أتممت بحمد الله قراءة كتاب (صيد الخاطر) لابن الجوزي، والحمد لله أن يسر لنا هذا الكتاب وسخر لنا من يحققه ويخرجه أجمل إخراج، فقد قرأته من نسخة جيدة تزيد عدد صفحاتها عن 800 صفحة، وهي إلى الأصل أقرب كما بين المحقق، حيث استعان بعدة مخطوطات وبذل مجهوداً واضحاً في اخراج الكتاب (هو الشيخ طارق بن عوض الله بن محمد أبو معاذ ) وقد حملته من موقع المكتبة الوقفية (هذا الرابط) وأرجو أن لا أكون آثماً في ذلك.
ولقد نويت وبدأت في قراءة وتسجيل بعض الخواطر القيمة ثم نشرها في قناتي في اليوتيوب، وهذا ما أقوم به حالياً، ,اتمنى أن أتم هذا العمل حتى نساهم في نشر أفضل ما في هذا الكتاب القيم، بل حتى استخلص أفضل ما فيه وأودعه قناة اليوتيوب وقناة التلجرام كي أعود إليها بين الفينة والأخرى لأذكر نفسي وأجدد الهمة.
سأذكر هنا أبرز المعالم التي ميزت هذا الكتاب، والتي عكست أفكار المؤلف، فأول ما تعرفه عنه، أنها صاحب همة عالية، وأنه يحب العلم والقراءة حبًا جما، ففي خاطرة متأخرة يذكر أنه قرأ أكثر من 20 ألف مجلد، ولا يخفى هذا على من يقرأ بعض مؤلفات ابن الجوزي الغزيرة، فقد قيل أنه ألف أكثر من 600 كتاب، ولعلك تلمس من خلال قراءة الكتاب حرص المؤلف على الوقت أشد الحرص، وحرصه على استثماره في العلم وفي التأليف، كونه قد أدرك أن خير ما يستثمر فيه العمر العلم، وخير ما يخلف من بعده الكتب.
من المواضيع التي تكررت بأكثر من صيغة وأكثر من طريقة، موضوع التسليم وعدم الاعتراض، فساعة يتحدث عن الدعاء وعن لزوم القبول والرضى بما ينتج عن ذلك من إجابة أو تأخير أو عدم تحقق للمطلوب، فنحن ندعي الله لتحقيق أغراضنا، صحيح، لكننا نتعبد الله بالدعاء، سواء تحقق المراد أم لم يتحقق، فلا يجب أن نتوقف عن السؤال والدعاء، فإن الدعاء في حد ذاته هو المطلوب، ثم الرضى والتسليم.
وتلك الخواطر التي تحدث فيها عن التسليم للمقدر سبحانه، هي من الفوائد الثمينة في الكتاب، فهي تؤسس في قلب المؤمن عقيدة التسليم التي تقوم على ركنين، كوننا عبيد مملوكين، وكونه حكيم، وأننا لا يمكن أن نصل بعقولنا لمنتهى حكمته، قد نفهم أشياء وتغيب أشياء، فالتسليم وليس غير التسليم.
لقد تحدث عن نفسه، عن تقصيره في حق ربه، وسطر لنا بعض ما بثه من مناجاة لربه، وكذا كلام شيخة ابن عقيل في اتهام نفسه وتوبيخها، بل أنه يقول عن نفسه أن ذنوبه أعظم من ذنب فرعون، وقد تجد هذا الكلام عجيبا من عالم لا يتجرأ على الكبائر، لكنه أمرٌ معروف عن الصالحين، من يكرمهم الله بمعرفته ويذيقهم من لذة حبه، فيقصرون ويميلون إلى الدنيا قليلًا، فيكون هذا من أعظم الذنوب لأنهم اعرضوا عن ملك القلوب، لأن العبادة قد سهلت عليهم والطريق قد وضحت لهم.
أما فيما يخص موقفه من الزهد والتصوف، فهو في موقف معتدل، إنما سخطه على متصوفة أهل زمانه، فيبدو أن أكثرهم كان يمضي في الطريق بدون علم، وأنها أصبحت في وقته صنعة تستخدم لجلب الدنيا، لذلك دمدم عليهم في كتاباته، لكنه احترم الأوائل الصادقين، أمثال معروف وبشر الحافي وغيرهم، إلا أنه ينتقدهم في بعض المسائل دون أن يمس ذلك حبه وتقديره لهم، بل أنه يقول عن نفسه أنه كان له حال في بداية شبابه، وأنه حين جرّته الدنيا بحبالها عاد إلى قبور الأولياء والصالحين بالزيارة فنفعه ذلك، وأنه قد ذاق من حب ربه ويشتهي العزلة والخلوة لولا زاجر العقل وحب العلم والاشتغال به.
