دروس وعبر من التجربة السورية (1): الإيمان باليوم الآخر هو الحل

وفي هذه الفترات العصيبة من تاريخ الأمة، لا بل من تاريخ الإنسانية، وعبر السنوات الماضية التي ظهرت فيها بشاعة الإنسان تجاه أخيه الإنسان، وبعد أن أتت ساعة النصر للمظلومين فتوجهت أعين البشر من جديد للقضية السورية وعدنا لمشاهدة ما كان قد نشر من شهادات صادمة ووقائع مفجعة تقشعر لها الأبدان، وبعد أن صرنا نتساءل في حيرة “هل يمكن أن يفعل الإنسان هذه الأشياء تجاه أخيه الإنسان” بل هل يمكن له أن يفعلها لــ(حيوان) والله لو كان صخرا أو حديدًا، لذاب خجلا قبل أن يفعل ذلك.

في هذه اللحظة الفارقة، وبعد هذه الشهادات الصادمة، نتوجه بأنظارنا إلى تلك الفئة التي تقول “لا بعث ولا إله”، إلى الملحدين الذين يشاهدون ويسمعون ما نرى ونسمع، فنقول لهم (لنا عزاء ولا عزاء لكم) لنا يوم القضاء فأين يوم قضائكم؟

هنا تأتي عظمة الإيمان، الإيمان باليوم الآخر على وجه الخصوص، هنا تحل علينا سحابة من السكون والاطمئنان بعد الهلع والفزع، هذا الإيمان هو الذي يبث في روعنا أن هذه الحياة ليست سوى تجربة صغيرة ولمحة بسيطة وأنها في حقيقة الأمر (وهم)، إنها اختبار من أجل فرز البشر، وها هم أمام أعيننا يُفرزون، إنها مرحلة إعداد قصيرة للحياة الحقيقية، ياله من عزاء يضمد جراحنا ويروي قلوبنا المكلومة، فما هو عزائكم؟

إن الكافر بالله، وسمه ملحدًا أو ما شئت، ينتهي به المطاف إلى أمرين، إما أن يكون وحشًا مثل تلك الوحوش، أو أن يصاب بالجنون من شدة الحيرة والعجز، لأن الحياة عنده هي هذه وهذه فقط، فكيف له أن يصبر على هذه الحياة وفيها كل هذا القبح، كيف يصبر أن يعيش في مجتمع فيه هذه النماذج، فإما أن ينتحر، وقد فعل الكثيرون ذلك، وبهذا يطوي صفحته قبل أن يسمح لفرصة المراجعة أن تأتي، فينصدم حين يكتشف خطأه وغباءه، أو يعيش معذبًا بسؤال الحيرة الذي يطرق رأسه في كل ساعة وساعة “لماذا، ثم ماذا؟”.

لقد تركت لنا التجربة السورية، التي استمرت سنوات طويلة، شهادة حية، وما أقوى شهادة الزمن، شهادة أن لا حل إلا بالإيمان، وأن الكفر هو مسار الدم والدمار، فالمؤمن الحقيقي يخشى أن يقطع جناح طائر، فكيف له أن يؤذي إنسانًا حتى لو كان خصمه، لأنه يشخى يوم الدين، يوم يبعثون، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.

