فوق كتلة إسمنتية تطل على البحر، جلست أنا وصديقي نتذوق حلاوة المنظر، أمسكت الهاتف والتقطت صورة ثم رحنا نتأملها سوية، نظر إليها وقال مفكراً؛ لو أني نشرت هذه الصورة في حسابي في الفيسبوك، لتمنى الناس أن يكونوا مكاني، سيعتقدون أنني أتجول سائحاً في هذه البلاد وأعيش على هرم السعادة، لن يعرفوا أن ما أتى بي إلى هنا ليس سوى المرض، مرض الزوجة الذي ما وجدت له دواءاً في بلدي، فأتيت إلى هنا ألتمس الدواء، قد يعتقد من يشاهد هذه الصورة الجميلة أن قلبي يحلق في أجواء السعادة، بينما الهم يقبع فيه، فما جئت لأبحث عنه عجزت أن أجده، وهائنا أصل لنهاية رحلتي دون أن أجد الدواء، سأعود بالمرض الذي أتيت به، هذا الهم الذي أحمله لن يظهر لهم في الصورة، وعلة التواجد في هذه الأرض لن تكتب على واجهتها، سيشاهدون فيها الوهم وستغيب عنهم الحقيقة.
نعم، إنه الوهم، ما تشاهده عبر الصور -الثابت منها والمتحرك- ليس سوى الوهم، لكن المشكلة أنك تقارن حقيقتك بوهمهم، تقارن حياتك المترنحة ما بين فرح وحزن، وألم ومتعة، بتلك الأوهام التي تبنيها في عقلك كلما شاهدت صورة تنضح منها رائحة السعادة، أو تقارن حياتك بحياة تُعرض عليك عبر مقطع لا يُريك من الجمل إلا أذنه، تتحسر، تتمنى، ثم تسعى وتشقى، وقد كان يعفيك عن هذا كله؛ غض بصرك عن صورة قد تؤذي روحك.
في الغالب؛ الناس السعداء حقاً لا ينشرون صورهم على الشبكة، ليست قاعدة ولكن المنطق يقول؛ أن من يمتلك السعادة بالفعل لن يجد أي دافع لينشر صورته التي تظهر للناس سعادته، بينما العكس صحيح، من هو مدمن لنشر صوره التي تُظهره بأحسن حال وفي أفضل مكان، هو من يفقد السعادة، فهو يتلمسها بين حروف الشاكرين وانبهار المارين، فترتفع كلما زادت عدد اللايكات، وما أن تهبط في دهليز النسيان إلا ويسارع في نشر صورة أخرى ليحصل على جرعته التالية من تلك السعادة الزائفة.
هنالك آية في كتاب الله الكريم تشير إلى هذا المفهوم، يدعوك الله فيها أن تغض بصرك عن حيوات الآخرين وما فيها من تفاصيل، فكل حياة فيها ما فيها، ولا يعلم ما فيها سوى العليم.
(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) {131 طه}.
لا تمدن عينيك …
هذه الآية ينبغي أن تكون قاعدة ذهبية نسير بها في الحياة، وهي أشد أهمية في هذا العصر من أي عصر سابق، فقديماً، حين يفكر المرء أن يمد عينيه، قد يمدها لجاره، لصديقه، لشخص يلقاه في محافل المدينة، إن حالفه الحظ فقد يمد عينيه في اليوم بضع مرات، فهو محصور في مكانه مقيد بزمانه، أما اليوم، فما أسهل مد العين، ما أسهل أن تغوص في الصور وتشاهد ثم تشاهد ثم تشاهد، فإن مليت من الصور الجامدة، فهنالك من الفيديوهات والـ(فلوقات) ما يمتع ناظريك، أشخاص يعرضون لك أفضل أجزاء حياتهم، يصورون ساعات طويلة، ثم عبر برامج المونتاج، يقتنصون الأفضل والأحسن، زهرة الحياة الدنيا، ليهدوها إليك حتى تسلي بها وقتك، وأنت تشاهد في ملل، تتمنى … تتحسر ثم تسعى وتشقى.
لا تمدن عينيك …
ليست تلك سوى صور يختفي خلفها ألف ألم، ليست سوى مشاهد يقبع من ورائها ألف هم، لا تمدن عينيك كي تعيش سعيداً راضياً، لا تمدنها كي لا تتلاعب تلك الصور بالرغبة في قلبك، فتميل بك يميناً ويساراً، فساعة تريد هذا، وساعة تريد ذاك، لا تمدنها كي لا تغويك عن مسارك، فتصبح مشتتاً لا تدري ما تريد، لا تطيل النظر كي لا تطول حسرتك على وقتك المهدر.
لا تمدن عينيك، ولا تشغل الناس بمد أعينهم إليك.