استمعت لحلقة صوتية أخذتُ منها جملة واحدة هي في غاية الأهمية، وقبل أن أشاركها معكم، أريد أن أقول أن الأفكار التي نتلقاها فتتقاطع مع تجاربنا الحياتية، هي أفكار برّاقة نتمنى أن نخبر العالم كله بها، لكن -وهذا شيء محبط- لا يتلقّاها الآخرون بنفس الحماس، لأنها لا تتقاطع مع تجاربهم أو اهتماماتهم، لذلك، وهذا مدخل لما سأقول، خذ هذه الفكرة وتوقف مع نفسك بضع دقائق، حاول أن تطبقها في حياتك، جرب فلست بخاسر، فقد تغير حياتك 180 درجة.
ضيف الحلقة هو شخص يعاني من مرض يسمى (ديسلكسيا) أو (صعوبات القراءة)، وقد استمر الحوار لما يقرب من الساعتين، وقد قال -مما قال- جملة ذهبية يمكن أن تكون مدخلاً لهذه المقالة، بل مدخلاً لحياة طيبة، قال:
(لم أكن راضي بالدسلكسيا، وكنت أقول: لماذا أنا هكذا؟ أيش سويت؟ هل هذه عقوبة؟ فلمّا رضيت وقلت: يارب أنا أعرف أنك أعطيتني هذا الشيء، وأن هنالك هدف منه أنا لا أعرفه، شكرًا يا رب على هذا، وأنا سعيد جدًا، لقد شكرت الله وتقبلت حياتي وكل الصعوبات التي فيها)
ثم أردف قائلاً (الجملة الذهبية):
(مرحلة القبول تلاقي الدنيا انفتحت على مصراعيها)
ما أجمل وأصوب كلامه، إن سر الأسرار ومفتاح الحياة الرغيدة، هو الرضى، وقد نمر على هذه الكلمة مرور الكرام، لكنها ليست مجرد (كلام) هي شعور عميق يحتاج إلى تدريب، يحتاج إلى وقفات مطولة مع النفس، والأمر صعب حين يمر الانسان بضروف صعبة، ربما ولد ينغص حياته، أو دخل لا يكفي حاجاته، أو زوج/زوجة تنكد عليه، ربما وظيفة كره بسببها حياته، أو علة من علل الدنيا ومصائبها التي لا تنتهي، وهنا يكمن التحدي، أن ترضى بوضعك لدرجة أن يفيض قلبك بمشاعر الامتنان شكرًا على النعمة، كيف نعمة وهي مصيبة؟ نعم هذا هو التحدي.
وقد يحدث الالتباس، ويظن الشخص أن الرضى هو الركون والركود، يعتقد أن الرضى يتنافى مع الرغبة في التحسين والطموح في الترقّي، ولا تعارض في ذلك، فقط يحتاج الأمر إلى بعض التدريبات الروحية والتمارين القلبية، وللأسف كم يهتم الناس بتدريب (الجسد) ويهملون تدريب (النفس).
الرضى هو بداية التغيير، الرضى هو بداية الفتوحات الربانية، إن أردت تغيير وضعك وحل مشكلتك فانطلق من (الرضى)، أن تتعود على محادثة ربك في سجودك وخلوتك، أن تقر له بالعجز عن معرفة الحكمة لكنك تثق فيه وتعتمد عليه، وأنك ترضى وتشكر، ويفيض قلبك امتنانًا بحالك وحياتك، وردد (الحمد لله) من أعمق أعماقك، واجعل ذلك نشاطًا يوميًا، وبهذا يتدرب قلبك.
ثم تأتي الفتوحات الربانية، تأتي أولًا على شكل مشاعر فياضة تنسكب على قلبك كالماء البارد في اليوم الحار، وكم من شخص حدّث بتلك الوقائع الفريدة في الشرق والغرب (وقد قرأت واستمعت لبعضهم) حين يحاول وصف ما لا يوصف، يقول أنه في لحظة معينة أحس بشيء يغمره، أو يضمه، أو يكسوه، تلك اللحظات تكون هدية من السماء أغلى من كل حطام الدنيا، تلك اللحظات تأتي لتعطيك راحة وطمأنينة وقوة نفسيه تتمكن بها مواجهة الحياة، والسعي نحو التحسين والتغلب على المعوقات، فما أنت بحاجة إليه هو الانتقال من نقطة (أ) إلى نقطة (ب)، وهذا الانتقال يحتاج لطاقة (نور)، والرضى يعطيك المدد.
ثم تسعى للتغلب على المعوقات، لكن بقلب يملأه الرضى، تسعى فتجد الأبواب تفتح أمامك، والطريق يسلك قدامك، ولن تكتشف ثمرة الرضى إلى بعد أشهر أو سنوات، حين تتوقف لتطالع مسيرتك وأثرك، فتجد أن الحياة قد تغيرت، وأن الصعوبات قد تم التغلب عليها بفضل الله، وحينها تتذكر أنك لا تسير بقوتك، بل بقوة الله، وتدرك أن (لا حول ولا قوة إلا بالله).
ذلك كان الرضى، فما عكسه؟ إنه السخط، وياله من مسار موحش وطريق مقفر، والسخط قد يكون خفيًا، وقد يكون الإنسان مؤمنًا ومن المصلين لكن في قلبه تنتشر بذور السخط الخفية، تنبت تلك البذور من مواقف الحياة اليومية، والواجب على الإنسان (من يريد أن يعيش بسعادة وهناء) أن يقتلعها ولا يمل من ذلك، تنبت من مواقف الحياة في بيتك وعملك وحتى مسجدك، وعلينا نحن بني البشر، أن نستمر في اقتلاعها وزرع بذور الرضى مكانها، وأن نستمر في سقاية نبتات الرضى الصغيرة (بالذكر والفكر) حتى تصبح أشجارًا نستظل تحتها ونهنأ بثمارها.