كنت أسمع عن الشيخ علي الطنطاوي ولم أكن قد قرأت لها كتاباً كاملاً، إلى أن قررت أن أقتحم سور مؤلفاته وأدخل عتبة باب عقله، ولقد كان دخولاً مباركاً، لأنه كان من باب كتاب (صور وخواطر) فهو الكتاب الذي تشعر معه بالقرب من هذه الشخصية، فهي مقالات مختارة تقترب بك تارة وتوصلك إلى أعماق نفسه، وتبتعد بك تارة أخرى فتجول بك عبر أحداث أصبحت اليوم تاريخاً مضى.
لقد أحببت الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- بسبب هذا الكتاب، وأحسست أثناء قراءته بالقرب منه، فكأني صديق أسامره أو قريب أسمع منه بعض تفاصيل حياته، وأعتقد أن أي قارئ لهذا الكتاب سوف يشعر بنفس الشعور، لأن الشيخ في هذا الكتاب يشارك القارئ بعض تجاربه في الحياة، بل يغوص أكثر ليشارك معنا بعض حواراته مع نفسه وأفكاره التي تجول في خاطره، وتجد وأنت تقرأ الكتاب نوعاً من الصدق والصراحة، فهو حديث لا يقوله عادة كاتب في كتاب، بل يفضي به شخصٌ إلى صديقه المقرب.
الكتاب مكون من مقالات منفصلة، متوسطة في الحجم، والشيخ علي الطنطاوي هو أديب قبل أن يكون مفكر إسلامي أو داعية أوشيخ، لذلك فأنت تشعر بحلاوة وأنت تقرأ كتاباته، أيضاً هنالك قوة في الصياغة وجزاله في استخدام اللغة، لكن مع سهولة وسلاسلة، يمكن للقارئ العادي أن يقرأ بسرعة دون أن توقفه صعوبة الكلمات (إلا نادراً).
المقالات هي مما تم نشره في المجلات التي كان يكتب فيها الشيخ، وبعضها مما كان موجهاً للإذاعة، وأخرى بدون تحديد، والكثير من هذه المقالات قد حددت السنة التي نشرت فيها، فهنالك مقالات قد نشرت في الثلاثينيات (من القرن الماضي) وهنالك مقالات نشرت في الستينيات، وهذا يدل على أن الكتاب قد احتوى بعضاً من أبرز المقالات التي كتبها الشيخ على مدى ثلاثين عاماً.
يستفتح الكتاب بمقالة (عام جديد) وفيها موعظة مؤثرة عن الحياة التي تنقضي سنونها عاماً بعد عام، وتأتي مقالة (تسعة قروش) التي يحاول فيها الكاتب تحويل المشاعر إلى كلمات، وأنّا له ذلك، فيتحدث عن موقف صغير حدث له مع أطفال في الحارة، ثم كيف غمرته السعادة التي اشتراها بتسعة قروش فقط، أما مقالة (القبر التائه) فهي قطعة أدبية راقية، وليست تحكي عن الموت كما قد يدل اسمها، بل عن الحب وعن حال العشاق، فالقبر التائه إنما هو لأحد قتلى الحب الذي يقف عند صخرة في أحد شواطئ بيروت، ويبدو أن الشيخ علي قد كتب المقالة وهو في لبنان أثناء عمله فيها، وهذه المقالة ليست الوحيدة عن الحب، إنما له مقالة أخرى أتت متأخرة في الكتاب ومتأخرة في حياته أيضاً، هي مقالة (عن الحب) وقد تميزت الثانية عن الأولى بفلسفتها، والأولى عن الثانية بأدبيتها.
في الكتاب عدة مقالات تغوص بنا في عمق نفس الشيخ الطنطاوي، فهي -كما هو عنوان الكتاب- عبارة عن خواطر، لكن طبعاً ليست كأي خواطر، بل خواطر أديب ومفكر، من أمثلة ذلك مقالة (في الليل) وكذلك (بيني وبين نفسي) و (يوم مع الشيطان)، وأيضاً مقالة تعكس بعض صراعات المؤلف الداخلية وخلجات نفسه الدفينة، باسم (بين الطبيعة والله) يتحدث فيها عن أحلامه التي ما تحققت، وعن آماله التي طالت، ويبدو أن كتابتها قد كان في وقت ضبابي صعب بالنسبة للمؤلف، وهي مقالة تجمع بين مصارحة النفس وتفلسف العقل، وتعتبر من المقالات الطويلة نسبياً في الكتاب، والحقيقة أنها مما أعجبني لأنها قربتني من الكاتب أكثر.
ويعود بنا الشيخ عبر مركب ذكرياته إلى زمنه الماضي، فيتذكر أحداثاً ويبدع أدباً، كما في (زورق الأحلام) وكذلك مقالة (رقم مكسور) والتي من خلالها نتعرف على بعض أحداث الماضي، وخاصة نهاية الحكم العثماني لسوريا، وهو في (وقفة على طلل) يبكي على الأطلال ويقف عند الذكريات، ذكريات دراسته وصباه في شوارع دمش العتيقة. وهنالك مقالة لطيفة بعنوان (وحي الصورة) حيث يجد صورة له وهو صغير فيجري حواراً افتراضياً مع نسخته القديمة.
