أعرفكم على فُلّه، أو كما أناديها داخل المنزل (فلّتي)، كنت في الأيام السابقة حين أدخل المنزل أبادر بالسؤال وأقول (كيف حال فلتي اليوم) فلا أتلقى سوى نظرات التعجب والسخرية، ربما بالغت في الأمر، لكن الأمر قد تطور إلى علاقة حب ومشاعر فياضة.
أتيت بها قبل شهر إلى المنزل، لقد سحرني جمالها ووقعت في حبها من أول نظرة، دخلت المشتل أبغي نبتتة ظلية، لأن الشمس لا تدخل إلى الشرفة إلا قليلاً، فأشار علي البائع بأن ألج إلى الداخل، لكني وقفت أمام نباتات الفل وقد أسرني جمال المنظر، الكثير منها يتراص بجانب بعض، وقد تزينت بزهور الفل الأبيض الفواح، كل نبتة تعرض أجمل ما لديها، تتسابق لتفوز بفرصة الحب الأول، حب من أول نظرة، حينها قررت أن أشتري واحدة، قال لي البائع أن هذه النباتات تحتاج إلى الشمس ست ساعات في اليوم، وأنا لا أملك ذلك، لكني عزمت أن أتحايل على أشعة الشمس، عزمت على أن أقتني نبتة فل، والتي أصبحت (فلّتي العزيزة).
لم أكن أتصور أن تتطور العلاقة بيننا لتلك الدرجة، جلبتها إلى المنزل، إلى غرفتي الخاصة والتي أتخذها مركزاً لإنجاز المهام والأعمال، من أجل المظهر فحسب، فإذا بي أتعلق بها، فلم يعد الأمر مجرد مصلحة، بل أصبحت “علاقة حب”.
إنها الزهرة الصفراء الفاقعٌ لونها، وهي أيضاً تسر الناظرين، عبارة عن نبتة صغيرة اشتريتها بثمن بخس من المركز التجاري الذي يعطيك البضائع بأقل الأثمان، جلبتها إلى غرفة التصوير كي تظهر معي في الفيديو، مجرد مصلحة، تبادل منفعة، تعطيني ما أريد مقابل رشفات من الماء كل يوم.
لكن الأمر تطور بطريقة غير متوقعة.
لقد ذبلت تلك الزهرة بعد أيام، كانت منكسرة حين اشتريتها، ظهرها منحني، وقد اخترتها دون غيرها لأن انحناءها ذاك كان في مصلحتي، فقد وجهتها ناحية الكاميرا وكأنها تنظر للمشاهدين، بينما في الواقع؛ كانت انحناءة ألم، كان هنالك حزن يختفي خلف اللون الساطع، وتحت الطلة المشرقة، ألم مكتوم لا يجد طريقة للتعبير عن نفسه، فلا الزهرة قادرة على الكلام، ولا أرواحنا قادرة على الفهم.
ربما لو كانت روحي شفافة كفاية، كنت فهمتها دونما كلام، وأحسست بمعاناتها دونما نظر.
قد يقول قائل: ما مصلحتك بعد الآن من تلك النبتة التي خسرت روحها، وتحولت من الصفرة إلى الخضرة، وخاصة أن بقية البراعم لا زالت صغيرة واحتمالية نجاتها ضعيفة، ألا فتخلى عنها، وتخصلت من هم سقياها ورعايتها.
لكني لم أفعل، بل أبقيت النبتة إلى جواري، حافظت على خضرتها يوم بعد آخر، أعترف أنني في أحد الأيام نسيت أن أسقيها، وحين رجعت إليها -وقد كانت في الشرفة آنذاك- وجدت أن بعض أوراقها قد يبست، وبدأ اللون البني يغزو كيانها، فسارعت إلى إمدادها بماء الحياة.
تلك الحادثة كشفت أكثر عن نوع العلاقة، وعن ذلك الحب المدفون، فقد حزنت يومها، وعاهدت نفسي على أن أهتم لموضوعها أكثر، فما دمت قد تحملت مسؤوليتها واشتريتها من البداية، إذاً علي بالاستمرار في رعايتها، رغم أني لا أعلم الكثير عن عالم التشجير والبستنة، بل أكاد لا أعرف شيئاً في هذا المجال، لكن يكفي أن أسقيها كل يوم وهذا أقل القليل.
أما الآن، فهي تؤنسني في وحدتي، تصنع ابتسامة خفيفة على القلب كلما وقعت عيني عليها، تشعرني بالانتماء إلى الأصل الذي أتيت منه، إنها صديق وفي لا يقاطعك في الكلام، ينظر إليك بهدوء وأنت تنجز أعمالك، ويقف هناك دونما حراك حتى ترمقها أنت بالنظر، فتؤنس فؤادك، وأنت تراقب خضرتها يوم بعد آخر، تستمتع برش رذاذ الماء فوق أغصانة، تشعر بالرضى بعد كل سقيا، فأنت بذاك قد أديت مهمتك، وساهمت في حياة كائن في هذا الوجود، حتى لو كانت مجرد نبتة صغيرة.
يذكرني هذا الأمر بالأطباء، من هم سبب في إنقاذ الناس وبث الحياة فيهم من جديد، طبعاً مع وجود الفارق الكبير، لكن المبدأ واحد، والمطلوب مني الآن أن أتجرد من المصلحة، أن لا يكون إساهمي الصغير هو من باب المصلحة، بل بدافع بث الحياة في الوجود، وحينها قد أكون أحسن حالاً، وأعلى مقاماً، من ذلك الطبيب الذي لا يعمل إلا من أجل القروش والدراهم، (أقول “قد” ولا أدعي ذلك).
أحدثكم الآن وقد كبرت قليلاً، وقد بدأت بعض البراعم بالتبلور، إنها بنات الزهرة الأم، ولدت من رحم ألمها، وكأن موتها كان مخاضاً لولادة جيل جديد من الزهور الصغيرة، جيل يظهر للحياة ويضرب لنا أمثلة متجددة عن معجزة الخلق، تذكرنا بأن الله هو فعلاً من (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)، سبحانه وتعالى جل في علياءه وتقدست أسماؤه.