الشباب واليوتيوب ومعاناة الآباء

آه يا ولدي، كم أحزن عليك وأشفق، وكم أنا مستاءٌ مما نعيشه من أوضاع غيرت حياتنا، والأخطر، أنها تغير حياة أجيالنا الصاعدة، من نعوّل عليهم بناء المستقبل، وما حزني إلا من جهة هذا العالم الرقمي الذي ليس له حدود، وخصوصاً هذه البوابة المليئة بكل أطياف البشر (اليوتيوب) كل واحد فيهم يريد التهام أكبر قدر من كعكعة وقتك، ووقتك هو حياتك.

أتعجب من ذاك اللاعب الذي ينشر كل يوم مقطعاً طويلاً يلعب فيه، ثم هو في رمضان ينشر مقطعين، مئات الآلاف من الشباب يشاهدونه وهو يلعب، لقد شغلهم بلعبه ولهوه طيلة العام ثم هو في رمضان يشغلهم أكثر، بدلاً من أن يقرر اغلاق القناة، محافظة على وقته ووقت الشباب الصغار، فيساعد بذلك الآباء والأمهات على توجيه الشباب لما فيه صلاحهم في هذا الشهر.

كلما زادت المغريات وانتشرت المشهيات، وجد المرء ممانعة كبيرة وتطلب الأمر مجاهدة شديدة، وكيف لهذا الشاب الصغير أن يجاهد نفسه عن مشاهدة هذه الحلويات وهو صغير لم يقوى عوده على مخالفة هواه ونفسه، والآباء والأمهات موجودن بجانب أطفالهم لمساعدتهم، لكن الأمر يصبح أصعب كلما تفنن سارقوا الأوقات في تشكيل حلوياتهم (المرئية)، يصعب الأمر كلما تفنن الناشرون في إثارة الفضول داخل نفوسهم، وللأسف، هم في سباق محموم وفي منافسة شديدة من أجل الإغراء والجذب، بالصورة والعنوان والمونتاج، بالمؤثرات البصرية والمنوعات الحسية لكسب أكبر قدر من وقت المشاهد.

الوقت هو الحياة، هو مصدر المال الوفير، الكل في سباق شديد لجذب أوقاتنا، هذا ما تشجع عليه هذه الشبكات، تكافئ من ينشر أكثر، من يغري بالصورة والعنوان، من يلهي المشاهد فيطول بقاؤه، تكافئه بانتشار قناته وزيادة أرباحه، هذه خلطة النجاح المادي في اليوتيوب كما هي معلنة، والناس في تنافس شديد وإبداع أشد، كلٌ يريد الربح على حسابك، كلٌ يريد الزيادة عبر إضاعة وقتك.

أعرف أن فصل السلك هو العلاج الناجع لهذه المشكلة، وإيقاف الباقة هو الحل الأسرع لهذه القضية، لكن الأمر ليس بهذه السهولة، ستكون شاذاً غريب الأطوار، وحتى لو أقنعت نفسك والتزمت في حياتك، أليس لديك أسرة وأطفال، يرون من حولهم جميعاً يشاهدون، يريدون مثل أقرانهم، وأنت كذلك لا تريد أن تكون حدياً متشدداً، فاللهو مطلوب والمرح مهم للأطفال، لكن ما أن تفتح المجال قليلاً، إلا وينهال سيل من المحتوى الذي لا يمكن إيقافه، ولا يتحمل الوقت إكماله.

لازلت أحلم بتلك الجزيرة التي أنتقل إليها يوماً ما، بعيداً عن الحياة العصرية التي لوثت فطرتنا، أبتعد عن لوثة الرأسمالية التي أعلت من شأن التفاهة فقد لأنها تدر مالاً أكثر، فالمال هو الحاكم ولا عزاء للقيم، أبتعد عن هذه الحياة المقلوبة التي جعلت صاحب قناة يكسب ثروة طائلة من عمل هو أصله ضار أو قبيح، بينما المزارع الذي لا نستغني عن جهده، الذي نحصل منه على الغذاء من أجل البقاء، هذا المزارع هو من أفقر الناس للأسف، فيا لها من مفارقة عجيبة، ويالها من حياة مقلوبة.