سبحانه، فهذا الإنسان العجيب بمكوناته الاعجب (جسم وعقل وروح) لا يمكن أن يأتي من مادة صماء أو صدفة عمياء.

لنعد إلى الكتاب.

في الكتاب شرح مختصر حول كيفية تعلم هيلين اللغة، وقد تم ذلك عبر اللمس، فلغة الإشارة كانت تجري على يديها، ورغم صعوبة الأمر إلا أن المحاولات الدؤوبة تحقق الهدف، وهذا ما قامت به المعلمة الفذة والصبورة (آن سوليفان) التي أتت إلى منزل الأسرة للعمل على رعاية وتعليم هيلن، ولقد عانت كثيراً في أول الأمر، عانت في كيفية الربط بين إشارات اللمس على اليد (لغة الإشارة الملموسة) وبين الموجودات، أو الربط بين الرمز والمرموز، ففكرة اللغة من أساسه لم تكن قد دخلت عقل هيلين، لقد كانت أشبه بمخلوق يعيش في عزلة وظلام، لا تعرف شيء ولا تدري بشيء ولا تتواصل مع من حولها من بني البشر أو مما في الأرض من حياة وجماد.

لكن سبحان الله كيف تغيرت، كيف نمى بداخلها ذلك الإنسان وأصبحت مرهفة الإحساس، أصبحت إنساناً بكل ما تعنيه الكلمة، وهذا يدل على أهمية اللغة، وأنها التي جعلت آدم عليه السلام مستحقاً لأن يسجد له الملائكة، هي الكرامة الإلهية، وهي الميزة التي خصنا بها عن سائر المخلوقات.

لقد كتبت هيلين هذا الكتاب وهي في المرحلة الجامعية، وذكرت فيه مختصر حياتها في أقل من ٢٠٠ صفحة، بدأت منذ الطفولة، ثم تحدثت عن بداية حياتها مع المعلمة آن سوليفان، وكيف تعلمت على يديها، وأيضاً تحدثت عن رحلاتها ومغامراتها وعن العقبات والمشاكل وأمور كثيرة مثيرة عن حياتها، حتى وصلت إلى الجامعة.

وفي الكتاب سيل متدفق من المشاعر، ووصف خلاب للأماكن (رغم عدم امتلاكها حاسة البصر) لقد امتلكت هبة الإحساس التي غابت عن كثير من المبصرين من بني البشر، فأوصلت إلينا مشاعرها وأفكارها وتجارب حياتها بقلمها.

لقد قرأت هذا الكتاب على ابنتي الصغيرة، والتي أحبت الكتاب وأحبت هيلن، ثم شاهدنا فلماً خاصاً بفترة طفولة هيلن وأثناء قدوم معلمتها إليها وكيف كانت الصعوبات التي واجهتهم، فكان الفلم مكملاً للكتاب، فنلنا بذلك المتعة والفائدة، والأهم من ذلك، استشعرنا نعمة الله علينا بما أعطانا من هبات وميزنا بالعقل والسمع البصر.

فالحمد لله أولاً وأخيراً.