سأحكي لكم قصة عجيبة شغلت تفكيري في الأيام الماضية، فكنت كلما أتذكرها أقول (فعلاً فعلاً) فما قصة هذه الــ (فعلاً)، أعيروني انتباهكم رعاكم الله، لأن العبرة منها مهمة.
سأذكر لكم أولاً موقف بسيط حدث قبل شهر، وستعرفون لاحقاً علاقته بالموضوع.
حين تسجل ابنك في المدرسة لأول سنة، فيجب عليك أن تتقدم إلى الإدارة التعليمية وتجري بعض الختومات وتسلم بعض الأوراق، وبداية كل سنة دراسية يحدث زحام في مكتب الوافدين في هذه الإدارة، لذلك نقوم بتنظيم أنفسنا، من يصل أولاً يسجل اسمه في ورقه وكلما وصل آخر سجل اسمه ثم ندخل بالدور إلى المكتب، وعادة ما يبكر المراجعون صباحاً لأخذ رقم متقدم، وهذا ما فعلته أنا، حيث وصلت هناك الساعة السابعة صباحاً في حين أن العمل في الإدارة يبدأ من الثامنة والنصف، لكن رغم تبكيري، كان هنالك اثنين قبلي، سجلت إسمي وانتظرنا جميعاً، ثم بعد ساعة ونصف، أدخلت الموظفة أول مراجع، ثم توقفت لتنجز بعض الأعمال المكتبية، وتأخرت كثيراً بينما نحن في الخارج ننتظر على أحر من الجمر، فهنالك من هو مرتبط بعمله ومن له مصالح أخرى ومن ومن ومن ….الخ
كان الدور علي، وكنت أقف خلف الباب مباشرة أنتظر إشارة الانطلاق، لكن فجأة ظهر رجل من حيث لا ندري واندفع داخلاً إلى المكتب، نويت أن أدافع عن حقي في الطابور بكلمات لطيفة لكنه لم يدع لي فرصة للتحدث، لم ينظر إلي أو يعير أحداً اهتمامه، حاول قلبي التماس العذر، فقد بدا وهو يلبس الثوب أنه جديد في هذه البلد، ولم يتعود الالتزام بالطوابير والنظام، لكن عقلي لم يطاوعني، وليس هذا بسبب أخذه لحقي في الطابور، فلن يضر من انتظر ساعات أن ينتظر دقائق إضافية، لكن أكثر ما غاضني هو التصرف نفسه، حين لم يحترم الآخرين الواقفين والجالسين.
المهم، هو موقف عابر من مواقف هذه الحياة، لم أكن لأذكره هنا لولا ما حدث قبل يومين.
اتصل بي قبل أمس أحد اليمنيين الذين أعرفهم، وطلب مني أن أحضر كي نساعد أحد اليمنيين الآخرين في إنجاز أمر من الأمور، لن أدخلكم في تفاصيل هذا الأمر كي لا أضيع وقتكم الثمين، لكن الشاهد هو أني حين وصلت وتعرفت على هذا الشخص، بدأنا نتجاذب أطراف الحديث، لم يكن وجهه غريباً علي، لقد رأيته سابقاً لكني لم أتذكر أين.
حكى لي هذا الأخ (صديق صديقي) عن أشياء كثيرة، ومما حكى لي أنه قد تعود أن لا يلتزم بالطوابير، دائماً يأتي مباشرة وينطلق صوب الباب دون أن ينظر إلى أحد، وأنه يتبع استراتيجية (التغاضي والتطنيش)، يصيح الناس ويعترضون فيتظاهر بعدم سماعهم أو عدم فهمهم، لقد تعود أن يُدخِل كلماتهم من أذن ويخرجها من الأذن الاخرى، فمهما يقولون من كلام فلن يضره الكلام بشيء، هو مجرد كلام، المهم أنه ينجز عمله بسرعة وبدون انتظار، ثم حكى لي بعض الشواهد، فقد قضى معاملة في المكان الفلاني بسرعة، وقد أنجز أوراقاً في المصلحة الفلانية في آخر الدوام دون انتظار، وقد وقد …الخ
ثم حكى لي أنه أنجز معاملة أولادة في الإدارة التعليمية دون أن ينتظر أي طابور، لقد أتى متأخراً ودخل مباشرة وفعل كما يفعل كل مرة، وفي هذه اللحظة، وأنا أنظر إلى وجهه، تذكرته يقيناً، وعرفت أنه الشخص الذي أكل حقي في الطابور، حين دخل قبلي وأثار حنقي وغيضي، فابتسمت وأخبرته بهدوء أنني كنت هناك وأنني الشخص الذي كنت واقفاً عند الباب.
