ملاحظة: لا يوجد حرق لأجزاء الفيلم في هذه المراجعة، الحرق، وكل الحرق، موجود في مقالة أخرى يمكنك الذهاب إليها بمجرد نقرك على هذا الرابط.
بعد كل فلم تشاهده، تحصل على مجموعة أفكار/معلومات/قهقهات، وأيضاً مشاعر وأحسايس، ومن المشاعر التي تطغى عليك أثناء مشاهدة هذا الفيلم هو “الشعور بالبرد” 😅 (يذكرني بنفس شعور البرد الذي حصلت عليه من مشاهدة فيلم The Revenant)، وأيضاً الشعور بالغرابة الغموض وبعض الرعب.
الفيلم يدعى (I’m Thinking of Ending Things) وهي العبارة التي ستضل تدور في رأس بطلة الفليم مراراً وتكراراً، وستضل تدور في رأسك أنت كذلك محاولاً أن تجد لها مبرراً أو تفسيراً، بل أنك ستضل تبحث عن تفسير ومغزى للفلم بأكمله، وعندما تصل لنهاية الفلم، حينها قد تلعن الساعة التي قررت فيها مشاهدة هذا الفيلم الغريب، أو قد تقرر -مثلي- الغوص في بعض صفحات الانترنت باحثاً عن تفسيرات وفك للشفرات.
بعد قراءة بعض مراجعات الفيلم في موقع IMDB، وجدت له تفسيرات من أشخاص قد قرأوا الرواية الأصلية التي بني عليها الفيلم، وهي رواية من تأليف شخص يدعى (Iain Reid)، وحين عدت للفيلم من جديد وشاهدت بعض أجزاءه، فهمت كثيراً مما يصعب فهمه (أنقر هنا لقراءة المقالة التي تشرح وتفك طلاسم هذا الفيلم).
برأيي أن المخرج (تشارلي كوفمان) لم يفلح في إيصال الفكرة الأساسية أو إيضاح الحبكة كما ينبغي، أعرف أن هذا ديدنه في أفلامه، أن يلفها بالغموض ويلغمها بالرموز، لكنه قد تمادى أكثر في هذا الفلم، حتى أصبح من العسير جداً فهم الحبكة الرئيسية دون الاستعانة بمرشدين ممن قرأوا الرواية، ومن العسير كذلك الاستمتاع به من المشاهدة الأولى، هو مما يتطلب مشاهدته مرتين على الأقل لفهم حبكته وألغازه.
لكن ورغم ذلك، يعد الفيلم رائعاً في جانب الإخراج والتمثيل، الفيلم رغم أنه لا يعدوا عن ثلاثة مشاهد رئيسية تمتد على مدى ساعتين كاملتين إلا أن الأداء التمثيلي كان مميزاً وصادقاً جداً، بناء الشخصية مقنع، المعالجة الدرامية قوية أيضاً، يمكن أن نعتبر الفلم تحفة فنية غير مفهومة المغزى، مثل لوحات بعض الفنانين التجريديين.
لكن، وبرغم أن الحبكة الرئيسية قد غابت وسط سيل الترميزات، إلا أن هنالك رسائل مفتوحة يحاول الفيلم أن يوصلها للمشاهد، وأعني بكلمة (مفتوحة) أنه لا يقدم إجابات بقدر ما يطرح أسئلة، مثل سؤال الشيخوخة والتقدم في العمر، لماذا نميل لإهمال الكبار في السن وعدم إشراكهم معنا في الحياة، أو سؤال: هل فعلاً سوف يتحسن الوضع، هل من المنطقي أن نظل تشبث بالأمل، أو سؤال: ما فائدة الإنجازات في نهاية المطاف، ألن نموت جميعاً ونصبح نحن والتراب شيئاً واحداً، وغيرها من الأسئلة.
أعود وأقول أن الأداء الحواري والتمثيلي كان قوياً، فالفلم أصلاً مرتكز على هذا الجانب، أكثر من نصفه يدور داخل سيارة أثناء رحلة وسط الثلوج العاصفة، لذلك، فأن تشاهد مثل هذا الفيلم الطويل دون أن يكبس عليك الملل كبسته القاضية، فهذا بحد ذاته إنجاز يشكر صانعوا الفلم.
