من شرفتي الصغيرة

مربعة الجدران، مفتوحة على السماء، تسمح لمن يستلقي في أحضانها بمشاهدة السحب الصغيرة وهي تداعب القمر، هي الشرفة (البلكونة) الصغيرة التي تسمح للشمس بالمكوث فيها ساعات عديدة كل يوم، على عكس أختها الكبرى، والتي لا تسمح للشمس إلا بساعة من نهار، تطل في خجل وما تلبث أن تغرب قبل غروبها.

هائنذا أستلقي بعد أن نام الجميع، وبعد أن أطفئت الأنوار في الداخل، لم يبقى إلى نور السماء الذي لا يكاد يضيء شيئا من هذه العتمة، وأشعة ساطعة تخرج من شاشة الحاسوب الذي أطقطق على أزراره محاولاً صياغة هذه الكلمات، مادٌ لأرجلي التي لا تستطيع التمدد في هذا المربع الصغير، متكئ على وسادتي التي أصبحت نزيلة دائمة في هذا المكان الحي، وكأني بها وهي تشكرني صباح مساء أن بوأتها هذه المنزلة السامية واخترت لها مكان إقامة في الهواء الطلق.

صوت طفل يبكي، همهمات أمٍ مع أولادها، رجل يمشي فيحدث ضجيجاً بقدميه، باب يغلق، صوت شاحنة مزعجة تمر في الشارع القريب، أصوات خفيفة متداخلة تندمج مع سكون الليل المهيب لتصنع لوحة فنية تراها جميع الحواس، العين والأذن مع الأنف الذي يستنشق نسيم الهواء البارد في ليلة صيفية هادئة.

إنها لحظات الهدوء والانسجام التام، الغياب في بحار النسيان دون أن يعكر مزاجك تفكير أو تذكير، الغوص في اللاشيء والحديث بدون كلام، إنه صمت العقل الذي يرهقك كل ساعة بألف فكرة وفكرة، لكنه حين يأتي هنا يصمت مذهولاً من قوة الشعور، إنه بسمة القلب وانبساط الروح، إنه النعيم الذي لا يعادله نعيمٌ دنيوي، نعيمٌ سهل المنال، لا يكلف الكثير، فالسماء متاحة بالمجان، والليل يعطي الجميع دون جدال، أما نسمات الهواء فهي تدخل كل دار دون استئذان.

من شرفتي الصغيرة أحدثكم، معذرة، بل أنا صامت لا أتحدث، إنما أحاول ترجمة الكلام، رغم أني مترجمٌ سيء، أحاول نقل حديث الروح وهمسات المشاعر، أحاول يائساً تحويل الشعور إلى كلمات، ولا يتم ذلك إلا بالمرور بقنطرة العقل، وقد أزعجته حقاً، هذا العقل المسكين، فهو لا يريد العمل في هذه الأثناء، فهي فترته الذهبية كي يهدأ ويستريح، يصيح في قائلاً، ألا دع الكتابة واتركني جانباً، دع اللحظة تغمرنا بجلالها، دع السكينة تبهجنا بجمالها، دع الليل يسكب علينا من خشوعه الغامر.

أيها العقل اللبيب، أستميحك عذراً وأطلب منك طمعاً أن تأذن لي بإزعاجك شيئاً يسيراً في بعض حين، أن أخرجك من حالتك السرمدية إلى مهارتك الذكية، كي نكتب بعض السطور الألمعية، في بعض الليالي التي نجلس فيها هاهنا، في هذه الشرفة الصغيرة، كي أدون بعض الأخبار، وأوثق بعض الأفكار، فكما ترى، لم يبقى إلا القليل قبل أن نرحل، وفيك الكثير مما يود أن يظهر، دون بعض ما فيك كلما غمرك حضور الليل الجليل.

وافق العقل بعد هنيهات من تفكير، سيتعاون معي لأكتب بعض اليوميات والخواطر، ويودع في هذه المقالات ما يلح من حكم المواقف ومنوعات المآثر.

كان معكم عمر، من شرفته الصغيرة، دمتم في خير، وإلى اللقاء