وقد تكرر موضوع المال وأهمية الاقتصاد في الإنفاق لطالب العالم أو طالب الآخرة، ويبدو أنه قد عانا من هذا الموضوع، وخاصة أنه ليس من النوع الذي لا يبالي بمطعمه أو ملبسه، فهو وإن كانت همته الآخرة يريد أيضًا حضه من الدنيا، لكن حب العلم والاشتغال به يمنعه عن العمل أو التجارة، لكنه أيضًا يهرب من هبات الأمراء لما فيها من تخليط في المال الحرام وقد جرب أخذها فانعكست على قلبه ظلمة وقسوة، لذلك يحرص على التذكر والنصح بأن يقتصد طالب العلم في ماله ولا ينفقه كله، ويحرص على توفير مصدر دخل يساعده على جمع همه، ومن أجل أن لا يذل للناس أو يأخذ من أوجه غير صالحه، وأن يدخر في وقت سعته لوقت ضيقه، وغيرها من الخواطر التي تدور في فلك المال.
وله خواطر حول النساء والزواج، وربما وجد القارئ أفكاره شاذة غريبة، ففي أحد الخواطر ينصح القارئ بأن يقلل من الإتيان، لأن في ذلك حفظ البدن، بل يدعوه لأن يكون له موسم في السنة يجامع فيه زوجته ثم ينصرف عنها بقية الأشهر، ويدعو إلى حفظ السر حتى عن الزوجة والولد، كما أنه يعتقد الكاملين من الناس هم الكاملين خلقة وطولا، ثم يصف بعض أنواع الناس المبتلين بشيء في خلقهم وشكلهم ويذكر أن مثل هذه الأنواع من الناس لا تكون من ضمن خاصة الله وأحبابه، بل يذكر أيضًا بعض أرباب الأعمال البسطية مثل الزبال، كما أنه لا يرى الخير في معظم خلق الله في زمانه، وحتى من طبقة العلماء أو الزهاد، ويرى الابتعاد عن عامة الناس وعدم مخالطتهم، وفي العموم هذه الخواطر قليلة محصورة، وأما أغلب المواضيع والخواطر، فقيّم نفيس.
وهكذا، يتشكل هذا الكتاب ليعكس لنا حياة إنسان حاول أن يستفيد بأكبر قدر ممكن من ساعات عمره وأنفاس حياته، عكس لنا تضاريس النفس البشرية التي تتشكل وتتلون، ولا شك أنه كتابٌ نفيس لا يُستغنى عنه، ويُفضل الرجوع إليه لتذكير النفس بين الفينة والأخرى، ولشحذ الهمة لمعالي الأمور، وللتفكر في عجائب صنع الله في هذا الإنسان ومافيه من عوالم وأكوان.
والحمد لله أولًا وأخيرًا.
ملحق
ومن الخواطر العجيبة (والطويلة) ما ذكره عن النكاح والنساء، وذلك في صفحة 374، وهو يدعو إلى الاقتصاد في الباءة، وعدم تضييع طاقة الجسم في المبالغة في الإتيان، والاكتفاء بزوجة واحدة، ثم يذكر قصة من أعجب ما قرأت، قصة يرويها بالأسانيد عن أحد الخلفاء أو الأمراء، حيث كان كثير الإتيان، وكان يطلب المزيد ويريد القوة الجسدية ليتمكن من الاستزاده، وأدى به ذلك لأكل وصفه أخذها من طبيب له، فأدت إلى مرض (الاستسقاء) أو شيء من هذا القبيل، فلم يجد له الأطباء من دواء إلا أن يدخل في فرن لعدة ساعات ثم يخرج إلى الهواء الطلق، ففعل وصاح ومنع من الخروج من الفرن، فخرج ولم يتحمل وطلب العودة، فعاد فتقرح جسده ثم مات شر ميته، فيالها من ميتة قبيحة.
ابن الجوزي يطلب من الله تطويل العمر
من الخواطر اللطيفة، ما ذكره فيما طلبه من ربه، حيث طلب منه أن يمده في العمر ليحقق آماله، هو لم يذكر لنا ما نوع اهدافه لكن الظاهر أنها في باب العلم والكتابة والتأليف، وقد ذكر أنه إن حقق الله وأمد الله في عمره فسوف يخرج هذه الخاطرة في هذا الكتاب، وإلا فلن تظهر للناس، وما قراءتنا لها إلا دليل أن الله قد حقق مراده وأطال في عمره، ثم إني تفحصت تاريخ ميلاده ومماته فرأيت أنه قد عاش نحواً من 88 سنة