لا تعول على الدنيا

هذا الدرس يتكرر بأكثر من شكل، وخلاصته: لا أمان للدنيا، تعطيك وهي تأخذ منك، تستدرجك كي توقِع بك، فحين تظن أنك قد امتلكت زمامها، وابتسم لك الحظ في أحضانها، تسلبك فجأة كل أملاكك.
.
تذكرت اليوم الكاتب محمد أبو الغيط رحمه الله (الذي هجم عليه السرطان في قمة نجاحه المهني)، وتذكرت غيره من الأقرباء والأصدقاء، فحين بدأت الحياة تتبسم لهم، فجأة انهارت الصحة، فحاولوا لملمة الجدار وإقامة الدار، لكن دون جدوى، نهش المرض أجسادهم وكان الموت في انتظارهم، ثم تركوا كل شيء إلا من خرقة بيضاء.
.
أنا لا أقول أن لا نسعى للدنيا، بل أن (لا نعول عليها) أن نتعامل معها كما قال الله (وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها) لكن (وما عند الله خيرٌ وأبقى)، هو يسعى للدنيا كما الآخرين، لكن بشيء من الــ(لامبالاة)، في المقابل هو حريص أن (يصل رحمه) وأن (يعطي غيره) وأن (يفعل الخير)، تجده يختلط بالناس ويحدثهم ويسمع منهم، لكنه لا ينسى الاستماع لله كل يوم (يقرأ القرآن)، يذهب ويزور ويسافر لكنه لا يقطع زياراته المتكررة للمساجد (بيوت الله) فهو يعيش هنا بأهدافٍ دُنيا، لكن هدفه الأكبر هناك، يسعى لما هنا وللذي هناك، لكن الأولوية دائمًا هي لما هناك (ما عند الله).
.
فإن غدرت به الحياة يومًا، فسينظر إليها بابتسامة ساخرة، ثم يوجه إليها الكلمة القاضية … (فلتأخذي مني كل شيء، أنا لم أعوّل عليكِ يومًا، إن رصيدي هناك ممتلئ بإذن الله، وأنا ذاهبٌ كي أبدأ الحياة الحقيقية).

انتهى كلامه رحمه الله، فقد عاش طيبًا سمحًا، امتلك الأموال والأملاك وعاش عيشة هنية، لكنه كان صديق المسجد، وكانت أخلاقه حسنة، ويده بيضاء معطاءة.

فاز بها فلان
فاز بها فلان
لقد ربح الدنيا والآخرة.

وحش الاكتئاب وحصن الإيمان

سمعت رسائله في اندهاش، يحاول وصف ما لا يوصف، وإيصال مشاعر لم تُجرّب، لا ليست مشاعر، بل هو وحشٌ كاسر ليس له معالم، هو سواد سحيق في قاع الروح، إنه الاكتئاب، إنها هجمات الهلع (panic attack) ولقد سمعت عنها وقرأت، ويا للعجب مما قرأت، هي فعلاً هجمة شديدة لكن المشكلة أن الضحية لا يرى المهاجم، وإلا لكان نزالاً عادلاً وجهًا لوجه، فما هذه الهجمات وما هذا الوحش؟

لقد مرتتَ بظروفٍ صعبة لكن هنالك من مر بأصعب، صحيح أن الاكتئاب هو اختلال في بعض المواد الكيمائية داخل الجسم لكن هذه هي الأعراض، فما هي الأسباب، كيف وصلت إلى ما وصلت إليه، أين كانت أجهزتك الدفاعية وقت أن وقعت الأزمة، كيف تمكن الشيطان من الوصول إلى أعمق نطقة فيك (روحك).

سيثار استياء من هذا الكلام، فما دخل الروح في هذا المرض، ولماذا نلصق التهمة بالشيطان الرجيم، فالشيطان ليس من ضمن الأعراض التي في كتب الطب، لكن متى كانت الروح من ضمن قاموس الطب أصلاً، في حين أن الروح هي أصل أصيل في كينونة الإنسان ووجوده، والشيطان هو العدو اللدود للإنسان كما أخبرنا الواجد لكل موجود (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، لذلك، وهذه قناعة شخصية، أعتقد أن المهاجم في تلك الهجمات هو الشيطان، والخطورة أنك لا تستطيع رؤيته ومن الصعب رد هجمته.

