لإن كان بالإمكان لبعض قساة القلوب، أجلاف الطبائع، أن يعيشوا ملحدين لا يعترفون بوجود الخالق، من إلى الوجود بعثهم، وبالنعمة أشهدهم، إلا أنه يصعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً، على الإنسان ذو الأخلاق العالية، والطبائع السامية، أن يعيش ملحداً لا يمتلئ قلبه بالإيمان بوجود الخالق وهيمنته على كل الخلائق.
دعني أوضح وجهة نظري عبر موقف شخصي.
حين طلب مني إبني أن أشتري له بعض الفاكهة ونحن في الخارج، تذكرت أن الجيب عطلان، والرصيد شبه فارغ، فأجلت له الأمر إلى يومٍ آخر، حين أستلم الراتب، فحدثت نفسي وحدثتني، وطمأنتها وطمأنتني، بأن هنالك رب يسمع ويرى، وقد اطلع -بالتأكيد- على رغبتك تلك يا ولدي الصغير، وهو المتكفل بي وبك وبكل الخلائق، فرزقك قبل رزقي عليه، وما أنا إلا رسولٌ أوصله إليك، ثم التفت إلى القلب وطلبت منه أن يطمئن، ففاضت منه نسمة سعادة خفيفة أبهجت الروح، وانعكست على الوجه عبر ابتسامه عابرة، فقد سَعُدَ القلب لأنني -بحمد الله- من معاشر المؤمنين، وأنني من جموع المعترفين والمقرين بوجود الخالق الأكرم سبحانه وبحمده، وبهذا الإيمان أنا أعيش دون خوف من مستقبل مجهول، ودون قلق على عيال أو على من أعول، فإن لي ولهم ربٌ مطلق العلم والرحمة والوجود، هو في السماء إله وفي الأرض إله وهو معنا أينما كنا، يسمع همسات القلب قبل أن ينطق بها اللسان، وهو لا يعجزه شيء، وهو أرحم من أي شيء، فكيف بعد كل ذلك نخاف أو نقلق، وكيف بعد ذلك لا نعيش في سعادة غامرة، وبهجة عامرة.
إن الإنسان بطبعه ضعيف، لكن فئة قليلة من الناس لا يعترفون بضعفهم ذاك، ويمضون في الحياة مثل الجرافة التي تدمر كل شيء في طريقها، يسعون لتحقيق مآربهم دون مراعاة للأخلاق وبلا اعتبار للرحمة، ينهشون في لحوم الغير متى تسنّى لهم ذلك، همهم أنفسهم، ولا يرون إلا الـ(أنا)، وهم يعتبرون الحياة ميدان سباق يسعون فيها لتحقيق أكبر مكسب، وينالوا أعظم مكانة، لا يسمعون حفيف قلوبهم حين تضعف وتئن، لا يترك -أحدهم- له الفرصة أن يطلب ويلجأ، وقد لا تجده يسمع لصوت طفله حين يطلب منه شيئ من فاكهة، فهو -اصلاً- بنفسه مشغول، أما الطفل فهو خائف أن يقول، فقد تعود منه القسوة والحرمان والبعد.
كيف للإنسان العاقل أن يعيش دون أن يعترف بوجود الإله العادل، كيف له أن يطيق ذلك، لأنه إن لم يقر -لذلك- قلبه، أصبح مآله لأحد أمرين: إما أن ينقلب لمثل أولئك؛ قساة القلوب، أو ينفطر قلبه، ويضرب عرق في روحه، فيصبح أحد المرضى النفسيين، سواءً اعترف بذلك، أم كابر.
لازلت أتذكر تلك الفتاة التي دخلت في دين الله -أو أوشكت- حين سمعت كلاماً جديداً عليها من فم أحد الدعاة، لم تكد تصدق أن إيمانها بوجود الخالق سيعفيها عن هم الرزق وسينجيها من براثن القلق على الراتب والوظيفة، انتعشت روحها وكأنما قد كان مسجوناً في قفص فطار، طار حين سمعت أن الإيمان بالله يقتضي أن توقن أنه المدبر لجميع أمرها، وأنه الراحم لها أكثر من نفسها، وأنه المتكفل برزقها والقادر على تسخير البلاد والعباد لعبده إن أراد ذلك، وأنت أيها العبد المسكين الضعيف، أبواب السماء مفتوحة لك، تدعوه متى تريد، وهو الرب الكريم، سمعه منصتٌ لحديث قلبك.
إن في دين الله عزاءٌ للطيبين، لهم فيه سلوى وموعدٌ جميل، إن في القرآن الكريم بشرى لمن يعمل الصالحات، لمن يرحم ويعطي ويسامح، إنه مصدر اطمئنان لكل قلب رحيم، يرحم صغاره وأقرباءه ومن حوله، ( وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا) إن فيه تطميناً لكل قلقٍ من مستقبل مجهول، أو رزقٍ غير معلوم (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)، إن فيه توكيداً للأخلاق الحميدة، تلك التي يجدها الإنسان السوي مغروسة في قلبه، فحين يرى من حوله يغايرون ما يجده في قلبه، يلتفت إلى الإيمان، فيجد فيه سلوته، وعزته، وفرحته، …. وكل أمله.
لهذا كله، وأكثر منه، أستغرب -أشد الاستغراب- كيف يعيش الأسوياء من بني البشر، بدون الإيمان بالخالق عز وجل؛ كيف يطيقون الحياة بدون الاعتقاد بوجوده، وربوبيته، وقيوميته …. سبحانه وبحمده.
👍