الآن أكتب … الآن أتنفس

مع الأيام ستكبر يا صديقي، ستعلم وتعرف وتزداد خبرة في كل شيء من حولك تقريباً …

مع الأيام ستكثر في رأسك الأفكار وتزداد في عقلك الأخبار، ستحتاج لأن تتحدث لشخص ما، لتعطي ما لديك وتخبر عن مضمون ما في عقلك، وحين تبدأ بالكلام، ستكتشف أن لسانك ليس بتلك السلاسة التي كنت تعتقدها، التعبير يخونك، وحتى إن لم يخنك، ستخونك الآذان التي لم تعد تصغي جيداً، وحينها ستبدأ بأخذ القلم (أو بالنقر على أزرار لوحة المفاتيح) ثم تتعلم كيف ترص الكلمات وتكتب.

لا يقاطعك أحد عند الكتابة، لا تضطر لأن تصيح وتعلي صوتك لتوضح وجهة نظرك، لست مجبراً على كتم بعض الكلام وتليين البعض الآخر حتى لا تجرح الآخر، حين تكتب أنت تتوجه بكلماتك إلى العالم بأسرة، وقبل ذلك، لنفسك، نعم النفس، وهذا هو أعظم جزء.

الكتابة تلغي الغربة بينك وبين نفسك، فأنت تتحدث مع أفكارك، بل تعرضها أمام عينيك وتخرجها من أرفف ذاكرتك وتفكيرك، كي ترتاح منها وترتاح منك، تطلقها في الفضاء الرحب كي تحلق في أجواء العالم الرقمي عل روحاً تلتقطها فتبني عليها، فتتحول تلك الكلمات إلى واقع ملموس في حيوات الناس.

الكتابة تحل لك مشكلة التلعثم، تساعدك على ترتيب أفكارك، زر “الباك سبيس” أو الحذف، متوفر دائماً وبالمجان، تكتب جملة فتمسح وتكتب أحسن منها، وتستمر حتى تكمل العقد النفيس، العقد المليئ بالجواهر والحكم.

من قال أنه يجب عليك أن تكون أديباً حاذقاً، أو مفكراً لامعاً، الكتابة ليست لؤلئك فقط، الكتابة لنا جميعاً، حتى وإن امتلأت عباراتنا أخطاءً إملايئة (تعمدت كتابتها بهذا الشكل)، أو نحويةٌ، لا مشكلة يا صديقي، ولا يهم ذلك، المهم أن تتمكن من إيصال الفكرة عبر الكلمة.

قبل عشر سنوات تقريباً، قررت أن أكتب كتاباً، كان ذلك بعد تخرجي من الجامعة، لا أدري ما سبب تلك الرغبة بالتحديد، لكني اتبعتها، وأمضيت الأشهر تلو الأشهر وأنا أكتب حتى انتهيت ثم طبعت ووزعت النسخ بنفسي في الأكشاك ثم تابعت المبيعات، كانت تجربة ممتعة، أما الكتاب فقد كان من النوع التعليمي، يعلمك كيف تستخدم أحد البرامج الحاسوبية لإنجاز بعض المهام الرقمية (مونتاج الفيديو).

في نهاية 2010 بدأت بالكتابة في موقع قمت بانشائه، أحسست برغبة غامرة في الكتابة، لكن كان يوقفني طول الطريق، كنت أرى المواقع الأخرى والتي أصبحت جذورها ممتدة في تربة العالم السيبراني، فأقول لنفسي: متى سأصل لمثلهم، مثلما هو الحال الآن وانا أبدأ الكتابة هنا، الفرق أني أصبحت على وفاق وصلح مع البدايات، لم أعد أتحمس كثيراً للوصول للنهايات وتحقيق النجاحات.

في الحقيقة … أنا لا أرمي من وراء هذه المدونة أي نتائج معينة، لا مشكلة عندي حتى وإن لم يصل إلى ها هنا أي زائر، أنا أعلم أن عصر المدونات لم يعد بذلك البريق كما كان في السابق، لا مشكلة، أنا هنا فقط أعبر عن نفسي، أتحدث، أكتب، أتنفس.

بالتأكيد ليست هذه هي وسيلتي الوحيدة للتنفس، فكيف إذاً كنت أتنفس في السابق قبل هذه اللحظة، بل أنا أكتب يا صديقي، أكتب لأحصل على بعض رزقي، وأكتب كذلك داخل كراستي السرية والتي لا يعلم عنها أحد، البعض يسمونها (مذكرات).

لي كراسة ورقية كنت أكتب فيها منذ سنوات عديدة، أدون فيها بعض المواقف والأيام المميزة في حياتي، لكن بعد أن تطور الأمر، صرت أكتب عبر الأجهزة الحاسوبية، فلقد كثر الكلام، لم يعد يتعلق بالمواقف فقط، بل بالأفكار والتأملات وإخراج الآهات الفكرية.

كتابة مذكرات حياتك هو أمر مهم، يساعدك كي تتنفس، أنت من خلاله توثق نفسك لنفسك، تحكي لنسختك المستقبلية أحداث أيامك الماضية، تذكر نفسك بما كنت عليه، بنعم الله وفضله، بالصعاب التي تجاوزتها والتحديات التي نجحت فيها، بتلك اللحظات السعيدة، أو حتى الحزينة، فقد تقرأ في يوم أنت فيه حزين مذكرة كتبتها حين كنت سعيداً فتسعد.

قررت -فقط- أن أشارك بعض تلك المذكرات معك، إيها الإنسان، إن كنت تقرأ الآن، فخسارة أن تبقى حبيسه، خسارة أن ينقطع أثري وتمسح بصمتي بمجرد خروجي من حلبة هذه الحياة، دعني أكتب وأكتب، فقد يمر عابر سبيل يوماً، فيأخذ زاده ثم يمضي في حال سبيله، فألقاه في ساحة العرض هناك، فنتعرف ونصبح أصدقاء، لا لا، بل إخوة على سرر متقابلة.

عمر الحمدي
بعد فجر يومٍ جميل، من أيام هذه الحياة