قراءة التاريخ من قاعدة الجغرافيا
بدأت بقراءة كتاب (خلاصة تاريخ الأندلس)، وحين وصلت إلى التعريف بمدينة (غرناطة) فتحت المتصفح مباشرة وبحث في قوقل عن هذا المدينة، ثم صرت أتجول عبر الصور في شوارعها وأتأمل أبنيتها وجبالها، فاجتاحني شوقٌ جارف للتمشي في شوارعها والجلوس في ميادينها، فهجمت علي هذه الأمنية التي تهجم كلما قرأت كتاباً في التاريخ.
هي أن أسافر إلى بعض المدن والبقاع في هذا العالم الواسع، وأن أقرأ تاريخ تلك المدن والدول، بحيث أستقر في مدينة بضعة أيام أو حتى أسابيع، وأقرا تاريخ المدينة أو الدولة بينما أتجول في ميادينها وحاراتها، فأقرا فصلاً في ذاك الميدان، وفصلاً في تلك الحديقة، وبعض الورقات في ذلك المقهى وورقات أخرى في مقهىً آخر، وهكذا.
لكم سيكون الأمر ممتعاً، ولكم ستكون قراءة رائعة على متن تراب البلد نفسه.
أحقُ بِها هو من يعمرها
الأرض لله، والأحق بها من بني البشر هو القادر على إعمارها والاهتمام بها ورعايتها، أياً كان دينه أو معتقده، ونحن نرى أن مدن وبقاع من دول الإسلام قديماً قد صارت في يد غيرهم قبل مئات السنين، وذلك لأن دولة الإسلام كانت في انحطاط آنذاك، فكان هنالك من هو أولا بتعميرها وتطويرها وعنايتها، فآلت إليهم، وهكذا هي سنة الحياة.
أتذكر حين كنت أسكن مع أحد الشباب قبل سنوات في شقة واحدة، وقد كانت أجزاء من المنزل تتعطل فأهتم أنا لإصلاحها بينما هو لا يرغب في ذلك، وذلك من منطلق أنها ليست شقته وإنما هو مستأجرٌ فيها فترة ويرحل، أما أنا فلا فرق عندي، فما دمت أستوطنها في هذه اللحظة فهي سكني، وأنا أعتني بسكني وأهتم به، فكان عاقبة ذلك أن خرج منها وبقيت أنا فيها ثم جلبت أسرتي من بلدي إلى هنا والحمد لله مستقر فيها منذ سنوات، فعلاً أحق بها من هو المستعد على إعمارها والاهتمام بها، هذا هو حال الأرض وحال سكانها.
لا يوجد متسعٌ للذكر
قد يحمد الإنسان ربه في ساعة من الساعات، فيغوص عميقاً في التفكر والتذكر، تمضي الدقائق وهو في نعيم حين يتذكر ويعدد نعم الله عليه ويردد “الحمد لله الحمد لله” وقلبه قد امتلأ امتناناً لخالقه، فتأتيه نسمة شعورية ترفع قلبه إلى السماء ويشعر بسكينة وحلاوة ولذة لا تعادلها لذة، ثم يفيق وقد انتهى الوقت أو وصل لنهاية الطريق أو تذكر عملاً مهماً ينتظره، فيتحسر لأن الوقت قليل، فهو في هذه الحياة كي يعمل أيضاً، وحينها يتذكر الجنة، ويتذكر أنه سيكون متفرغاً لذكر الله بجانب النعيم، فهو يتنعم ثم يحمد الله على أصناف تلك النعم، نعيمٌ وحمد ثم نعيمٌ وحمد، فتكون لذة الحمد الروحية أعظم من لذة الجسد المادية.