أيضاً هنالك الكثير من الرموز والألغاز التي يمكن أن تستمتع وأنت تفك طلاسمها، وهذا لن يحدث إلا في المشاهدة الثانية بعد أن تفهم حبكة الفلم الرئيسية، والتي ما أن تفهمها حتى تبدأ بحل لغز الفيلم كلعبة بازل تركب أجزاءها هنا وهناك، فيتضح لك المغزى من وراء مشهد أو السبب من قول جملة أو الفائدة من إيراد لقطة، فيضيف هذا متعة إلى المتعة الأولى، وهذا نقطة تحسب لهذه النوعية من الأفلام بشكل عام، ولأفلام (تشارلز كوفمان) على وجه الخصوص.
هذا شرح وتفسير لفلم (I’m thinking of ending things)، إن كنت تنوي مشاهدته فالأفضل أن تشاهده أولاً ثم تقرأ هذه المقالة لأن فيها حرقاً لكل أجزاءه تقريباً.
يبدأ الفيلم بعدة لقطات من داخل البيت الريفي، وهو نفس المنزل الذي قام (جايك) بأخذ حبيبته إليه لزيارة أبويه، فيما بعد، ستشاهد الرجل العجوز وهو يعيش داخل المنزل بمفرده (الذي يعمل في التنظيف داخل المدرسة الثانوية)، والذي سيتضح لك فيما بعد أنه نفسه (جايك)،
لكنه يعيش بمفرده داخل المنزل بعد أن أصبح مسناً، فهل يعني أنه لم يتزوج تلك الفتاة حين كان شاباً؟ الجواب هو أنه لم يقابلها أصلاً، أو لنقل: أنه قابلها في ذلك البار لكنه لم يتجرأ بمفاتحتها، وبذلك تصبح تلك الرحلة في السيارة وكل المشاهد التي جمعته بهذه الفتاة ليست سوى مشاهد تدور في مخيلة (جايك)، أي أن هذا الأمر لم يحدث على أرض الواقع، ولعلك تتذكر الحوار الذي دار على طاولة العشاء، حين طلب الأبوين من الفتاة أن تشرح لهم كيف تم اللقاء بينهما، فشرحت حتى وصلت إلى مرحلة سكتت فيه وسكت الجميع في استغراب، بمعنى أن ما دار على أرض الواقع كان حتى تلك النقطة فقط، وأنه لم يحدثها (لأنه لم يكن لديه الجرأة بسبب شخصيته الخجوله) وبالتالي لم تقع تلك العلاقة على أرض الواقع، لكن ما تم بعد ذلك كان في مخيلة جايك فقط، بدليل أن الفتاة حين توقفت عن الكلام ورمقت جايك، أومأ لها جايك بأن تكمل الحديث، في إشارة رمزية إلى أن الحكاية بعد تلك النقطة هي من تلفيق (جايك).
إذاً اتضح الأمر: الحكاية كلها لم تحدث، لم تصبح تلك الفتاة حبيبة جايك، ولم يقم بعمل رحلة إلى منزل أبويه الريفي، ولم يحدث أي شيء من ذلك على أرض الواقع، كله يدور في مخيلة (جايك)، لكن هل هي مخيلة جايك الشاب أم العجوز، الجواب: العجوز، وأحد الرمزيات التي تدل على ذلك، مشهد القبلة، حين حاول تقبيل حبيبته داخل السيارة فإذا بلقطة سريعة لرجل عجوز وهو يراقب من فتحة صغيرة، ففزع جايك وثار غضبه، والرمزية هنا أن جايك (العجوز) هو الذي كان يراقب، لأنه هو مبتدع القصة ومختلق الأحداث من أساسه، وكل هذا يدور داخل عقله، لذلك فهو يراقب ويعرف كل التفاصيل.
وهنالك تفسير آخر لشخصية الفتاة، تلك الفتاة التي اختلف اسمها أكثر من مرة داخل الفيلم، بمعنى أنها ليست سوى شخصية وهمية من نسج خيال (جايك) وأن جايك يرى فيها نفسه، أي أنها هو وهو هي، ولذلك دلائل كثيرة، مثلاً حين رأت صورته المعلقة على الحائط وهو صغير، حسبت أن الصورة لها وهي صغيرة، وهذا يدل على تماهي الشخصيتين وكونهما شخصاً واحداً:
دليل آخر فيه تفسير شامل لشخصية (جايك) وهو القصيدة التي كتبتها الفتاة وألقتها داخل السيارة أثناء رحلة الذهاب، لقد وصفت حالة (جايك) وحياته البائسة، فبعد أن أكملت سرد القصيدة، قال لها (كأنكِ كتبتها عني).
من التلميحات أيضاً: حين نزلت الفتاة إلى المرآب ورأت لوحات جايك، والتي كانت لوحاتها هي نفسها، وهذا يدل أيضاً على أن الفتاة وجايك والرجل العجوز (عامل النظافة) ماهم إلا شخص واحد.
