دار الجدال وحصل الخصام، والسبب كيس الشبسي، الأطفال يريدون (نكهات مختلفة) وأنا مُصرٌ على الشبسي العادي بالملح، وكم من مرة حكيت لهم عن أضرار تلك الألوان والنكهات الصناعية، فحين يقدمون لنا شبسي بطعم (الجبنة) فليس هنالك ثمة جبنة، إنما هي نكهة صناعية لا أدري من أي مواد كيمائية تم استخراجها، كما أن الشبسي أبو (كباب) لم يتم قليه في زيت مع سيخين كباب مثلاً، فكنت أخسر جولة ويكسبون أخرى، مرة أصر فأشتري لهم بالملح، ومرة ينتصرون فأشتري لهم بنكهة أخرى.
هذا المنشور يطرح نقطة مهمة، أنا هنا لا أعرض موقفًا عاديًا من مواقف الحياة، كما أني لا أتطرق لموضوع الصحة -رغم أهميته-، بل ما هو أكبر من ذلك، إنني أتحدث عن الـ(عادي)، عن حياتنا وكيف أصبحت مملة، وعن المنتجات التي تظهر بشكل مستمر بأشكال وألوان، عن الحياة العصرية والشركات الرأسمالية، عن الإنسان والجشع والقيمة والعمل الصالح، يمكن أن نستخدم (كيس الشبسي) كمدخل لعدة قضايا مصيرية.
قبل عشر سنوات تقريبًا، زارني أخي إلى بلد الدراسة، وقد تذوق حينها أول شريحة شبسي مقرمشة، وكم أُغرِم بها، كان يشتري تلك الأكياس بشكل يومي ولا يشبع من طعمها، بل أنه صرّح أنه يتمنى أن يسافر من بلده ويقيم هنا من أجل أن يأكل الشبسي كل يوم، فقد كانت متعته بهذا الطعم لا توصف.
فعلا طعم تلك الشرائح لذيذ، كان لذيذ ولايزال لذيذ، لم تكن الشركات حينها قد اخترعت فكرة (النهكات)، فما الذي تغير؟
انبثقت فكرة هذه المقال حين قالت ابنتي أن هذا الشبسي (العادي) ليس له طعم، لقد عاتبتني عتابًا شديدًا وكأني قد ألحقت بها عقابًا أليمًا، قلت في نفسي مندهشًا (بدون طعم!!)، قلتها وأنا أتذكر دهشة أخي من هذا الكيس نفسه، ثم جلسنا سويًا واقترحت عليهم أن نقوم بنشاط (التذوق)، أخذت الكيس من يدها وأعطيتها شريحة واحدة فقط، وأكلت أنا شريحة، ثم طلبت منها أن تغمض عينيها ثم تأكله ببطئ وتتذوق، فعلنا ذلك سوية، لقد أخذني الطعم إلى السماء وحلقت به فوق السحاب، وسألتها عن الطعم وعن شعورها، هل هو فعلاً (بدون طعم) فأجابت بالنفي، واذعنت لكلامي بعد أن أثبته بلسانها لا بلساني.
دعونا ننقتل لسؤالنا الجوهري: لماذا أصبحت الحياة بدون طعم، لماذا وهي المليئة بالبهجة والسرور والأشياء الجميلة التي تسهل حياتنا وتدعم مقامنا؟
لقد أصبحنا نمتلك من المقتنيات ما لم يحلم به أسلافنا لكننا أقل سعادة ورضى منهم، والسبب لأنه أصبح هنالك (نكهات أخرى)، حياتنا الجميلة أصبحت عادية (بدون طعم) لأن أصحاب الأموال يريدون المزيد، فأوهمونا أن هنالك أشياء أفضل (مما لا نمتلكه) ونكهات أخرى (مما لم نتذوقه) فأعرضنا عن الحياة البسيطة الجميلة وانطلقنا في سعي ليس له نهاية، لتحصيل تلك النهكات التي لا تُشبِع روح ولا تُرضي قلب، فانتشرت فينا الأمراض النفسية وتعددت الأزمات الحياتية.
لنعد إلى الوراء قليلاً، لنتذوق قطعة الشبسي العادية، لنغمض أعيننا ثم نوقض فينا الوعي ليكتشف ما فيها من لذة ومتعة، لقد وهب لنا الله حياة أصلية خالية من نكهات صناعية خادعة، شروقُ شمسٍ، بسمةً طفلٍ، ضحكة حب بين زوجين، ركعتين في جوف الليل، تسبيحٌ وتأملٌ وذكرٌ لله، الحياة لها طعم أصلي لا يقارن بأي شيء، نحتاج فقط أن نعود ونهدأ ونتأمل.
لقد بدأ الأمر حين قررت شركة (س) أن توسع مبيعاتها، أو حين ظهر المنافسون فاضطر الجميع أن يفكروا خارج الصندوق، فابتكروا النكهات الصناعية، وبالمثل حين ظهرت لنا شبكات وتطبيقات ثم ظهر المنافسون، كان لدينا فيسبوك ويوتيوب فظهرت تويتر ثم تكتوك، كلها منصات للمحتوى لكن بنكهات أخرى، ينتقل الناس فرادا وجماعات لتجربة نكهات جديدة، وكل نكهة تأتي بمضارها، والإنسان لا يشبع، يريد الجديد، يريد المزيد، وهو في سعي مستمر وفي شقاء متجدد.