بدأت هذا العام بإعلان حماسي عن هدف استراتيجي، ألا وهو قراءة 50 كتاب خلال 2020 (كتاب كل أسبوع) طبعاً اعتقدت أني وضعت هدفاً طموحاً، فقليلٌ من الناس هو من يقرأ هذا العدد من الكتب في السنة الواحدة، لكني تفاجأت، بعد مصادقة بعض القراء المجدين عبر الفيسبوك، أنه رقمٌ متواضع، فالقراء الحقيقيون يقرأون 100 أو أكثر، لكن رغم تواضع هدفي، ورغم عدم تحقققه، إلا أني سعيد بذلك.
“النوعية أهم من الكمية”، هذه جملة أساسية يجب أن نستفتح بها، أيضاً يمكن القول “الهدف هو أن تحقق الهدف من القراءة” نعم أنا مؤمن بذلك أيضاً، ولذلك أنا سعيد بهذا الإنجاز المتواضع.
إذاً ماذا كانت الغاية من وراء هذا الهدف؟ لقد كان، في المقام الأول، أن أعوّد نفسي على هذه العادة، أو لنقل، أن أعود إليها، فقد كادت أن تُمحى من جدار اللاوعي وأن تطمس من قاعدة الشغف، وما أن بدأت بالقراءة إلا وعادت إلي الذكريات القديمة، في مكتبة أبي الصغيرة، وذكريات طفولتي المتأخرة حين كنت أسافر عبر شوارع المدينة كي أقتني مجلة قصصية مليئة بالرسوم والصور، ثم ذكريات الشباب (ولازلت شاباً طبعاً 🙂 )، حين كنت أقرأ في المنتزهات وداخل المترو وفي كل فرصة سانحة، ثم تاهت بنا الأيام، وأشغلتنا لقمة العيش، وسعينا خلف أوهام، فنسيت الكتب، وكلما ذكرني بها مذكر، أخرجت تنهيدة عميقة، ومنيت نفسي بالمستقبل القريب، ولم أكن أدرك أن الأيام تجري، والعمر يُطوى، والنهاية قريبة.
الحمد لله تحقق الهدف، أصبحت القراءة عادة يومية لا أنفك عنها، ولو ببضع صفحات، لقد أبدلت مشاهدة اليوتيوب قبيل النوم وتحت البطانية، بقراءة الكتب، أصبحت متشوقاً لإنهاء كتابي كي أبدأ في آخر، أعدت تفعيل حسابي في goodreads وأصبح هنالك قائمة طويلة من الكتب التي تنتظر القراءة، عاد الحب، عاد الشغف، عادت الحياة.
القراءة متعلقة بالكتابة، والكتابة كانت رغبة كامنة في النفس منذ المرحلة الجامعية وما بعد الجامعة، وقد دفعتني تلك الرغبة لتأليف كتيب صغير أثناء فترة البطالة بعد أن أنهيت البكالوريوس، كتاب لتعلم مهارة مونتاج الفيديو عبر الحاسوب، كان لوالدي (حفظه الله) الفضل الكبير في المراجعة والتنقيح، وقد كانت تجربة مثيرة، وشغلاً ملأ فراغي، ثم بعدها توجهت -بكامل إرادتي- لسجن الوظيفة، فضاع شغف الكتابة، وشغلتني الحياة عن القراءة.
شغلني عقلي، السنوات الأخيرة، بأفكار وخواطر كثيرة، ربما أستنتج حكمة من موقف، أو أستدل على قاعدة من تجربة، أحببت أن أشارك العالم مالدي، لكني لم أكن أمتلك أداة الإخراج (الخطابة أو الكتابة) والأهم من ذلك، أن تلك الأفكار لم تكن ناضحة بعد، لماذا؟ لأنها حصيلة عقل واحد وتجربة حياتية واحدة، هي نبتة صغيرة ضعيفة في تربة الحياة لم تنضج بعد، وكيف تنضج ياترى؟ بالقراءة.
“القراءة تضيف لك حيوات أخرى إلى حياتك” هذه عبارة مشهورة قالها أحد الكتاب، وهي صحيحة وعميقة، فتجربتي في الحياة والأفكار والخواطر والفوائد، قد طافت بعقول أناس آخرين، قد تلمع في رأسك فكرة، ثم تكتشف أن أحدهم قد تحدث عنها بأفضل مما في رأسك ثم أودعها في كتاب منذ مئة أو مئتي سنة، وأنت حين تقرأ لهذا وذاك، أنت بذلك تغذي تربة عقلك بأفكار الآخرين، وتجاربهم وعلومهم وأخبارهم، وبالتالي تكبر النبتة، وتمتلئ الأرضية بالأشجار، وحين تمتلك شجرة باسقة في عقلك، حينها يمكنك الكتابة عنها، فتصف الساق والغصوت، وتتحدث عن جمال الأوراق والزهور، ثم تأتي إلى الثمرة التي نضجت (بعد تجاربك وتأملاتك وبعد قراءات خارجية كثيرة) فتهديها للآخرين في كتاب أو مقالة، لقد بات لديك ما يمكن الكتابة عنه.
