سمعت رسائله في اندهاش، يحاول وصف ما لا يوصف، وإيصال مشاعر لم تُجرّب، لا ليست مشاعر، بل هو وحشٌ كاسر ليس له معالم، هو سواد سحيق في قاع الروح، إنه الاكتئاب، إنها هجمات الهلع (panic attack) ولقد سمعت عنها وقرأت، ويا للعجب مما قرأت، هي فعلاً هجمة شديدة لكن المشكلة أن الضحية لا يرى المهاجم، وإلا لكان نزالاً عادلاً وجهًا لوجه، فما هذه الهجمات وما هذا الوحش؟
لقد مرتتَ بظروفٍ صعبة لكن هنالك من مر بأصعب، صحيح أن الاكتئاب هو اختلال في بعض المواد الكيمائية داخل الجسم لكن هذه هي الأعراض، فما هي الأسباب، كيف وصلت إلى ما وصلت إليه، أين كانت أجهزتك الدفاعية وقت أن وقعت الأزمة، كيف تمكن الشيطان من الوصول إلى أعمق نطقة فيك (روحك).
سيثار استياء من هذا الكلام، فما دخل الروح في هذا المرض، ولماذا نلصق التهمة بالشيطان الرجيم، فالشيطان ليس من ضمن الأعراض التي في كتب الطب، لكن متى كانت الروح من ضمن قاموس الطب أصلاً، في حين أن الروح هي أصل أصيل في كينونة الإنسان ووجوده، والشيطان هو العدو اللدود للإنسان كما أخبرنا الواجد لكل موجود (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)، لذلك، وهذه قناعة شخصية، أعتقد أن المهاجم في تلك الهجمات هو الشيطان، والخطورة أنك لا تستطيع رؤيته ومن الصعب رد هجمته.
إن ما يظهر من أعراض جسمية ليس سوى استجابة لحالة نفسية/روحية، وليس هنالك عيب في علاج المكتئب بالعقاقير لمساعدة جسده للعودة لوظائفه الطبيعية وبالتالي النهوض من جديد واكمال مشوار الحياة، لكن هل هذا كل شيء، هل علاج الأعراض يغني عن علاج المشكلة الأساسية؟
إذن، فما هو الجهاز الدفاعي الذي يمكن به مواجهة تلك الهجمات التي لا نعلم مصدرها، إنه الإيمان، تلك الكلمة المعروفة للجميع، لكن نقول أن الذي أصيب بالاكتئاب لم يكن مؤمنًا، لا، أنا وأنت وهو مؤمنون بحمد الله، لكن السؤال هنا: ما قوة إيماني وإيمانك، وهل هذا الإيمان قادرٌ على مواجهة خطوب الزمان ومصائب الدهر، ومن أجل تقريب الفكرة، تخيل الإيمان كأنه جدارٌ حاجز (لصد المعتدين) أنت تزيد من سمكه مع الأيام تدريجًا، وتحمي به نواة كينونتك (روحك) ولن تكتشف سماكة هذا الجدار إلا حين ترميك الحياة بالرزايا، حين تزيد المشاكل وتكثر الهموم، عندها يظهر إيمانك، هل هو قادرٌ على حماية روحك؟ هل هو قادر على صد الهجمات؟
الشيطان يتحين الفرص، والمعركة دائرة لا تفتر، تساعده الدنيا من الخارج وتسانده النفس من الداخل، يعمل ليل نهار لإلهائك عن مصدر قوتك، عن تلك الأنشطة اليومية البسيطة التي تضمن زيادة الإيمان في قلبك (زيادة سماكة الجدار) ثم حين تحين الفرصة، يهجم عليك مستعينًا بمصائب الحياة ومستفيدًا من ضعف الحصون فيصل إلى نقطة عميقة فيك لا يجب أن يتواجد فيها، فتظهر الأعراض الغريبة التي لا يمكن وصفها، ويستجيب الجسم وتتغير بعض مواده الكيمائية، فنقول حينها: اكتئاب.
وما هذا الحصن العجيب الذي سوف يحميني ويحميك من تلك الهجمات المسعورة، ما هو الإيمان؟ إن موضوع الإيمان هو مما يصعب شرحه، لكنه لا شك قوةٌ دافعة وحصنٌ منيع، وما يهمنا هو كيفية بنائه وتقويته، والحل بسيط يمكن تلخيصه في كلمة واحدة هي (الذكر) وهذه الكلمة تتفرع إلى ثلاثة أنشطة يومية هي (ذكر اللسان وتلاوة القرآن والصلاة)، أعلم أننا نصلي بحمد الله، لكن هل هي صلاة حقيقية تساهم في بناء الإيمان، أم هي عادة موروثة تكفل الجسد بأدئها قيامًا وقعودا، وحين نذكر الله، هل يغرد القلب مع اللسان ويسبح في ملكوت الله، و ماذا عن صلاة الفجر، ماذا عن وقت السحر، ثم أين نحن من قيام الليل، تلك العبادة التي فرضها الله على نبيه لأنه (سيلقي عليه قولا ثقيلا)، نعم، إن الحياة قد تصبح (حملا ثقيلا)، فإن لم يكن لديك إيمانٌ شديد يحميك فربما كنتَ الضحية القادمة لوحش الاكتئاب.