يتحدث البعض أن مغزى الجملة (والتي هي عنوان الفيلم) أنها عبارة تدور في رأس الرجل العجوز (الذي يتخيل كل تلك الأحداث) وأنه يعني أنه يريد أن ينهي حياته (ينتحر) والمشهد الأخير حين أحس بضيق شديد داخل السيارة، ثم بارتياح، كانت تلك لحظة موته، ثم يقدم لنا المخرج ذلك الخنزير على شكل رسم متحرك وهو يتقدم جايك داخل ممر المدرسة.
قد يكون هنالك تفسير آخر، قد يكون المخرج (والذي هو كاتب السيناريو أيضاً) قد قام بتعديل بسيط في سير القصة ونهايتها، لأن الحوار الأخير الذي دار بين الخنزير وجايك العجوز لا يوحي بأن جايك قد قرر الانتحار، ففي نهاية الحوار قال له الخنزير (لنلبسك ثياباً)، بعدها ظهر جايك وهو يعتلي المنصة ويقدم خطاباً للجمهور، الخطاب الذي يتم فيه تكريم جايك في نهاية المطاف والاعتراف بحياته وإنجازاته.
فهل كان المقصود بجملة (لنلبسك ثياباً) أي تلك الثياب التي تقدم بها إلى المنصة وألقى بها الخطاب (ربما)، أو أن المقصود هي ثياب أخرى (ثياب ما بعد الموت)، وبالتالي تكون تلك الخطبة هي مما أدخله المخرج إلى سياق الفيلم ليعطي احتمالاً آخراً ومساراً مختلفاً، لأن تلك الفتاة كانت من بين الحضور في تلك الخطبة، والمعنى هنا أنه لو كانت الخيارات قد اختلفت وقُدر لجايك أن يحب تلك الفتاة ويتزوجها، ربما كانت هذه هي نهايته، نهاية عظيمة بتتويج كبير بعد أن أمضى حياة مزهرة، وهنا يذكرنا هذا المشهد بفيلم (Mr. Nobody) والذي تدور فكرته حول الخيارات والقرارات التي يتخذها الإنسان في حياته وتشكل بذلك قدره.
وهنالك إشارة واضحة من خلال تلك الخطبة التي ألقاها جايك، إلى أن الحب والاقتران بزوجته تلك كان السبب في نجاحه كله (لو أنه قام بذلك في شبابه)، لقد كان كله من أجلها وبسببها.
يبقى أن نفسر الرقصة الاستعراضية قبل نهاية الفلم، وأقرب تفسير في اعتقادي أنه تعبير عن أن جايك كان قد اقترب كثيراً (وربما عدة مرات) من أن يجد شريكة حياته، لكن شخصيته الأخرى (الخجولة والانعزالية) كانت تتعارك معه دائماً وتهزمه (في نهاية المطاف)
ونرى أن الشخص الذي تهجم عليه قبل أن يتم زواجه من تلك الفتاة وحال بينه وبينها هو شخص يرتدي نفس القميص الذي وجدته الفتاة داخل مغسلة الملابس في قبو المنزل الريفي، وهو كذلك نفس القميص الذي يرتديه جايك العجوز (عامل النظافه) بمعنى أن الشخصية الخجولة الانعزالية هي التي انتصرت في نهاية المطاف (قامت بقتل الشاب المفعهم بالحياة في نهاية مشهد الرقصة) وبالتالي حكم على حياته بأن تكون تلك الحياة البائسة الموشحة بالوحدة.
أحد الرسائل المبطنة في الفلم، أن جايك لم يتمتع بشخصية شجاعه، كان الجبن أحد أسباب تشكل حياته على ذلك النحو، فنرى مثلاً الأم وهي تتحدث إلى الفتاة وتأمرها بأخذ الرداء إلى الغسالة في القبو، وهي بذلك توجه حديثها لجايك نفسه (لأن شخصية الفتاة هي شخصية جايك) تقول لها (واجهي المخاطر) في إشارة إلى أن جايك كان يخاف من ذلك القبو، وهو ما بدى عليه أول مرة حين سألته الفتاة عن ذلك القبو، بدى عليه الرعب والخوف من ذلك المكان، إنه الخوف الذي لزمه منذ الصغر فشكل حياته على ذلك النحو.
