يتحدث الشيخ الدكتور فريد الأنصاري في آخر عمره عن القرآن، بعث لنا بكلمات من آخر ما كتب، كتبها وقلبه ممتلئ بحب القرآن، فخلف لنا كلمات مضيئة، محبوكة بقالب أدبي، متقدة بجذوة إيمان، مُخرجة من قلبٍ صادق، يريد لأمته الرفعة والعلياء.
يحضرني الآن مقطعاً شاهدته قبل عدة أسابيع للشيخ أبي إسحاق الحويني، يقول فيه بحرقة وألم (ياليتني أعطيت القرآن عمري)، وهو الشيخ الذي أفنى عمره في الحديث وعلومه، وهو بكلامه هذا لا يندم على مسيرته في خدمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يتمنى أنه اهتم بالقرآن أكثر، بل أعطاه كل عمره.
لقد أحسن الشيخ فهد الكندري حين سمى برنامجه الرمضاني السابق (بالقرآن اهتديت) فالقرآن فعلاً يهدي، القرآن يحمي، القرآن يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة، وهو الوحيد القادر على إنقاذك، إسعادك، إحيائك (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ).
هذا النور هو الذي أضاء قلب (جيفري لانج) حين اهتدى بالقرآن، وليس غير القرآن، حين صادفه أمامه ذاتي يوم، فقعد يجوب في رحابه ويتجول في آفاقه، فقرأه من الغلاف إلى الغلاف بدافع الفضول، فلم يصل إلى نهاية الرحلة حتى كان قلبه قد وصل إلى بداية الهادية، نعم، لقد كان ميتاً فأحياه الله، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، فكتب إلى الناس كتاباً تلو الآخر، يحكي تجربته ويحاول إظهار بعض النور الذي بزغ في صدره.
عودة إلى الكتاب
يتكون الكتاب من خمس رسائل، أربعٌ منها عن القرآن، والخامسة عن الإخلاص، ففي رسالته الأولى يتحدث عن مفهوم (التداول الاجتماعي للقرآن الكريم) ويضع لهذا المفهوم تعريفاً جميلاً يقول فيه (هو الانخراط العملي في تصريف آيات الكتاب في السلوك البشري العام، تلاوة وتزكية وتعلماً، وتعريض تربة النفس لأمطار القرآن، وفتح حدائقها المُشعثة لمقارضه ومقاصه) يتحدث أيضاً في هذه الرسالة عن مشكلة (الانشغال حول القرآن وليس بالقرآن وفي القرآن) وهو باختصار الانشغال بالحقل النظري عن العملي، فالواجب أن يعيش المرئ بالقرآن، فيقول في هذا السياق:
(إن الذي لا يكابد منزلة الإخلاص، ولا يجاهد نفسه على حصنها المنيع، ولا يتخلق بمقام توحيد الله في كل شيء رغباً ورهباً، لا يمكن أن يعتبر حافظاً لسورة الإخلاص، وإن الذي لا يذوق طعم الإيمان عند الدخول في حمى (المعوذتين)، لا يكون قد اكتسب سورتي الفلق والناس، ثم إن الذي لا تلتهب مواجيده بأشواق التهجد لا يكون من أهل سورة المزمل).
أما في (مجالس القرآن)، وهو عنوان الرسالة الثانية، فيخاطب الشيخ فريد معاشر الشباب، من حملوا على عاتقهم تلقي رسالات القرآن، يوصيهم بإنارة شعلة القرآن في قلوبهم، بإحياء آياته في حياتهم، حتى ما إذا تحدثوا إلى الآخرين وصافحوهم، شعروا بحرارة الإيمان في أيديهم، ولا يتم ذلك إلا بالمجاهدة والمكابدة، حتى يشتعل النور في القلب، ثم يقول الشيخ معلناً (أن اللغة عاجزة عن وصف ذلك النور) ويجب أن يذوق القلب بنفسه حتى يعيش النور في واقعه، ويستضيء به كل من حوله.
ثم يورد كلاماً بديعاً عن حمل كتاب الله، فيقول (أيها الأحبة المكابدون، إن حمال هذه الحقائق الإيمانية في الأمة اليوم هم القليل، وإن الحامل لجمرة واحدة من جمر آية واحدة، يكتوي بلهيبها، ويستهدي بنورها، لأنفع لنفسه وللناس -بإذن الله- من مئات الحفاظ للقرآن كاملاً، الذين استظهروه من غير شعور منهم بحرارته، ولا معاناة للهيبه، ولا مشاهدة لجماله وجلاله. فلا يحقرن نفسه صاحبُ الآية والآيتين، إذا كان حقاً ممن قبض على جمرهنّ بيد غير مرتعشة، وارتقى بقراءتهن إلى منازل الثريا، نجماً ينير شبراً من الأرض في ظلمات هذا العصر العصيب).
أما الرسالة الثالثة، فقد كانت الأشد حرارة، والأسطع ابتهاجاً، وقد ضرب لحال القرآن بيننا كمثل النيزك الذي يهبط من السماء، إلا أن الفرق الشاسع أن النيزك ينزل حاراً ثم ما يلبث أن يبرد لهيبه، ومع الأيام يصبحاً حجراً كأحجار الأرض، أما كلام الله، فهو القادم إلينا من خارج واقعنا وعالمنا، هو الشهاب المنير، الذي أنار وينير وسينر حتى آخر الزمان، والمطلوب منا أن لا نتعامل معه كنصوص متعلقة بزمانٍ غابر، بل على أنه وحي، صلة أبدية للأرض بالسماء.
