وصلتني اليوم رسالة تفيض بعبارات الشكر والامتنان، قالت أنها قرأت مقالة قديمة لي عن (الامتنان)، فرحت بتلك الرسالة، ثم تذكرت شخصاً آخر أريد أنا كذلك أن أرسل له برقية شكر، أعبر فيها عن امتناني وإعجابي بما كتب من نثر يذوب القلب بين سطوره وكلماته، لكن للأسف ليس شخصاً فيسبوكياً، ليس هنالك من طريقة لمراسلته عبر الشابكة (الانترنت)، ولا أعرف حتى عنوان سكنه.
لكن حتى لو عرفت، فلن أتمكن من مراسلته، أتدرون لماذا؟ لأنه قد غادر حياتنا الدنيا وانتقل للحياة التي طالما حلم بها وتحدث عنها، ولقد عشت أوقاتاً جميلة مع نثره ومقالاته، كم مرة خرجت تجاه المنتزه الجميل، وجلست تحت شجرة حنونة، ثم بدأت بقراءة ما كتب قبل 100 عام من الآن، فأندهش وكأني أقرأ لشخص معاصر يكتب في جدار الفيسبوك أو في مدونته الشخصية.
لقد شارفت على الانتهاء من قراءة أحد أشهر كتبه، كتابٌ أودع فيه أفكاره الجميلة وزفرات نفسه الرحيمة، كان الكتاب تعريفاً وافياً بشخصه، فما أن تفتح دفتيه حتى تعيد الحياة لصاحبه وتسمح له بأن يحدثك، ويسامرك، ويسر إليك بأسراره الخاصة، وأنت مع كل عبارة تسمعها منه وكل موضوع يحدثك فيه، أنت تزداد به إعجاباً وله حباً، فهو يقول كثيراً مما في نفسك لكن بتعابير بليغة يعجز لسانك أو قلمك عن الإتيان بمثلها.
تجربة رائعة تلك التي خضتها مع ذلك الكتاب، هو كتاب يحتوي على مقالات متفرقة، عبرت عن رؤية المؤلف للعالم، وعن أفكاره تجاه الحياة، بعضها قصير كقصاصات ورقية أو منشورات فيسبوكية، وبعضها طويلة تتراقص الكلمات الجميلة في سطورها ولا تمل أنت من طولها، إنها تشكيلة من أشهى الأفكار والخواطر والقصص الحقيقية والمتخيلة.
إنه كتاب (النظرات) لـ (مصطفى لطفي المنفلوطي).
ما أريد الإشارة إليه هنا، هو تأثير الكلمة، بقاؤها رغم اندثار جسد صاحبها، خلوده الذي يصنعه عبر الكتابة والنشر، حين يختصر كل حياته في صفحات ورقية وعبر كلمات متراصة، ولا يتم ذلك غالباً إلا في الشق الأخير من عمره، بعد أن تقترب التجربة الحياتية من كمالها، يتدارك الإنسان قرب رحيله وفنائه الدنيوي، فيحاول التشبث بأي قشة تبقيه على قيد الحياة، فلا يجد إلا الكتابة، فيبدأ بتحويل حياته المادية إلى مجموعة من الأفكار والخواطر والقصص، فيصيغ عالمه الخاص الذي تحدده كتبه وتحصيه أوراقه، فإذا ما غادر الحياة الدنيا، علم أنه ترك أثراً إليه، وخيطاً يوصل الراغبين في إحيائه، ليعود روحاً تسري بين السطور، فيصاحب من يريد مصاحبته، ويتحدث لكل من يقرأه.
الكلمة، وما أدراك ما الكلمة، هي سبيل الخلود وبوابة المجد.