إن ما يظهر من أعراض جسمية ليس سوى استجابة لحالة نفسية/روحية، وليس هنالك عيب في علاج المكتئب بالعقاقير لمساعدة جسده للعودة لوظائفه الطبيعية وبالتالي النهوض من جديد واكمال مشوار الحياة، لكن هل هذا كل شيء، هل علاج الأعراض يغني عن علاج المشكلة الأساسية؟

إذن، فما هو الجهاز الدفاعي الذي يمكن به مواجهة تلك الهجمات التي لا نعلم مصدرها، إنه الإيمان، تلك الكلمة المعروفة للجميع، لكن نقول أن الذي أصيب بالاكتئاب لم يكن مؤمنًا، لا، أنا وأنت وهو مؤمنون بحمد الله، لكن السؤال هنا: ما قوة إيماني وإيمانك، وهل هذا الإيمان قادرٌ على مواجهة خطوب الزمان ومصائب الدهر، ومن أجل تقريب الفكرة، تخيل الإيمان كأنه جدارٌ حاجز (لصد المعتدين) أنت تزيد من سمكه مع الأيام تدريجًا، وتحمي به نواة كينونتك (روحك) ولن تكتشف سماكة هذا الجدار إلا حين ترميك الحياة بالرزايا، حين تزيد المشاكل وتكثر الهموم، عندها يظهر إيمانك، هل هو قادرٌ على حماية روحك؟ هل هو قادر على صد الهجمات؟

الشيطان يتحين الفرص، والمعركة دائرة لا تفتر، تساعده الدنيا من الخارج وتسانده النفس من الداخل، يعمل ليل نهار لإلهائك عن مصدر قوتك، عن تلك الأنشطة اليومية البسيطة التي تضمن زيادة الإيمان في قلبك (زيادة سماكة الجدار) ثم حين تحين الفرصة، يهجم عليك مستعينًا بمصائب الحياة ومستفيدًا من ضعف الحصون فيصل إلى نقطة عميقة فيك لا يجب أن يتواجد فيها، فتظهر الأعراض الغريبة التي لا يمكن وصفها، ويستجيب الجسم وتتغير بعض مواده الكيمائية، فنقول حينها: اكتئاب.

وما هذا الحصن العجيب الذي سوف يحميني ويحميك من تلك الهجمات المسعورة، ما هو الإيمان؟ إن موضوع الإيمان هو مما يصعب شرحه، لكنه لا شك قوةٌ دافعة وحصنٌ منيع، وما يهمنا هو كيفية بنائه وتقويته، والحل بسيط يمكن تلخيصه في كلمة واحدة هي (الذكر) وهذه الكلمة تتفرع إلى ثلاثة أنشطة يومية هي (ذكر اللسان وتلاوة القرآن والصلاة)، أعلم أننا نصلي بحمد الله، لكن هل هي صلاة حقيقية تساهم في بناء الإيمان، أم هي عادة موروثة تكفل الجسد بأدئها قيامًا وقعودا، وحين نذكر الله، هل يغرد القلب مع اللسان ويسبح في ملكوت الله، و ماذا عن صلاة الفجر، ماذا عن وقت السحر، ثم أين نحن من قيام الليل، تلك العبادة التي فرضها الله على نبيه لأنه (سيلقي عليه قولا ثقيلا)، نعم، إن الحياة قد تصبح (حملا ثقيلا)، فإن لم يكن لديك إيمانٌ شديد يحميك فربما كنتَ الضحية القادمة لوحش الاكتئاب.

حقيقة أخرى يجب أن تكون واضحة، الإيمان يُبنى مع الأيام؛ الوقت عنصر أساسي في عملية البناء، لذلك نحن نقول أنها أنشطة يومية يجب أن نتشبث بها ولا نتساهل فيها، أي أنه من الضروري أن يكون لك وردٌ يومي لتلاوة القرآن (أو الاستماع له) بتدبر وحضور قلب، وأن نحافظ على صلاة الجماعة وصلاة الفجر على وجه الخصوص، وأن يكون لنا وردٌ يومي من ذكر الله والعقل حاضر غير سرحان، وأن نصلي في الليل حتى ركعتين ونأنس بمناجاة الله حتى دقيقتين، وكل يوم أنت تؤدي مهامك أنت بذلك تقوي إيمانك، وكل يوم تغفل عن ذلك إيمانك يضعف، وللأسف لن تكتشف قوته إلى حين تحل المصائب وتكثر المشاكل، حينها سيكون من الصعب الخروج من تلك الدائرة اللعينة.