حقيقة أخرى يجب أن تكون واضحة، الإيمان يُبنى مع الأيام؛ الوقت عنصر أساسي في عملية البناء، لذلك نحن نقول أنها أنشطة يومية يجب أن نتشبث بها ولا نتساهل فيها، أي أنه من الضروري أن يكون لك وردٌ يومي لتلاوة القرآن (أو الاستماع له) بتدبر وحضور قلب، وأن نحافظ على صلاة الجماعة وصلاة الفجر على وجه الخصوص، وأن يكون لنا وردٌ يومي من ذكر الله والعقل حاضر غير سرحان، وأن نصلي في الليل حتى ركعتين ونأنس بمناجاة الله حتى دقيقتين، وكل يوم أنت تؤدي مهامك أنت بذلك تقوي إيمانك، وكل يوم تغفل عن ذلك إيمانك يضعف، وللأسف لن تكتشف قوته إلى حين تحل المصائب وتكثر المشاكل، حينها سيكون من الصعب الخروج من تلك الدائرة اللعينة.
الأمر قد يحدث لي أو لك في أي وقت، والحياة غير مضمونة، اليوم حياتك جيدة وأمورك طيبة، لكن لا تغتر بما لديك من أجدر أو أعمدة تستند عليها، قد ينهار أي عمود في أي لحظة، قد تفقد وظيفتك، قد تنقلب عليك زوجتك، قد وقد وقد، وحينها لن ينفعك إلا عمود واحد يمكن أن يصمد أمام كل شيء، لأنه ببساطة شيء خارج إطار الحياة ومتعالي عليها.
القلب المعلق بالله لا يضره شيء لأنه معلق بمن بيده كل شيء، الحياة كلها مجرد عوارض تظهر وتختفي، هو يسعى لما هو أكبر، فإن خسر عرضًا أو أعراض فلايزال الهدف الأهم أمامه يحلي بالأمل أيامه، وقد يكون صبره على تلك المصائب سبيلًا للوصل إلى حب مولاه، نحن بحاجة إلى حب حقيقي يذوب أمامه كل شيء، والسلم للوصول إلى هذا الحب هوالإيمان، والطريقة لبناء هذا السلم هو الذكر، والذكر هو أنشطة يومية تمارس على مستوى الجسد والفكر والقلب.
السبيل هو المجاهدة، لن تدعك الحياة بزحمتها ولا الشيطان بمكره أن تؤدي تلك الأنشطة كما يجب، إن هزمتَ نفسك بترك أريكتك المريحة وخرجت للمسجد فستجد الشيطان بالمرصاد يحاول صرف قلبك عن روح الصلاة (الخشوع) تحتاج للمجاهدة خارجيًا وداخليًا، الدنيا تغريك بالمشتهيات والسعي ورائها يلهيك عن المهمات، وعليك أن تجاهد وتكافح، هكذا ينبى الإيمان، أما حين تؤخر الصلاة لأنك مشغول، وتترك المسجد لأنك كسلان، أو تؤثر السهر على حساب صلاة الفجر، فهذا لا يبنى إيمانا، إنما نخادع به أنفسنا، وحين تأتي الخطوب يظهر الخبر.
وقد يقول قائل/ لقد اختزلت كل شيء في الإيمان، أين العمل الصالح الذي يتعدد ويتفرع، والذي هو الموصل لرضوان الله، والإجابة ببساطة أن الإيمان هو القوة الدافعة للعمل الصالح بجانب أنه الحصن المنيع، هو المبتدأ والمنطلق، ثم تأتي الأمور الأخرى من ورائه، ولعلنا نوضح الأمر أكثر في مقالة أخرى ان شاء الله.
إذن، الإيمان قد لا يشفي من الاكتئاب، لكنه يحمي من الوقوع فيه، وليس شرطًا أن يكون من أصيب بهذا المرض ضعيف الإيمان، ربما إيمانه قوي لكن لم يكن بالقوة الكافية التي تناسب ما مر به من خطوب وأحداث، لم يكن الحصن منيعًا ضد هجمات ذلك الوحش الكاسر المسمى (الاكتئاب).