لم تنتهي القصة هنا، وليست هذه هي العبرة.
المهم، انقضت أكثر من ساعة ولم يتم إنجاز ذلك الأمر الذي اجتمعنا من أجله، وهو أمر بسيط يتم إنجازه بالعادة في عشر دقائق، لكن كان هنالك (عرقلة) أو إعاقة من شخص آخر، ثم اتفقنا أن نلتقي في اليوم التالي (يوم أمس) لإتمام إنجاز ذلك الأمر (البسيط والسريع) وقد ذهبت في العصر إلى هناك، ثم حاولنا إنجاز الأمر، فظهرت مشكلة أخرى لم تكن في الحسبان، مشكلة بسيطة أعاقت إنجاز الأمر، ثم مر الوقت حتى انتهى الدوام وأغلق المكتب أبوابه دون أن يتم إنجاز الأمر، ورحلت وأنا منزعج، ثم تأملت في نفسي أثناء عودتي وقلت:
سبحان الله، هذا الأمر البسيط الذي لا يستغرق سوى بضع دقائق، كيف أنه قد تعثر في اليوم الأول، ثم اليوم الثاني كذلك، أكيد أن هنالك سر، ثم مباشرة لمعت الفكرة في رأسي، وعرفت ماهي الحكمة والدرس الذي ربما لم يفهمه هذا الأخ الفاضل، الرسالة التي وجهتها الأقدار إليه، لكنه لم يكلف نفسه لفتحها وقراءتها، فهو كما ذكرنا، يستخدم أسلوب التغافل والتطنيش، فغفل عن هذه الرسالة -كما كان يغفل عن أصوات المراجعين والمنتظرين الذين أخذ حقهم في الطابور-، وكأن الأقدار توجه له ولي وللجميع رسالة مفادها:
“يا أيها الإنسان المسكين، يا من يتحايل في الطوابير ليكسب من وقته ساعة أو ساعتين، هاأنت ذا تتأخر يوم ويومين، ولو جلست مع نفسك وتذكرت سجل حياتك، ثم تأملت كم مرة تعرقلت وتعثرت، كم مرة سعيت في طريق ثم فشلت، كم مرة ظهرت لك المشاكل من تحت التراب وأنت لا تدري ما هي الأسباب، إن الأسباب واضحة لكنك لا تراها، إنه القضاء العادل، تتحايل على عباد الله في أمور بسيطة، فتتحايل عليك الأقدار وتؤدي بك إلى عراقيل كبيرة.”
أريد أن أوجه رسالة لطيفة إلى هذا الأخ الكريم، الذي جمعتني الأقدار به صدفه، وقد لا نجتمع مرة أخرى، فقد رأيت أنه من واجبي أن أقدم النصح، وأن أستخرج الفائدة والعبرة من هذا الموقف لنتعض جميعاً ونستفيد.
أخي الكريم، حين عاتبتك على هذا الأمر قبل يومين، بررت لي موقفك بـ(أن الوضع ما يمشي إلا هكذا) وأن (هكذا هي الحياة وهذا هو الواقع).