إن الإنسان يشعر بلذة الروح حين يذكر الله بعد أن يتمكن من تصفية قلبه شيئاً يسيراً، بمعنى أن تلك اللذة هي مصاحبة للصفاء والنقاء، فتخيل كيف سيكون وضع المؤمن في الجنة حين يحصل على الصفاء والنقاء الكامل، أي أن لذة الذكر والحمد سوف ترتفع إلى أبعد مستوى، وربما أن هذا المستوى لم يصل إليه الإنسان في الأرض أو أن أولياء الله المقربين قد وصولوا إليه في أوقات قليلة فقط لم تدم طويلاً في حياتهم، بمعنى أنهم ذاقوا نتفاً بسيطة، وتلك النتف هي من البشريات بأن نعيم الجنة (الروحي) هو أعظم وأدوم.
أنا وصاحب الباص وحديث رسول الله
حين أخرج من شارعنا الفرعي إلى الشارع الرئيسي، أجد أحياناً مكروباصاً ينتظر للركاب، وعادة ما يكون فارغاً أو فيه راكب أو راكبان، وعادة ما أحاول تجاهله وأمضي قدماً بضع خطوات حتى أوقف باصاً غيره كي لا أضيع وقتي مع الأول.
ثم فكرت، لماذا لا أكون سبباً في إسعاد إنسانٍ آخر، لماذا لا أكون سبباً في رزقه، قد أنتظر بضع دقائق لكني سأمنح ذلك السائق دفعة أمل بأول راكب يأتيه في بداية يومه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فلو كنت مكانه لأحببت أن يدخل ذلك الراكب لسيارتي وأكسب منه بعض الجنيهات.
يفترض بنا أن نفكر في الطرف الآخر في تعاملاتنا الحياتية، فعندما نشتري من السوق نفرح لأننا سنكون سبباً في رزق إنسانٍ آخر، وبالتالي تيسير حاله وإشباع بطون أولاده، وحين نربي أنفسنا على هذه المشاعر النبيلة، حينها سنكون أول من يسكب، لأن الفرحة ستكون دائماً فرحتين، فرحة أنك اقتنيت ذلك المنتج (فرحة برزق الله لك) وفرحة لأنك ساهمت في تيسير حال أحدهم (بأن منّ الله عليك وجعلك سبباً في سعادة أحدهم)، وعند هذه الحالة سينطبق عليك ما قاله رسول الله صلى الله عليه (رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى).
حارس عمارتنا ونعمة التمكين والمعرفة
تأملت في حارس عمارتنا الذي يتحلى بالتقوى ويحافظ على الصلاة في المسجد، وهو أشد محافظة للصلاة مني، ثم تأملت في نفسي وتساءلت عن الفرق بيني وبينه: لو كنت في مثل مستواه من التقوى هل نكون عند الله سواسية؟ لا بالتأكيد.
لنأخذ مثلاً ثلاثة نماذج أو أشخاص: الأول هو الحارس، الذي لم يؤت سعة من المال ولا سعة من العلم، والشخص الثاني هو أحد سكان العمارة ممن آتاه الله سعة من المال لكن لم يؤت سعة من العلم، والثالث هو أنا الذي آتاني الله سعة من المال والعلم، وأنا لا أعني العلم بمعناه الأصلي الذي تجده عند العلماء وطلبة العلم، وإنما العلم الأساسي الذي نتحصله من كمية المحاضرات والدروس والكتب التي قرأناها، ومن التجارب الحياتية التي عشناها، والتي علمتنا دروساً مهمة متعلقة بالحياة والآخرة، وطبعاً ذلك الحارس أو الشخص الآخر البعيد عن سلك التدين لم يتحصل هذا هذا المقدار من المعرفة والتجارب التي حصلتها أنا، والتي هي من نعمة الله عليّ.
إذاً حارس العمارة لو أنه قصّر فقد يكون له عذرين، لأنه مشغول ولأنه قليل المعرفة، والساكن الآخر لو أنه قصر فعنده عذر، لأنه يجهل الكثير مما يعينه على طاعة الله، لكن أنا لو أني قصرت فليس لي عذر، فقد آتاني الله نعماً كثيرة (تتطلب الشكر الكثير) وقد آتاني الله معرفة غزيرة (تدفعني إلى الطاعة والإلتزام) ولهذا يجب أن يكون مقدار تقواي أكبر من تقوى الساكن العادي وأكبر بكثير من مقدار تقوى الحارس، وهذا يدفعني لأن أعذرهم ولا أعذر نفسي، وأن أستعشر منة الله عليّ ثم أجتهد أكثر منهم.