من المقالات الجميلة (كتاب تعزية)، وهي عبارة عن رد على امرأة ماتت ابنتها ثم بعثت للشيخ برسالة تبث فيها بعض أحزانها، فرد عليها بكلام جميل بليغ من أروع ما تسمع في أدب التعزية ومواساة من فقدوا أحبابهم، وقد كتب في هذه المقالة فقرة تكتب بماء الذهب، ينبغي لكل كاتب أو مؤلف أن يتخذها شعاراً له، قال رحمه الله:
“إن كتابك على عامية ألفاظه، وعلى أنه ليس فيه كلمة صحيحة، لا في رسمها ولا في إعرابها، أنه على هذا كله- قطعة فنية، قليل أمثالها.
إنك استطعت أن تستنزلي به الدمع، من عيون طائفة من أعلام الأدب، وكم من الشعراء الذين يرثون، فلا يستقطرون قطرة من دمع قارئ أو سامع، لأنهم ما بكوا لما نظموا.
ذلك ليعلم طلاب الأدب، أن الذي يخرج من القلب هو الذي يقع في القلب، وأن من يمتلكه المعنى الذي يكتب فيه، هو الذي يمتلك به الذين يقرأونه، أما الذي ينحت الألفاظ من أعماق القاموس بالمعول، ليكومها على الورق بالمجرفة، فهو (عامل) في إصلاح الطرق وليس صائغاً لجواهر الكلام.
ولست أدعو إلى العامية، ولا إلى نبذ البلاغة، وإهمال القواعد، معاذ الله، ولكن أدعو إلى امتلاء النفس بالفكرة قبل تحريك القلم على القرطاس.”
هنالك مقالات هي رسالات يوجهها إلى شخص أو لشريحة من الناس، مثل رسالته إلى تلميذه وأخيه الذي يحبه في الله، والذي حصل على منحة دراسية للدراسة في باريس، وقد عنونها بـ (إلى أخي النازح في باريز)، كذلك رسالتين لأبناء وبنات المسلمين، واحدة للشباب والثانية للبنات، فأما التي للشباب (يا ابني) فقد كانت رداً لرسالة شاب في السابعة عشر يشتكي فيها من مشكلة الشهوة والغريزة، فيجيب عليه بكلام رائع، وأعطاه فيها حلولاً عملية، وأما الثانية (يا ابنتي) فقد انتشرت في حينه انتشاراً واسعاً، وفيها يوجه كلاماً أدبياً راقياً إلى بنات المسلمين، ينصح بلغة أبوية حميمية رقيقة، وقد قال في مطلعها:
يا ابنتي؛ أنا رجل يمشي إلى الخمسين، قد فارق الشباب وودع أحلامه وأوهامه، ثم إني سحت في البلدان، ولقيت الناس وخبرت الدنيا، فاسمعي مني كلمة صحيحة صريحة من سني وتجاربي، لم تسمعيها من غيري. لقد كتبنا ونادينا ندعو إلى تقويم الأخلاق، ومحو الفساد وقهر الشهوات حتى كلت منا الأقلام، وملت الألسنة، وما صنعنا شيئاً، ولا أزلنا منكراً، بل إن المنكرات لتزداد، والفساد ينتشر، والسفور والحسور والتكشف تقوى شرته، وتتسع دائرته، ويمتد من بلد إلى بلد، حتى لم يبق بلد إسلامي (فيما أحسب) في نجوة منه، حتى الشام التي كانت فيها الملاءة السابغة، وفيها الغلو في حفظ الأعراض، وستر العورات، قد خرج نساؤها سافرات حاسرات، كاشفات السواعد والنحور.
والصراحة أن غصة قد علقت في حلقي حين قرأت هذه العبارة: ( لقد كتبنا ونادينا ندعو إلى تقويم الأخلاق، ومحو الفساد وقهر الشهوات حتى كلت منا الأقلام، وملت الألسنة، وما صنعنا شيئاً، ولا أزلنا منكراً) لأني أدركت أن الشيخ وأمثاله قد وُجِدوا في زمن صعب، كانوا يحاربون في معركة الأخلاق والعفة بدون معونة أو سند، متسلحين بأدوات قديمة يواجهون تياراً عارماً في ظروف احتلال وتغيرات دولية كبيرة، وانسياح ثقافي ودوامات فكرية عاتية، وتذكرت مأساة كل مصلح وداعية، تذكرت كل مجدد يريد لأمته الرفعة والعلياء فيعمل بدون كلل فلا يكون نتيجة عمله إلى مزيداً من تدهور، فتكاد تذهب نفسه حسرات، وهذا يقودنا إلى تذكر حياة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، المصلح الأول والداعية الأعظم، قال تعالى: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات).