ويقول في هذه الرسالة (إن ذلك النيزك الناري الواقع من السماء إلى الأرض، ما يزال يحتفظ بأسرار العالم الخارجي الذي قدم منه، إنه فِهرِست مكنون، لو تدبرته لوجدته يكتنز خريطة الكون كله، إنه لم يفقد حرارته ولا طاقته قط، وإنما حجب لهيبه رحمة بالناس، وتيسراً لهم، وتشجيعاً للسائرين في الظلمات على حمل قنديله الوهاج، والقبض عليه بأصابع غير مرتعشة، بل على احتضانه وضمه إلى القلب، نوراً متوهجاً بين الجوانح).
في الرسالة الرابعة يتحدث الشيخ فريد عن تدبر القرآن، ويعطي فيه كلاماً مقنعاً، فدافع عن حق التدبر المكفول لكل مسلم، فالتدبر ليس حكراً على العلماء، ويكفي العامي أن يعرف بعض معاني الكلمات الغائبة عنه حتى يتمكن من الغوص في عمق الآية واستخلاص ما يفيده منها وما يثري حياته.
يوضح الشيخ فريد الفرق بين التفسير والتدبر، فالتفسير هو الكشف والبيان، ويكون في الغالب من أجل النشر والإذاعة، فالمفسر يجب أن يكون عالماً كي يبلغ ويساعد غير المتعلم في فهم كتاب الله، أما المتدبر فإن غايته تبليغ نفسه، والتفاعل مع آي القرآن لإصلاح حياته، وكلام الله في المجمل هو كلام يستوعبه قلب الإنسان العادي ذو الحدود الدنيا، ويجد فيه ما يهمه لأن يصلح ويُصلح.
التدبر -من تفعل- هو النظر إلى دبر الشيء، إلى ما تخلفه الآية من آثار في النفس والحياة، هو الخطوة التالية التي تنعقد على عاتق التالي لكتاب الله، أن يقرأ الآية ثم يفكر في الحياة والكون، في التقاطعات بين مجريات حياته وكلام الله الخالد، وقد ذكر الشيخ فريد العديد من الأمثلة لكيف يمكن للإنسان أن يتدبر أبسط الآيات، ليخرج منها بأعظم الفوائد.
إن المفسر أو المطلع على أقوال المفسري، المتعمق لمعاني وسياق الآيات، تحصل له فائدة أكبر عند التدبر، كذلك العالم بأمور الحياة، من طب وجيلوجيا وهندسة وغيرها، سيتمكن من الغوص أعمق في بحار التدبر، لكن حتى الإنسان البسيط ذو العلم المحدود، سيجد من الآيات الكثير مما يغوص فيها بعقله وفكره.
يقول الشيخ فريد (إن المسلم، أي ملسم، إنما عليه أن يصطحب مختصرا صغيرا من كتب التفسير، وذلك فقط حتى يضبط بُوصلة الاتجاه العام لمعنى الآيات، ثم يشرع آنئذ في التدبر للقرآن، ولا حرج، لأن التدبر لكتاب الله لا ينبني عليه حلال ولا حرام، ولا تصدر عنه فتوى ولا قضاء، وإنما هو مسلك روحي يقود القلب إلى التوبة والإنابة، وإلى مجاهدة النفس من أجل الترقي بمراتب العلم بالله)
ثم يورد الشيخ فائدة جميلة حول الفرق بين التدبر والتفكر، فالتدبر هو النظر في آيات الله المسطورة، والتفكر هو النظر في آيات الله المنظورة، في النفس والآفاق، في العالم والإنسان، في قصص البشر وما فيها من عبر، وهاذين الأمرين؛ التدبر والتفكر، يؤولان معا إلى مصطلح قرآني مركزي ثالث، هو (التذكر)، فيقول: (فالتدبر للقرآن يقودك إلى التفكر في الوجود، والتفكر في الوجود يعود بك إلى القرآن، وهما معا في جميع الأحوال يثمران تذكراً للقلب وذكرى).
ويختم الشيخ فريد برسالة أخيرة هي الخامسة في ترتيبها، يتحدث فيها عن الإخلاص، الإخلاص الذي يحتاجه أكثر من غيره؛ من كرس وقته وجهده للدعوة إلى الله والعمل في سبيله، وكم من جهود تُبدد وأوقات تضيع بسبب البعد عن الإخلاص، وكم من مطحنة تطحن الهواء وتفرغ طاقتها النفيسة في غير ذات جدوى، بسبب ضعف الإخلاص، وهو بكلماته تلك، يشدد أكبر تشديد على متابعة القلب ومحاسبته وسؤاله دائماً، لماذا تفعل ما تفعل، ولمن تفعل؟
وهكذا تنتهي كلمات الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله برسالته الأخيرة التي بعثها في منتصف عام 2009، ولم تمضي سوى بضعة أشهر حتى رحل عن عالمنا الدنيوي وانتقل إلى العالم الحقيقي، العالم الذي أتى منه ذلك النيزك الذي حدثنا عنه في كتابه، ونحن، ومع نهاية هذا الكتاب، لا نملك إلا أن نودع روحه التي أودعها لنا في سطور وكلمات، فإلى اللقاء يا شيخنا الفاضل، إلى لقاء قادم في عالم آخر، فإنا نشهد الله أن الأرواح قد تعارفت، وأن القلوب قد تآلفت، ولم يبقى إلا أن نحسن فنفوز، ثم نلقاك هناك، عند الحوض، إن شاء الله، وبرحمته وفضله.