اكتشفت -متأخرًا- هذه النعمة العظيمة، كنت أقول عنها مضيعة للوقت ومكانًا للعاطلين، لكن… متأسف… كنت مخطئاً، هي مكان رائع وملهم.
إنها (القهوة).
أصبحت مدمنًا مؤخرا على القهاوي، أتنقل من واحدة إلى الأخرى، أسجل مواقعها على الخريطة، أُقيّم كل واحدة بحسب مواصفات عدة، أتخير الأفضل فالأفضل لأقضي فيها سويعات كل يوم.
إنها مصر، بلد القهاوي بامتياز، حيث تجتمع بالأصحاب أو تختلي بنفسك، وأنا من النوع الثاني، أحب العزلة المختلطة، أن أكون لوحدي وسط الناس، أحمل هاتفي لأقرأ كتابًا، أو سماعتي لأستمع لحديثٍ ماتعٍ عبر حلقة بودكاست، أو حاسوبي لأنهي عملاً أو أكتب شيءاً.
تنتشر القهاوي بين الشوارع، تخترق الأزقة والحواري، هي ديار مفتوحة لكل عابر سبيل، لكل هارب من دوشة الحياة وضغط الأسرة، لكل من يريد أن يقف على قارعة الطريق يراقب الحياة وهي تمر من أمامه، يتأمل، يفكر، يأخذ استراحة محارب ثم يكمل مشوار حياته.
أما مواصفات القهوة المميزة، فهي عديدة، أولها الهدوء، أحب القهاوي التي تتمركز في شوارع فرعية، شوارع واسعة نظيفة تحفّها الأشجار وتداعب ناصيتها الشمس في الشروق والغروب، ويمكن إجمال المواصفات بالبعد عن التلوث، صوتيا أو مرئيا أو هوائيا، التلوث الصوتي هو الإزعاج من محركات العربات أو من صراخ الشاشات، أما التلوث الهوائي فهو ما تنفثه الأفواه من دخاخين، والقهوة الجيدة هي التي تمتلك مكانًا واسعًا ليتمكن المحافظ على رئتيه أن يبتعد عن كل مشيش ومدخن.
ما أجمل القراءة في القهوة، وما أجمل الهواتف الذكية حين تُستَثمر لإثراء الحياة، بدلاً من التجول في ردهات الفيس والواتس، تقرأ كتابك عبر الهاتف، وعبر الانترنت -هذه النعمة التي سهلت لنا الوصول لأصحاب العقول والاطلاع على التجارب والخبرات- تصل لما تريد أينما تريد.
كل شخص في القهوة يقضي أفضل جزء من يومه، يحتسي أفضل مشروباته، هي لحظة وصول الركب إلى الواحة للتخفف من وعثاء السفر، الكل يمارس نشاطه الذي يرفع عنده (الكيف)، هي الساعة السليمانية لمن لا يملكون نبتة (القات)، وكل واحد أدرى بساعته، منّا من (كيفه) في القراءة، آخر يكيّف على كوب من الشاي الثقيل، شخص يكيف بالتحدث مع الأصدقاء، وشخص يكيف -ربما- بمجرد البعد عن زوجته.