هنالك أيضاً مقالات ذات طابع أدبي صرف، منها (حلم في نجد) التي تجد فيها الكثير من أبيات الشعر في حب نجد، وقد رتبها بأسلوب أدبي ذو طابع قصصي، وما دمنا نتحدث عن القصص، فلا يمكن أن نتجاهل قصتين يتحدث فيهما الشيخ عن أعرابي قح كان قد تعرف عليه أثناء سفره، ولم يكن قد دخل المدن ولا تلوث بحداثتها، ثم يحكي ما حصل له عندما دخل الحمام البخاري (التركي)، وهذا كان عنوان مقالة (أعرابي في حمام)، وفي قصة أخرى يحكي ماذا حصل له حين دخل السينما، وهما قصتين طريفتين من وحي خيال الكتاب كما يبدو، ثم أتبع ذلك بمقالة (الأعرابي والشعر) والتي كنت قد صدقتها في البداية، ثم صرح أنها من وحي خياله، وفيها يطوف المؤلف بالشعر والأدب وينقد ويحلل.
هنالك مقالات فكرية، فيها رأي المؤلف حول بعض القضايا والأفكار، منها مقالة (لا أؤمن بالإنسان) التي كتبها رداً على كتاب بعنوان (اومن بالإنسان) للاستاذ عبدالمنعم خلاف، وقد حملني هذا على أن أبحث عن الكتاب الأصلي، فوجدته في الانترنت بنسخة قديمة، ثم وجدت للمؤلف مقالة بنفس العنوان في مجلة الرسالة القديمة. وكذا مقالة جميلة في تبيان موضوع القَدَر بعنوان (حكمة القدمر).
من مقالات الرأي والفكر أيضاً، والتي يظهر فيها الأسلوب النقدي والهجومي للشيخ، مقالة (نداء إلى أدباء مصر)، حيث يتحدث فيها عن جبران خليل جبران وعن الكتاب الذي ألفه (ميخائيل نعيمه) وفيه سيرة جبران الذاتية، وفي المقالة انتقادات قوية موجهة إلى مؤلفات جبران، وقد قاده الموضوع إلى التحدث عن مسألة الفن وعلاقتها بالقيم والأخلاق والفضيلة. وهنالك مقالة مشابهة بعنوان (نحن المذنبون) يعرب فيها المؤلف عن انتقاداته وآرائه بعد أن قرأ ترجمة (اللورد بيرون)، وهو ينتقد السماح بنشر الكتب التي تنشر الفسوق والرذائل، وقد تحدث أيضاً عن أحد كتب توفيق الحكيم وعنه شخصياً في موضع النقد.
أفضل المقالات التي أعجبتني
هنالك مقالات برزت وتمزيت، منها مقالة (شهيد العيد) الذي يحتوي على حبكة قصصية جميلة في نهايتها، ومقالة (اعرف نفسك) التي هي غوص في أعماق النفس بلغة أدبية فلسفية راقية، أما مقالة (مجانين) فقد ذكر فيها المؤلف بعض الأخبار والنوادر العجيبة لأناس مشاهير وشخصيات لها وزنها في المجتمع، وسرد قصص ومواقف محرجة حدثت لهم، ثم يتساءل: ماهو الجنون ومن هو المجنون؟
أما مقالة (أنا والإذاعة) فهي أكثر مقالة لطيفة طريفة، لا يمكن إلا أن تبتسم وأنت تقرأها إن لم ترغمك فقراتها على الضحك، يتحدث عن نفسه وكأنه يدخل الإذاعة لأول مرة، وما يشاهد من غرائب وعجائب، ثم يختمها بطرفة تعبر عن روحه الخفيفة.
وقد أعجبني أيضاً ما كتبه عن الحب، وخاصة المقالة الأخيرة المعنونة بـ (في الحب)، ففيها كلاماً بليغاً وفلفسة عميقة.
أما المقالة التي حازت على المركز الأول من وجهة نظري، والتي تركت أثراً قوياً في أعماق نفسي، فقد كانت (مرثية غراي) وقد ترجمها بكلماته من الأدب الانجليزي، قال عنها (تعد هذه المرثية من أبلغ المراثي في الشعر الانكليزي، قرأها علي صديقي الاستاذ حيدر الركابي فنقلتها إلى العربية كما فهمتها) وقد بحثت عن هذه المرثية فوجدت أصلها ووجدت ترجمة لها في أحد كتب الدكتور عبدالوهاب المسيري، ثم اكتشفت أن الشاعرة نازك الملائكة قد ترجمتها شعراً، بل أن هنالك شعرٌ آخر يترجم هذه المقطوعة، وحسب ما عرفت أن الشيخ الطنطاوي هو أول من نقلها إلى العربية (كما ذكره حفيدة مجاهد)، وأن مجلة الرسالة قد نشرت عن ترجمة الشاعر في أحد أعدادها القديمة سنة 1936م
وهكذا نكون قد اتممنا -بحمد الله- عرض هذا الكتاب عرضاً مجملاً وتخليصاً مقتضباً، وتم تعريف كل مقالة وعن ماذا تحكي، وفي الأعلى عناوين أغلب المقالات، ودليلاً موضوعياً يستفيد منه كل من يريد مقالة بعينها، أو موضوع محدداً، فلله الحمد أولاً وأخيراً، وله الفضل دائماً وأبداً.
عمر الحمدي / 14 أكتوبر 2020