من المشاهد التي تفسر جانباً من فلسلفة الفلم (والمخرج والكاتب)، مشهد جاي العجوز وهو يمشي بعد الخنزير بعد أن فارق الحياة، حيث يقول الخنزير:
“لا بأس بالأمر حين تكف عن الرثاء لنفسك لأنك مجرد خنزير، أو أسوأ من ذلك، خنزير مملوء بالديدان، هناك من يجب أن يكون خنزيراً مليئاً بالديدان، صحيح؟ فلعله أنت، إنها مسألة حظ، تتقبل قدرك تستغل معطيات الحياة بأفضل طريقة ممكنة، تمضي قدماً، لا تقلق حيال أي شيء، هنالك طيبة في القلوب في هذا العالم، يجب عليك البحث عنها، كل شيء متشابه حين تمعن النظر، بصفتك عالم فيزياء، أنت تعرف ذلك، أنت، أنا، الأفكار، جميعنا شيء واحد”
كانت تلك بعض التفسيرات، وهنالك أمور أخرى غير مفهومة في الفيلم (بالنسبة لي على الأقل) من أهمها تلك الرسالة الصوتية التي وصلت إلى تلفون الفتاة وهي في قبو المنزل، والتي كانت بصوت جايك نفسه، فقد احتوت على التالي:
“هنالك سؤال واحد يحتاج إلى إجابة، أنا خائف، اشعر بأنني مجنون، لست واعياً. الافتراضات صحيحة، أشعر بخوفي يزداد. حان وقت الإجابة الآن، سؤال واحد فقط، سؤال واحد فقط يحتاج إلى إجابة”
يعتبر (Knives out) أحد الأفلام المذهلة في حبكتها الدرامية، أو ما يسمى بـ (Plot twist) والتي تترجم على أنها (تغير غير متوقع للأحداث)، بالنسبة لي هو أحد أكثر الأفلام إمتاعاً وإدهاشاً مما شاهدته في السنوات الأخيرة، صحيح أنني لم أخرج منه بأي معنىً عميق أو فائدة معرفية أو فكرية، لكنه يستحق الإعجاب والإشادة.
يبدأ الفيلم بحضور محقق شرطة لأخذ أقوال أفراد أسرة توفي أبوهم قبيل أيام، أما طريقة الوفاة فقد كانت (انتحاراً)، الأب هو كاتب مشهور له روايات منشورة بعشرات اللغات وملايين النسخ، وقد خلف وراءه ثورة طائلة، يظهر في غرفة المقابلات رجل يحسن فن الإنصات ويتضح فيما بعد أنه رجل تحقيقات مشهور تم استئجاره لكشف شيء غامض تفوح رائحته حول القضية.
مسار القصة وعبقرية الإخراج تدفعك للشك بأكثر من طرف بأنه المتسبب في عملية القتل، وكلما اقتربت من حبك نسيج القصة في رأسك تأتي الأحداث لتقلب الطاولة وتعيدك إلى مسار مختلف تماماً، فالفيلم لا يحتوي على (بلوت توست) واحدة، بل عدة (توستات) مركبة واحدة فوق الأخرى.
في جزء مبكر من الفيلم، تكتشف -كمشاهد- السر، لكن تشك أنه قد يكون فعلاً السر، فكيف للنهاية أن تعلن منذ البداية، ثم يتضح أن تشككاتك في محلها، فالأحداث تخبئ المزيد والمزيد.
الفيلم نجح في الجمع بين أمرين؛ نهاية سعيدة، وأحداث غير رتيبة، فأفلام النهايات السعيدة عادة ما تبدو مملة وأحداثها متوقعة، بينما تميل أفلام النهايات الغير سعيدة بأن تعطي (بلوت تويست) قوية، أما هذا الفيلم فقد نجح بأن يخيب توقعاتك وأن يلبي تطلعاتك.
هنالك لمسات إخراجية جميلة، وأداء مميز لعدة ممثلين في الفيلم، أهمهم (دانيال كريج) الممثل البريطاني الذي أدى دور (جيمس بوند) في أفلام سابقة، فقد ظهر بلكنته البريطانية وسط الأمريكان فأعطى تنوعاً في المذاق وتنغيماً في الأصوات.
مخرج الفيلم شخص يدعى (رين جونسون) وهو من كتب القصة كذلك، وهذا أحد أسباب تميز هذا الفيلم، أن كاتب القصة والمخرج شخص واحد، فمن كتب القصة سيعرف فعلاً كيف يخرجها بأفضل طريقة.
في نهاية المطاف يمكن اعتبار هذا الفيلم مادة ممتعة نظيفة نسبياً، فهو خالي من المشاهد الخادشة للحياء (تقريباً)، ولا يحتوي إلا على القليل من كلمات الشتم والسباب.