إذاً، هذا هو الهدف الآخر، فأنا أقرأ كي أكتب، لكن لماذا الكتابة بالتحديد؟ لأنفس عما يختلج داخل العقل والقلب، ولأني وجدت أنها خير ما يمكن أن تُنفَق الأعمار من أجله، هي أفضل أثر يمكن تركه، فالكتاب الجيد، الذي يستحق أن يطبع أعواماً وأجيالاً، الذي يغير النفوس ويثري العقول، هو خلود معنوي لصاحبه، هو غاية مرضية يمكن أن يرحل بعدها صاحبها مطمئن النفس، فقد ترك مفتاح لتابوته بعد موته، فمن يقرأ كتاب هو كمن يعيد كاتبه إلى الحياة.
حين طوي العمر، ولاحت خطوط النهاية، صرخ شيء بداخلي “أريد أن أحيا، أريد أن أحيا”
دعونا نكتفي من الكلام الإنشائي ونعود للتحدث عن سنة (2020) عام كورونا، هذا المرض الذي شل الحياة وأقعد العمال والموظفين في منازلهم، ألم يكن فرصة جيدة كي أجد الوقت الكافي لقراءة 50 كتاب أو أكثر، فما كان سبب في هذا التقاعس؟
السبب أني لست موظفاً، أنا أعمل مع نفسي عبر الانترنت، ولم يكن هنالك أي تغير بسبب جائحة كورونا، بل أن هذه الجائحة قد أضافت عبئاً لأعبائي تمثل في تعليم أولادي في المنزل بدلاً من المدرسة، بالإضافة إلى انشغالي في قناتي التعليمية والتي أطلقت فيها المستوى الثاني من دورة الانجليزية من الصفر، بالإضافة إلى انشغالي بكتابة أول مجموعة قصص قصيرة (لم ينشر بعد)، وغيرها من الأعباء والالتزامات الصغيرة والكبيرة، لذلك لم أتمكن من تحقيق هدف (50 كتاب) لكنها بداية جيدة، ودخول إلى عالم يشع جمالاً وروعة (عالم الكتب والقراءة).
أنا أُشَبِه قراءة كتاب جيد، مثل خوض رحلة ماتعة، لذلك أطلقت سلسلة مرئية بعنوان (رحلة في كتاب)، وأنا أعني فعلاً ما أقول، فعلاً خضت عدة رحلات ماتعة خلال هذا العام، وقد أثْرت تلك الرحلات حياتي ووسعت من فهمي وغرست في عقلي أفكاراً كثيرة، لقد بِت اليوم أكثر سعادة وأكثر شوقاً لخوض رحلات أخرى في عوالم مختلفة عبر الكتب.
دخلت عالم القراءة والكتب بأن صادقت بعض الأشخاص الرائعين ممن يحبون ويدمنون القراءة (عبر فيسبوك)، ووضعت على حساباتهم علامة النجمة (أو المشاهدة أولاً) ثم اشتركت في مجموعات للقراء في الفيسبوك وصرت أتلقى جديدهم، اشتركت في قنواتٍ تليجرامية متخصصة في الكتب ومراجعات الكتب، فعلت حسابي في goodreads من جديد وصرت أستخدمه لتجميع عناوين الكتب لقراءتها مستقبلاً، أيضاً اشتركت في مجموعات لمناقشة الكتب، اجتمعنا مرة قبل كورونا، ثم عدة مرات عبر النت بعد كرورونا، فقد كنا نضع عنوان كتاب في أول الشهر لنقرأه ثم نناقشه نهاية الشهر.
هذه الخطوات وغيرها تساعدك وتشجعك على الدخول إلى عالم القراءة ومعرفة أفضل الكتب ورأي الآخرين عنها (وخاصة موقع goodreads)، أنت بذلك تحيط نفسك بمن يحب القراءة، ويكتب عن الكتب، فتصبح لا إرادياً محباً لها، سائراً معهم في دربها، أنت تكون لنفسك مجتمعاً افتراضياً يدور حول الكتب والقراءة، فإن كان من حولك من أشخاص، وما تمر به من ظروف، لا يساعدك على الالتزام بالقراءة، فيمكن أن يكون عالمك الرقمي الافتراضي هو بوابة دخولك لهذا العالم، وكهف معتكفك لتحرر عقلك من براثن الجهل.
هذه هي أول مقالة تحكي علاقتي بـ2020، وسيتبعها عدة مقالات منها ما أسرد فيه ملخصاً لرحلاتي (القرائية) خلال هذا العام، ولا يبقى إلا أن أقول:
الحمد لله أولاً وأخيراً
تعليق واحد على “أنا والقراءة وعام 2020”
التعليقات مغلقة.