لا يا أخي هذا ليس مبرر، نحن في اختبار في هذه الدنيا، لقد خلق الله الحياة والموت أساساً (لينظر أينا أحسن عملا) وتأمل أول سورة الملك وستجد الكلام واضحاً، لا تقل لي: هنالك من يتعامل بالوساطة وهنالك من يقدم الرشوة وهناك وهناك، أنت مكلف بنفسك يا أخي، الله يريد منك أنت أن (تحسن عملا) في كل شيء صغير أو كبير، سواءً كان في طابور في مصلحة حكومية أو في قضية أخرى كبيرة.
أريد أن ألفت انتباهك إلى نقطة: أن هذا الأمر (الحقير في نظرك) هو عظيم وخطير، لأنه متعلق بالعدل، والعدل أمر مهم جداً جداً، يكفي أن تقرأ في سورة الحديد قول الله (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الله يقول أنه أرسل الرسل من أجل أن يقوم الناس بالقسط، وكأن العدل والقسط هو الغاية والهدف من إرسال الرسل والكتب السماوية، أن تكون مقسطاً وعادلاً ولو على نفسك وعلى مصلحتك.
تخيل معي: لو أن موظفاً حكومياً أخذ إذناً بالتأخر مدة ساعتين في الصباح كي يذهب لإتمام أوراق ابنه في الإدارة، وقد وصل مبكراً جداً وانتظر مع البقية حتى يصل دوره، ثم أصبح الوقت المتبقى هو ما يكفي بالكاد ليتم معاملته ويعود إلى عمله قبل انقضاء وقت الإذن، فأتيت أنت ودخلت مباشرة وتجاهلت الكلام والصياح، فتمكنت عبر مهاراتك الذكية أو عبر كلامك المعسول، أو حتى عبر فلوسك التي تدسها خلسة في يد الموظف، تمكنت من الدخول قبل الجميع، فسببت في تأخر الآخرين ربع ساعة كاملة، ثم أتى دور هذا الموظف وانتهى وعاد إلى عمله لكنه كان قد تأخر ربع ساعة (هي التي سرقتها أنت من وقته)، ثم وصل وكان المدير غاضباً، فعاقبه بخصم قسط من راتبه.
أرأيت، كيف يمكن لهذا الفعل الصغير أن يُحدِث هذا الأثر الكبير، فهل تكون بهذا قد أكلت بعض ماله وتسببت في ظلمه، قف مع نفسك وتأمل، واقرأ ما يسمونه بــ (تأثير الفراشة) كي تعلم أن هذا ممكنٌ وقوعه.
المهم، كانت هذه كلماتي التي اعتلجت في صدري، أطلقتها لمن أراد أن يعتبر من هذا الموقف البسيط، فقد جعلني الله شاهداً على بعض أقداره وحكمته، وإني لأتعجب وأستمر في التعجب، وأقول في نفسي (فعلاً فعلاً) حين أتأمل هذا الموقف: تجازوني شخص في الطابور وأخذ حقوق الرجال والنساء الواقفين، ثم إذا بي أقابله بعد شهر وأشهد كيف تعرقلت في وجهه معاملة بسيطة، معاملة ينجزها الناس في ربع ساعة، فأخذت منه ثلاثة أيامٍ كاملة.
تحديث/ ثم التقيت به في اليوم الثالث لإكمال المعاملة، ويا للعجب كيف ظهرت عرقلة جديدة من تحت التراب، حاولنا وذهبنا وعدنا وترجينا الموظفين لكن دون جدوى، ثم في آخر الوقت، بعد أن كدنا نستسلم لليأس، همست في أذنه ونحن ننتظر، وقلت: دعنا نتوب أنا وأنت في سرنا ونستغفر الله بصدق علّ الله يقضي حاجتك وننهي هذا الأمر الذي طال وأرهق أعصابنا، فتبنا إليه واستغفرناه، فانفرجت الكربة، وانحلت المسألة، وتم الأمر على خير ما يرام، فلله الحمد والمنة، كم نتعلم من دروس في هذه الحياة، وكم يربينا عبر المشاكل والمصائب، ونسأله تعالى أن يبصر قلوبنا لعيوب أخلاقنا، وأن يهدي عقولنا لمعرفة رسائله إلينا، إنه عظيم كريم.