الحياة تتطور باستمرار، من الذرة إلى المجرة، ولا أدل على ذلك من برعمة صغيرة، كانت بذرة، وستصبح نبتة فشجرة، لكن المؤسف هو بقاء المسلم دون تطور روحي، دون قطع المراحل الموصلة وتجاوز العقبات الحائلة، حين تمضي عليه الأيام والسنون دون تقدم، فيبدأ من بوابة الشريعة ويبقي فيها.
أتى جبريل عليه السلام ليعلم أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن من بعدهم، أصول التطور، عوالم الروح الثلاثة التي ينبغي للمسلم تخطيها في رحلته إلى الله، أن يكون مسلماً، فمؤمناً، فمحسناً، فالإسلام هو البوابة الأولى والقاعدة الصلبة التي يؤسس عليه البناء، فهي إقرار بالوحدانية، وصلاة وصيام وحج، وزكاة من شأنها إقامة المجتمع الذي يعيش فيه الناس في أمن وسلام، فالأمن مرتبطٌ بلقمة العيش ومدى توفرها.
الصلاة هي عماد الدين، الدعامة الرئيسية التي يؤسس عليها المسلم علاقته بخالقه، ومنها ينطلق ويتطور، والمشكلة التي نقع فيها أننا نتوقف عندها، لا نستمر في التطور والبناء والعروج إلى المراحل التالية، تخيل الصلاة كعمود بناية يحمل ثقلها، تبنيه أولاً لتكمل عليه، أما أن تضع العمدان ثم تترك البناء دون إكمال، فهذا هو الحمق بذاته، فما فائدة الأعمدة إن لم تصل لنهاية المرحلة، أين هي الثمرة المتمثلة في تجهيز الوحدات السكنية؟ متى يستقر الساكن في مهجعه وينام الطفل على سريرة، وبالمثل؛ متى يستقر قلبك وتطمئن روحك إن لم تكمل البناء وتصل للمرحلة الثالثة.
الإيمان هو مستوىً ثاني، هو رحلة طويلة يخوضها الإنسان في خضم مجريات حياته، لقد عبر ابن قيم الجوزي عن النفس كجبل كبير ينغبي على المسلم تسلقه، فمجاهدة النفس هو الترقي في معارج الإيمان، فالإيمان يزيد وينقص، الإيمان بالله وأسمائه وصفاته، فأنت تؤمن بأن الله هو الرزاق، فتنفق دون خوف أو قلق، تؤمن أن الله هو الحسيب الرقيب، فتخاف من الخطأ والزلل، تؤمن أنه الرحيم الذي حثك على رحمة خلقه، فترحم العباد وتلين لهم، وبأنه العفو فتعفو، الحليم فتحلم، وهكذا هو حال الإيمان؛ إقرار في الداخل ينعكس على الخارج، والخارج يتعلق بالآخر؛ أقرباء وأصدقاء، جيران وزملاء، يتعلق الأمر بتعاملاتك اليومية ومجريات حياتك العادية، بالاختبارات الصغيرة التي تُلقَى إليك باستمرار، بقراراتك التي تتخذها كل ساعة، إنها رحلة الإيمان، تلك الرحلة التي تقوم على أسس الإسلام، فصلاتك تهذب نفسك وتعيد الاتزان لحياتك، تلقى ربك بقلبك عدة مرات كل يوم، فتقرأ أو تسمع الآيات التي تذكرك به وبوعده الجميل.
وقد قيل: الشريعة (أي الإسلام) = هذا لك وهذا لي، والطريقة (أي الإيمان) = ما لي هو لك، أما الحقيقة (أي الإحسان) = لا لي ولا لك.
الإحسان كما ورد في الحديث النبوي الشريف: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك) أي أنك حين تعمل العمل، لا ترى العمل، ولا ترى نفسك، بل تراه سبحانه بعين قلبك، ولإن كانت مجاهدة النفس على القيام بالعمل هو الجبل في المرحلة السابقة، فإن تجاهل النفس هو الجبل في هذه المرحلة، فكم من عامل يعجبه عمله، فيرى نفسه، وقد يداخله الرياء، وقد يصل به إلى الكبر، وهنا الطامة، فأنت لا تصل إليه سبحانه عبر مرحلة الإحسان إلا حين تنكر نفسك، لأنها هي من يحجبك عن رؤية الحق بقلبك، وإن من أعظم الأسباب الموصلة لهذه المرحلة، ذكر الله، ذكرٌ ينسيك نفسك ويشعرك بقرب ربك، ذكرٌ دائمٌ بالقلب واللسان مع استمرار العمل بالجوارح وإقامة الأركان.
إذن، (1) البوابة هي الإسلام، (2) تجاهد نفسك عبر معارج الإيمان، (3) تصل لربك عبر الإحسان، ولإن كانت هذه الرحلة طويلة، فهي بلا شك جميلة إن أنت وصلت لآخر مراحلها، فمن يبني منزله لن يستمتع به بعد إكماله الهيكل الأساسي (الإسلام) ولا بعد أن ينهي بناء الجدران والنوافذ (الإيمان) بل حين يكمل الطلاء والتأثيث (الإحسان)، فتستريح روحه وتطمئن نفسه، على أنه لا يتوقف عن العمل والمجاهدة، فالراحة للقلب لا للبدن، ومع ذلك فإن البدن يجد في العبادة حلاوة، وفي المجاهدة لذة، لأنه يعبد الله (كأنه يراه) وقد تحدث الأولين عن تلك المتعة التي خبروها، فقال ابن تيمية (إنّ في الدينا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة).
ملاحظة/ كتبت هذه الخاطرة بعد مشاهدة خطبة الدكتور عدنان ابراهيم الأخيرة بعنوان (المهطرق المبارك)