الأمر قد يحدث لي أو لك في أي وقت، والحياة غير مضمونة، اليوم حياتك جيدة وأمورك طيبة، لكن لا تغتر بما لديك من أجدر أو أعمدة تستند عليها، قد ينهار أي عمود في أي لحظة، قد تفقد وظيفتك، قد تنقلب عليك زوجتك، قد وقد وقد، وحينها لن ينفعك إلا عمود واحد يمكن أن يصمد أمام كل شيء، لأنه ببساطة شيء خارج إطار الحياة ومتعالي عليها.

القلب المعلق بالله لا يضره شيء لأنه معلق بمن بيده كل شيء، الحياة كلها مجرد عوارض تظهر وتختفي، هو يسعى لما هو أكبر، فإن خسر عرضًا أو أعراض فلايزال الهدف الأهم أمامه يحلي بالأمل أيامه، وقد يكون صبره على تلك المصائب سبيلًا للوصل إلى حب مولاه، نحن بحاجة إلى حب حقيقي يذوب أمامه كل شيء، والسلم للوصول إلى هذا الحب هوالإيمان، والطريقة لبناء هذا السلم هو الذكر، والذكر هو أنشطة يومية تمارس على مستوى الجسد والفكر والقلب.

السبيل هو المجاهدة، لن تدعك الحياة بزحمتها ولا الشيطان بمكره أن تؤدي تلك الأنشطة كما يجب، إن هزمتَ نفسك بترك أريكتك المريحة وخرجت للمسجد فستجد الشيطان بالمرصاد يحاول صرف قلبك عن روح الصلاة (الخشوع) تحتاج للمجاهدة خارجيًا وداخليًا، الدنيا تغريك بالمشتهيات والسعي ورائها يلهيك عن المهمات، وعليك أن تجاهد وتكافح، هكذا ينبى الإيمان، أما حين تؤخر الصلاة لأنك مشغول، وتترك المسجد لأنك كسلان، أو تؤثر السهر على حساب صلاة الفجر، فهذا لا يبنى إيمانا، إنما نخادع به أنفسنا، وحين تأتي الخطوب يظهر الخبر.

وقد يقول قائل/ لقد اختزلت كل شيء في الإيمان، أين العمل الصالح الذي يتعدد ويتفرع، والذي هو الموصل لرضوان الله، والإجابة ببساطة أن الإيمان هو القوة الدافعة للعمل الصالح بجانب أنه الحصن المنيع، هو المبتدأ والمنطلق، ثم تأتي الأمور الأخرى من ورائه، ولعلنا نوضح الأمر أكثر في مقالة أخرى ان شاء الله.

إذن، الإيمان قد لا يشفي من الاكتئاب، لكنه يحمي من الوقوع فيه، وليس شرطًا أن يكون من أصيب بهذا المرض ضعيف الإيمان، ربما إيمانه قوي لكن لم يكن بالقوة الكافية التي تناسب ما مر به من خطوب وأحداث، لم يكن الحصن منيعًا ضد هجمات ذلك الوحش الكاسر المسمى (الاكتئاب).

بيني وبين عقلي 5 (12 فبراير)

مدارج الحمد الأربع

ذِكرُ (الحمد) يكون عبر استشعار النعمة، بمعنى أن يخرج كل لفظ من لسانك مقروناً بنعمة من النعم التي تدركها في تلك اللحظة، هذا هو الحمد الحقيقي الذي يغير كيانك ويفتح مغاليق قلبك.

متابعة قراءة بيني وبين عقلي 5 (12 فبراير)