حملت جائحة كورونا معها رسائل عديدة، من تلك الرسائل؛ الحث على الاستفادة من الوسائل التقنية الحديثة في تيسير حياتنا، فلقد أصبحت مدننا مزدحمة، وباتت شوارعنا متكدسة بالعمارات، كل واحدة تحمل من البشر ما يمكن أن يشكل قرية كاملة، وهذا التكدس البشري كان له أسبابه المنطقية، فمن أجل المصادر والموارد، ومن أجل المصالح والمدارس، تجمع البشر في المدن الأكثر ازدهاراً ونماءً، لكن هنالك أضرار جانبية لهذه التكدسات البشرية، أكثرها وضوحاً هو سهولة انتشار الأمراض.
ثم ظهر الانترنت، وظهر الانفجار المعلوماتي، وأصبحت المعلومة متاحة لكل إنسان، إذاً لست بحاجة لأن تعيش داخل تلك التجمعات البشرية المزحمة إن كان هدفك القراءة والمعرفة، يمكن عبر الانترنت أن تحصل على ما تشتهي من كتب من مكتبات العالم العريقة، لكن ماذا عن العمل ومصادر الدخل؟ الحمد لله صار هنالك فرص كثيرة وأعمال عديدة يتم انجازها عن بُعد بسواطة الانترنت، لكن بقينا في معظلة مهمة: المدارس وهم المدارس.
المدارس همٌ كبيرٌ على أولياء الأمور، ولعل جائحة كورونا قد خففت عنهم من حيث لا يشعرون، صحيح أنها ألقت الحمل الأكبر عليهم ظاهرياً، لكن في نفس الوقت تم لم شمل الأسرة من جديد، أصبح هنالك احتكاك أكبر بين الأبوين وأطفالهم، وبالتالي إمكانية تربيتهم والتأثير عليهم في غرس الأخلاق الحميدة والقيم السامية.
- قد يقول قائل: ماذا تقول يا رجل، لقد أصبح الهم همين، كان المدرس في المدرسة هو من يشرح للطلاب، فمن سيشرح لهم الآن؟
يشرح لهم المدرس أيضاً، لكن هذه المرة لن يضطر الطالب أن يذهب للمدرسة ويحتك بالآخرين ويزاحم في وسائل الموصلات، لأن المدرس أصبح متاحاً أمامه في الشاشة، لن تضطر الأم أن توقظ بنتها الصغيرة المسكينة بعد الفجر وقبل انبلاج الصبح، من أجل الاستعداد لحافلة المدرسة التي تأتي مبكراً ثم تضل تلف وتلف في انحاء المدينة تجمع الطلاب من كل الشوارع، ثم تصل البنت المسكينة إلى المدرسة بعد ساعة وقد أنهكها التعب وأضناها كثرة الدوار في الشوارع، لم نعد بحاجة لهذا كله، فالمدرس أصبح متاحاً عبر القناة الفضائية أو الانترنت.
كان التعليم ولايزال متاحاً عبر الانترنت، لكن جائحة كورونا ألزمت وزارات التربية والتعليم في جميع البلدان تقريباً أن توفر حلولاً رقمية للتعلم عن بعد، وفي مصر تم انشاء قناة تعليمية وتم نشر الدروس عبر الانترنت، وتلك الدروس هي ذات جودة عالية ويقدمها مدرسين محترفين، إذاً الوضع ليس مساوياً لذي قبل بل أفضل منه، فبدلاً من التعلم على يد مدرس المدرسة الذي قد يكون متوسط الكفاءة، الطالب الآن يتعلم على يد مدرس الوزارة الذي تم اختياره بعنايه.
إذاً ليس الحمل على أولياء الأمور، فهنالك مدرسين يقومون بالواجب، كل ما على ولي الأمر هو أن يوفر تلفاز أو جهاز حاسوب أو هاتف متصل بالانترنت ثم يُحمّل تلك الدروس أولاً بأول، ويشرف على ابنه وهو يتعلم، ويساعده في تنظيم وقته.
لكن ليس هذا فحسب، فتلك الأزمة قد أدت بالكثير من المدرسين في كل المواد وكل المراحل الدراسية لفتح قنوات يوتيوب خاصة بهم، بعضهم فعل ذلك بهدف تقديم رسالة تعليمية، وبعضهم من أجل الكسب المادي، وأياً تكن الأسباب، فكل ما يهم الطالب هو المحتوى التعليمي الذي أصبح متاحاً بكثرة وبأكثر من نكهة، فإن لم يعجبه هذا المدرس انتقل لآخر، وإن ملّ من طريقة مدرس وجد مدرساً آخر لديه أسلوب أكثر امتاعاً، لقد صار الأمر سهلاً جداً، نحن نعيش في طفرة وثورة تعليمية لم يسبق لها مثيل.
من المآسي التي كنا نعانيها نحن أولياء الأمور، هو حين يصادف أن يكون مدرس ابنك غير ذي كفاءة أو لديه أسلوب غير مناسب للتعامل مع الأطفال، لكن الآن الحمد لله صار هنالك تنوع كبير في المدرسين عبر الانترنت، وكلهم يشرحون المنهج ذاته، والطالب عبر تلك الشاشات يستفيد من علم المدرس دون أن يتحمل فضاضته أو أسلوبه الخشن.
