أنهيت مشاهدة محاضرة للشيخ محمد حسين يعقوب ضمن سلسلة (شرح مدارج السالكين) وقد تحدث عن (منزلة التفكر) ومما ذكره أن يتفكر الإنسان كيف سهل الله له الفائدة وسخر له خلقه ليكونوا سبباً في هدايته، ليس فقط ممن حوله، لكن حتى من هم يبعدون عنه آلاف الكليومترات، وفعلاً كنت أشاهد تلك المحاضرة القيمة التي يلقيها شخص قد شاب رأسه في عبادة الله والتروحن وفهم دقائق الأمور الإيمانية ثم هو يعطينيها على طبق من ذهب، فأشاهد وأنا أشرب الشاي في غرفة دافئة، ليس هذا فحسب، وإنما سخر لنا الآخرين والبعيدين ممن طوروا لنا هذه التقنية وصنّعوا الحواسيب، فعبر الانترنت أشاهد، وهذا الانترنت وهذا الحاسب الآلي ربما يكون نتاج جهود أناس لا يؤمنون بالإله إصلاً، إنه فضلٌ عظيم ونعمة جليلة جداً.
ثم تفكرت في هذا الأمر، وتذكرت أني شاهدت بالأمس مقطعاً لمفكر إسلامي لديه عقلية جبارة، ولا أحصي عدد المحاضرات التي انتفعت بها من هذا الإنسان الموسوعي في السنوات الماضية، وكم حجم الفوائد التي تلقيتها وكم هو مقدار تطور حياتي الذي تسبب به فِكر هذا الرجل، وهو في قارة مختلفة عن القارة التي أسكن فيها، لكني أستفيد من نتاجه ربما أكثر من بعض جيرانه.
ثم تذكرت أني قبل أمس شاهد محاضرة TED لامرأة قد وصلت لختام عمرها وهي تعطينا تجربة ودرساً في الحياة فَتَلقيته بعقلٍ مفتوح وقلب مشتاق لكل معرفة وتجربة إنسانية، وأنا هنا في مكاني أتلقى وأتعلم وأفهم وأتطور.
وهذه الأيام أقرأ في كتاب، وأنهيت قبل أسبوع كتاب عن التاريخ خرجت منه بفوائد جليلة، وتلك الكتب أقرأها وأنا متمددٌ فوق سريري عبر الهاتف بكل يسر وسهولة، ثم إني كنت في طريقي بالأمس للمنزل فاستمعت لحلقة صوتية (بودكاست) لمقابلة مع أحدهم ممن لديهم تجربة حياتية ثرية وسافر عشرات البلدان وتعلم حتى رق قلبه ونضج عقله، فكنت أستمع وأستمتع بحجم الخلاصة التي أتلاقها عبر هاتفٍ في جيبي وسماعة فوق رأسي.
إننا نعيش فترة ذهبية في عصر البشرية، هذه التغيرات ليست أمراً عادياً، هذه الاشياء لا يمكن أن لا تفضي في نهاية المطاف إلى لا شيء، بل سيكون هنالك أشياء وأشياء، ستكون هنالك طفرات وطفرات.
لكن طبعاً هذه الإمكانيات الضخمة والخيارات المتاحة تعمل في كلا الاتجاهين، يمكن أن يصل بها الإنسان لمستوى متدني من الإنسانية والسوء والفحشاء لم يكن يتخيل أن يصل إليه أيُّ إنسانٍ في الماضي، ويمكن أن يصل إلى مستويات عالية من الفكر والتجربة الروحية والنفسية لم يصل إليها أيُّ إنسانٍ في القدم.
وأنا هنا أقول (يمكن) فلا يلزم توافر هذه الإمكانيات وصولُ الإنسان لتلك الدرجات، لأن تعدد الخيارات يُلقي بثقلة على الإنسان وإرادته وقدرته على ضبط نفسه، ومن يتمكن من الإفلات من كل هذه المشتتات والملهيات، ناهيك عن الفواحش والموبقات، هو من (يمكن) أن يعلو ويسمو.
إن المؤمن يسمو مع كل معلومة يتلقاها ويرتفع مع كل معرفة يكتسبها، إن كثرة التجارب تثري الروح وتنعش العقل، وقد بات بإمكان الإنسان اليوم اكتساب مئات وآلاف التجارب الإنسانية من مكانه، فيضيفها إلى تجربتة ويعمق بها فهمه، وبها يمكن له أن يصل لطفرات روحية عالية، إن هو سلك درب الله، وجعل القرآن الكريم منطلقة واعتماده، فيكون المكتسب الخارجي رديفاً له للغوص في كتاب الله أعمق وأعمق.
أما الطفرات الفكرية فكلما تغذى العقل وهضم غذاءه تفكُّراً وتدبُّراً، كلما وصل أبعد، وقد كان الكتاب صعب المنال في السابق، ثم تسهلت الأمر قبيل عشرات الأعوام، فصار الحصول عليه أسهل، وصارت المكتبات الرقمية في متناول الجميع، لكن بقيت المعظلة الأكبر؛ إنه الوقت، كم يستوعب عمر الإنسان من كتب ياترى؟ قليلٌ طبعاً، أما اليوم فقد صار بإمكان المرئ ان يلتهم زبدة الكتاب في جرعة لا تزيد عن عشرين دقيقة (مثل بعض محاضرات TED أو عبر ملخصات الكتب)، وبهذا يمكن أن يعرف أكثر، وكلما عرف كلما تمكن من السمو والصعود، وقد يصادف أن يكون من ذوي العقول والألباب، ثم يمضي بعزم في استغلال وقته باكتساب أفضل المعارف، وحينها قد يصل يوماً ما لطفرة فكرية.
الطفرات الروحية في الغالب هي بين الإنسان وربه، لكنه قد يصنع المستحيل عبر طاقة إيمانه، لأن الإيمان طاقة روحية جبارة، يمكن أن توَجَّه للبناء والعمل والإنتاج، أما الطفرات الفكرية فهي لكل البشر، لأنها قد تترجم إلى كتاب أو أي شكل من أشكال المحتوى الرقمي، فيصل العالم بها إلى درجات أبعد.
إلى أي شيء يؤدي هذا كله، إلى المنتهى الأوحد (وأنّ إلى ربك المنتهى) فهل يكون نتاج هذه كله يظهر من حقائق الدين ما يجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجا، الله أعلم، لكن الإحتمال وارد، الاحتمال وارد.