التقوى ببساطة
سأل أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، الصحابيَ الجليل، أبي بن كعب، رضي الله عنه، عن معنى التقوى؟ فقال يا أمير المؤمنين: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى.. قال: فما صنعت؟
قال: شمّرتُ واتقيت، قال أُبي: فذلك التقوى.
وقال الشاعر:
خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا… وَكَبْيرهَا ذَاك التُّقى
وَاصنَع كَمَاشٍ فَوقَ أرضِ الشَوكِ يَحْذَرُ مَا يَرى
لاَ تَحْقِرَنَّ صَغِيرةً… إِنَّ الجِّبَالَ مِن الحَصَى
هذا هو أفضل تعريف أحبه وأراه قريباً من الواقع، ولكي أبسط الأمر الأكثر، سأضرب هذا المثال وهذا الموقف الذي مررت به:
كنت أمشي في الشارع الذي كان قد ابتل من جراء المطر، وحذائي فيه شقٌ من أسفله، فإن وطأت البلل فسوف يبتل الجورب، لذلك كنت أحرص على أن أطأ الأماكن اليابسة وأحرص على الابتعاد عن أي ماء أو طين، وقد شبهت حالي بالتقي في هذه الحياة، فهو يمضي في خضم الحياة بكل تفاصيلها وأحداثها لكنه في حذر في كل أجزاء حياته، ولا يتعلق الأمر بالحلال والحرام فقط، فهذه أمور واضحة، ولا يتعلق أيضاً بالفرائض والشعائر فقط، فهذه أمور واجبة، بل في كل فعل وكل مشروع وكل قول وكل خطوة يخطوها الإنسان في الحياة، دائماً يراقب نفسه ويسألها السؤال الدائم، هل هذا يرضي ربي؟ هل هذا عمل صالح؟ هل هذه الخطوة صحيحة؟ هل وهل وهل، وهو عكس الرجل الذي يمشي في الشارع دون الاهتمام لمواضع قدميه.
ثم رأيت براز كلب (أعزكم الله) بينما أمشي وقد وقعت قدم أحدهم عليه، ثم رأيت مواضع خطواته التالية التي كانت قد وسخت الشارع، لقد وقع في ذلك لأنه لم يكن حريصاً (كحال الرجل الغير تقي) وبالتالي هو لم يؤذي نفسه فقط، وإنما كانت له آثار لم يشعر بها، لقد تسبب في نشر الأوساخ (كحال الغير تقي حين يتسبب في نشر الفساد دون أن يشعر).
أحياناً كنت أدوس على مواضع البلل اضطراراً مني، لكني كنت أمضي سريعاً حتى أنتقل إلى اليابس، وقد شبهت حالي بالتقي الذي يضطره الأمر لأن يدخل في عمل فيه وفيه، لكن فقط من أجل أن ينتقل لعمل أفضل يحقق صلاحاً أكبر، وطبعاً هو لا يقع في الحرام (لأني لم أضع قدمي في بركة ماء مثلاً، فقط طين مبتل قليلاً)، وهذا يمكن أن يحسب من باب (اختيار الأقل سوءاً) في الفقه الإسلامي.
ورأيتني -كذلك- أسلك انعطافات أطول كي أتجنب البلل، وهذا هو حال التقي الذي ربما اضطر لأن يتعب قليلاً كي يمضي في طُرقٍ صالحه ويبتعد عن أي حرام أو شبهة، ليس كمن يسعى (للمال مثلاً) بأي طريقة كانت لأنه يريد الربح السريع والفوز القريب.
إن التقوى هي الحرص، هو المراقبة، هو تلمس مواضع رضى الله، هو البحث المتواصل (لإيجاد أفضل الطرق) هو السعي الدائم للمعرفة، باختصار: هو أسلوب حياة يتخذه العبد في جميع أموره.