أفضل وسيلة للخلود الغير بيلوجي (الغير مادي أو جسدي) عرفها الإنسان منذ القدم؛ كانت الكتابة والتدوين، وهنالك وسائل أخرى مثل النحت والرسم وغيرها، فالإنسان يعرف أن جسده سيفنى، لكنه قادر على تمرير أفكاره وأخباره وقصصه إلى الأجيال القادمة، إذاً هنالك جزءٌ منه قادرٌ على الخلود الدنيوي، والوسيلة لفعل ذلك هي عبر الكتابة والتدوين.
لكن هنالك نقلة ثورية في هذا الجانب، هنالك أداة جديدة ظهرت في القرن الماضي يمكن للإنسان عبرها أن يخلد، وليس أفكاره وقصصه فقط، بل صورته وشكله وأفعاله، أصبح بإمكانه أن يمرر أفكاره لكن أيضاً مع المشاعر التي يراها المشاهد في وجهه وهو يتحدث، يمكن أن يخلد ذكراه وتاريخه ليس عبر كتب التاريخ فقط، بل عبر الصورة المتحركة التي توثق الحدث بحذافيره، بدون رتوش المؤرخين وشعوذات الدجالين، إن التاريخ لم يعد يكتب، بل يصور أيضاً.
ثم أتت منصات النشر الرقمية وأهمها اليوتيوب، فتصوير مقطع مرئي لوحده لا يكفي كي تتم عملية الخلود للحظة والقول والفعل، بل يجب أن توثق كما كانت الكتب توثق وتتناسخها الأجيال، والصورة المتحركة أصبحت محفوظة في قواعد بيانات عملاقة تتم المحافضة عليها سنة بعد أخرى، لا ندري ما مدى استقرار التقنية لكن الظاهر أمامنا أنها وسيلة آمنة للخلود، هنالك أشخاص نشروا العشرات أو المئات من مقاطع الفيديو عبر هذه المنصة ثم غادروا الحياة ولازالت تلك المقاطع باقية هناك (منهم Sean Stephenson)، يصل إليها العشرات/المئات/الآلاف من المشاهدين كل يوم، لازال كلامهم المفيد ينتشر ويفيد أناس آخرين، أو تفاهتهم تنتشر وتضيع أوقات الناس.
وحتى الأشخاص الذين رحلوا قبل الثورة الرقمية وبعد ظهور آلات التصوير (الدكتور مصطفى محمود مثلاً) تم إحياء صورهم بما فيها من أفكار وفوائد ثم نشرت عبر تلك المنصة، فهم الآن حاضرون بيننا بأفكارهم وكلامهم.
هذا مفترقٌ تاريخيٌ عظيم، ونقلة في حياة البشرية، تلك الكاميرات التي لم تعد تغادر جيوبنا، وتلك المنصة التي لم تعد تغادر شاشاتنا (أعني اليوتيوب) هي أمور لا يستهان بها، لأن تأثيرها على حياة البشرية ومسار الإنسانية ليس عادياً، وغالباً لن يكون عادياً.
هنالك عدة مراحل بارزة في تطور هذا التقنية الثورية، من ظهور الكاميرات والسينما ثم التلفاز، ثم ظهرت أشرطة الفيديو المنزلية، وهي علامة بارزة لا يستهان بها، لأنها استعادة عند الطلب، لأنها حسب اختيار المشاهد، وهو النمط الذي استمر حتى اليوم عبر اليوتيوب وغيرها من المنصات (أنت تشاهد ما ترغب في الوقت الذي ترغب) وهذه النقطة بالتحديد تحتاج لتوقف وتأمل وتفكير، فقد فتحت الباب أمام الإبداع كما فتحته أمام الشيطان، وهي النقطة التي ساهمت بانتشار الإباحيات التي أصبح لها تأثير كبير في العالم المعاصر، ويمكن مشاهدة الفلم الوثائقي (ثورة الفيديو).
نعود ونقول: التصوير هو وسيلة للخلود، لذلك فالكاميرا الصغيرة التي خلف الهاتف، والتي يستهين بها الناس؛ هي أداة خطيرة، قد تصور مقاطع شخصية ثم ينتقل بدون إراداتك لشخص حاقد فينشرها، وحينها سوف يبقى ويتم تناقله، ربما إلى الأبد، إذا خرج الفيديو إلى العلن فما من طريقة لإعادته، بل نقول: إذا تم التصوير فما من طريقة للتراجع، التصوير هو أول الشرارة وبقية الأشياء تأتي تباعاً.
ومن هنا، كان للنشر الرقمي أهمية بالغة، لأنه الوسيلة التي تزاحم الكتاب في مهمته الرئيسية، فنشر الفيديو ليس أصلاً من أجل الحاضر بل من أجل المستقبل، وما بني للمستقبل ليس بأهمية ما يصنع للحاضر، لكن -وللأسف- فإن العامل المادي دخل على الخط، فأصبح أهم دافع وغاية يقصدها صناع المحتوى، في حين أن صانع المحتوى قديماً (مؤلف الكتاب) لم يكن مدفوعاً بالمادة، فالكتاب لم يكن وسيلة للكسب بل لنشر العلم وترك الأثر.
إن دخول العنصر المادي إلى عملية النشر الجديدة هو ما سهل الطريقة أمام الإباحيات، وهي تلك السوسة التي تنخر المجتمع من الداخل دون أن تُرى، والخطورة أن تأتي لحظة وينهار البناء بعد أن نخره السوس نخراً، أو تتداعى بعض حصونه من الضعف الذي الذي حل بأساساته.
لكن هذا النمط الجديد من النشر فتح الباب أمام العولمة، العالم الذي كان قديماً مغلقاً في وجه أي فكرة جديدة (أو دين)، فكانت الحروب هي الحل للدخول والانتشار، الآن أصبح الانتشار أسهل، وهذا أدى إلى إلغاء (الحرب من أجل نشر الفكر) التي استخدمت قديماً، وهي وسيلة اندثرت كما اندثر الرق واستعباد البشر (والتي ساهم الإسلام مساهمة كبيرة في اندثارها)، طبعاً لا نقول أن فكرة الحرب بشكل عام قد اختفت، بل (الحروب من أجل نشر الأفكار أو الأديان).
هذا بخصوص النشر بشكل عام؛ نشر المحتوى (نص/صورة/صوت/فيديو)، لكن على قمة المحتوى يتربع الفيديو كأقوى أداة نشر، وقد تطورت الوسائل التي تُسهّل عملية النشر خلال السنوات الماضية، كان التطور يسير في مسارين، مسار التصنيع (التصوير) ومسار الاسترجاع (المشاهد) ففي المسار الأول وصلنا إلى مرحلة متطورة من معدات التصوير، وأصبحت رخيصة ومتاحة لجميع الأفراد تقريباً (عبر الهواتف الذكية) بل أصبحت في يد الطفل قبل الكبير، والمسار الآخر (الاسترجاع) وصلنا فيه بعد مرحلة التلفاز ثم شرائط الفيديو ثم الأقراص وأخيراً المنصات الرقمية المجانية وأهمها اليوتيوب، أصبحت المشاهدة سهلة جداً إلى حد تحولت فيه من نعمة إلى نقمة في بعض الأحيان، فالإتاحة والجاذبية تسرق الأوقات وتضيع الأعمار وتشتت الجهود، وقد تدمر القيم والأخلاق.
ويبقى التنبوء بالمستقبل أمراً صعباً، فالتطور في هذا الجانب يسير بوتيرة متسارعة، فإلى أين نسير؟ وما ينتظرنا؟ الله أعلم.