- لكن سنضطر لجلب مدرسين خصوصيين
لا أيها الأب/ أيتها الأم، لستم مضطرون لجلب مدرسين خصوصيين، ربما في بعض الحالات يكون للمدرس فائدة، وخاصة في المراحل الابتدائية، لكن في أغلب الحالات ليس هنالك من داعي للمدرس الخصوصي، لماذا؟ لأننا بهذا الطريقة نعود أبناءنا على الكسل المعرفي، على أن تأتي اللقمة سائغة سهلة إلى فمه، فبعد أن توفرت كل تلك المواد التعليمية بالمجان عبر الانترنت، وبعد أن نشتري لهم أفضل الكتب المساعدة لفهم واستيعاب المنهج، بعد هذا كله نأتي لهم بالمدرس الخصوصي إلى غرفة معيشتهم، معذرة أيها الأب أو الأم، هذا اسمه تدليل زائد عن حده، وهذا قد يفسد الطفل أكثر من أن يصلحه.
يجب أن لا ننسى أن التعليم لا يفترق عن (التربية)، للأسف الكثير من الآباء والأمهات يأتيهم هوس التعليم ويغفلون عن التربية، يريدون أن يحقق طفلهم أعلى الدرجات والنتائج ويريدون أن يصبح كذا وكذا، لكن ماذا عن التربية، لماذا لا نربي أطفالنا على واحدة من أهم القيم التي سيحتاجونها في المستقبل، ألا وهي الاعتماد على النفس، على التعب في سبيل الحصول على الشيء، على أن الحياة لن تأتيهم باللقمة سهلة إلى فمهم، يجب أن يبذلوا الجهد ويسعوا ويجدوا في طلب الشيء حتى يمكنهم الحصول عليه، فهاهي المناهج متوفرة في الكتب، وهاهي الكتب المساعدة تسهل وتشرح أكثر، وهاهم المدرسين يملأون فضاء الانترنت، ثم نأتيهم بعد هذا كله بمدرس خصوصي ليعطيهم المعلومة على ملعقة من ذهب.
الأمر لا يتعلق بالمال، ليس شرطاً أن تأتي بأفضل المدرسين إلى المنزل إن كنت من الأغنياء، الأمر متعلق بتربية الأطفال على الاعتماد على النفس، على السعي والبذل والتعب، على الانضباط الذاتي، على تحمل المسؤلية وتحمل النتائج والعواقب، وخاصة حين يكون الطفل في المرحلة الاعدادية، لأنه لم يعد صغيراً، ويجب أن يتحمل قراراته، فإن قرر أن يلعب فسوف يذوق مرارة قراره، وأنت أيها الأب أو الأم، عليكم بدعم أطفالكم ومساعدتهم في الانضباط، عليكم بتوجيه النصح والإرشاد، لكن يجب أن يكون هنالك مساحة كي يتخذ الطفل القرار ويمارس دور المسؤولية على نفسه، وحين نأتيهم بالمدرس الخصوصي، فنحن نحرمهم من تلك المساحة، نحرمهم من التعلم الأهم؛ تعلم مهارات الحياة الضرورية.
اننا حين نجلب له المدرس الخصوصي نحن نوصل له رسالة غير مباشرة ان النجاح سيأتي إليه ويدق بابه حين يكبر، بينما الواقع انه هو من يجب ان يكد ويسعى ويتعب حتى يصل للنجاح، قد يخفق في الحياة وسوف يخفق لاشك، لكن عليه ان يقوم بعد كل كبوة وأن ينهض بعد كل فشل، وكذا في مرحلته الدراسية، لا نصاب بالذعر ان اخفقوا في اختبار او نقصوا عن بعض الدرجات، إن اخفاقهم هذا هو الفرصة الذهبية لنعلمهم دروس الحياة من رحم الواقع، سنذكرهم حينها ان اخفاقهم اليوم بسبب لعبهم بالامس، أن الانسان يحصد ما يجني وان عليه أن يتعب بنفسه ليزرع البذور في الارض، لا أن ينتظر لزارع مستأجر (المدرس الخصوصي) حتى يأتي اليه في الأسبوع مرة لينثر له الحب ويعتني هو بالزرع.
إن العالم اليوم، وخاصة دول العالم الثالث، مهووسون بالتعلم النظامي، وكأن الشهادة الكرتونية هي كل شيء في الحياة، أنا لا اقول أن لا نشجع أطفالنا على التفوق في الدراسة، بل يجب ذلك، لكن لا يطغى هذا على بقية جوانب الحياة، لا يصبح هوسا يعمينا عن ضروريات الواقع، فما الفائدة إن حقق الشاب اسمى الدرجات وهو لم يكون شخصيته المتفردة التي يواجه بها العالم.
أخيرا، العالم اليوم يشهد تغيرات كبيرة ستعصف بالحضارة الإنسانية عما قريب، فلنعد أطفالنا اليوم ليكونوا قادة في المستقبل، لا مجرد موظفين تاسرهم الشركات في غرفها المربعة من الصباح إلى المساء، وياللحسرة حين يصبح نتاج كل تلك الجهود والأموال، مجرد إسم في قائمة الموظفين، أو عامل تحت مظلة المتنفذين.