بالأمس عرفت معنى هذه العبارة فعلاً، فقد شاهدتها أمامي واقعاً ملموساً، كان ذلك وأنا وسط زحام أحد المولات الكبيرة (الهايبر ماركت)، والتي تجد فيها كل شيء، كل المواد الغذائية والمستلزمات المنزلية وحتى الملابس الداخلية والخارجية، ونحن على بعد أيام من رمضان وأيضاً في فترة عروض مقدمة من ذلك المتجر العملاق (من قبيل اشتري بـ 19.50 بدلاً من 20 جنيه).
المهم أنني كنت أتأمل في نفسي وفي الناس، تلك العربات الممتلئة بتلك المنتجات، اختراعات عجيبة
وأنواع جديدة تظهر بين الفينة والأخرى، لا أدري من أين يأتون بتلك الأسماء، خذ مثلاً الأجبان، أشكال وألوااااان لا تنتهي، يمكن أن تقف ساعة كاملة أمام ثلاجة الأجبان وأنت تتأمل فقط في الأسماء والأنواع، وقس على ذلك بقية الأصناف.
تدخل السوبر ماركت وفي رأسك ثلاثة أشياء تريد شراءها، ثم تخرج وقد حملت العربة بثلاثين صنف، تتكرر الصدمة دائماً حين يأتي موعد الدفع، تكتشف أن المبلغ المستحق هو أكثر من المتوقع بحدود الضعف، ثم تتكرر تلك الحسرة التي تنتابك وأنت في طريق العودة، تلوم نفسك متسائلاً: ألم يكن الأجدر بي أن أشتري تلك الأصناف الثلاثة من بقالة الحي القريبة؟
التسوق اليوم لم يعد بخصوص الاحتياج، لقد أصبح متعلقاً بالمتعة، فعلاً لقد أصبح التسوق متعة، لقد تأملت بالأمس هذا المعنى واكتشفت كم كانوا صادقين حين أطلقوا هذا المصطلح، وكم كنا نحن -ولازلنا- غافلين.
إن مجرد التجول بعربة التسوق في تلك المولات هي متعة تعطيك لذة عجيبة، رغم أنك تصل للبيت وأنت منهك القوى من طول الوقفة والتجول داخل المتاجر، إلا أنك لا تحس بالتعب أثناء التسوق، والسبب: أنك كنت تستمتع بالأمر، والمتعة تُنسي التعب.
لكن كل ذلك (كوم) والتسوق الإلكتروني (كوم آخر) فأنت غير مضطر بأن تخرج من بيتك وتتحمل عناء الذهاب إلى المول الكبير حتى تحصل على تلك المتعة (متعة التسوق) لقد أتتك المتاجر إلى باب بيتك، ويالها من متاجر، فيها كل شيء، فيها الغرائب والعجائب، جرب وادخل وتصفح وستخرج بقناعة أنك بحاجة لـ 100 صنف ومنتج، تريد شراء هذا وذاك وتلك و….الخ، وحينها ارجع لعملك الوظيفي ولدوامك الذي تتحول فيه لمكنة آلية تعمل دون توقف، من أجل أن تستلم راتبك نهاية الشهر فتصرف تلك الدراهم والدولارات على ما لست بحاجة إليه.
الشركات العملاقة تريد كسب الكثير من المال، كي تملأ جيوب الأغنياء، فلديهم أيضاً (متعة تسوق) الفرق أنك أيها المسكين تستمتع بشراء أنواع الجبن المختلفة، وهم يستمتعون بشراء السيارات الفارهة والقطع الأثيرة النادرة، ويغيرون وجهتهم السياحية في كل مرة، كي يستمتعوا بعصير الأفوكادا الطازج، في كوخ خشبي فوق ماء نقية ترى باطنها من ظاهرها …
لذلك، فأولئك الأغنياء يستأجرون العقول المبدعة كي تتفنن في اختراع منتجات جديدة وعقول أخرى كي تسوق وتصنع الاعلانات الملفتة كي تعرضها بأفضل طريقة، حتى تغريك وتجرك إلى المتاجر الرقمية والواقعية، كي تُخرِج ما في محفظتك أو بطاقتك البنكية بعد أن تنال متعتك (متعة التسوق)، وكل ذلك حتى تسمح لؤلئك بإن يحصلوا هم كذلك على متعتهم (متعة التسوق).
يالها من دائرة ملعونة !
لقد تحول مفهوم التسوق عن هدفه الأصلي (تغطية الاحتياج) فأصبح مجرد (متعة) …
وكأن الحياة لا تعطينا ما يكفي من (المتع) و (الزخارف) …
وكأنها لم تلهينا كفاية …
إلهاء أبعدنا عن الحياة الحقيقية …
حياة الروح والإيمان .. حياة الرقي والعرفان
والله المستعان …