بيني وبين عقلي – أبريل/مايو 2021

خطة الله لوصولك إليه

بِتُّ أوقن أن الغاية حياة الإنسان هو معرفة الله سبحانه وتعالى، ولكل إنسان مساره الخاص للوصول، وليس الجميع يصل لنفس المستوى، ولكنهم يتفاوتون تفاوتاً يقسمهم بعد ذلك إلى (أصحاب اليمين) و (المقربين) وفي كل قسم مستويات عدة، والإنسان لا يدرك ذلك إلا بعد أن يصل لمرحلة متوسطة أو متقدمة من العمر، لكنه أدرك أم لم يدرك، سوف يقترب لا محال ويعرف الله أكثر إن كان من المؤمنين، فخطة المعرفة هذه تقتضي أن تستجيب أولاً لما أراده الله وهو المسار الذي سيحملك إليه ويقربك منه، واقصد هنا الالتزام بالإسلام والترقي في مراتب الإيمان، بل وحتى من يركبون مراكب أخرى قد حرفت وبدلت (الأديان الأخرى) هم يصلون كذلك عبر مراكبهم تلك إلى درجات معينة، لكن طبعاً المركب الأصلي الذي رضيه الله لنا دينا هو القادر على إيصالك بأفضل ما يمكن إلى مستوى من المعرفة يؤهلك للفوز بالمكانة الأكثر سمواً في الحياة السرمدية.

وما يحدث في حياتنا ليس صدفة، صحيح أن الله سمح لنا باختيار المسارات واتخاذ القرارات، لكن وضمن كل قرار أو مسار نمضي فيه، سنجد أن ذلك المسار ينتهي إليه سبحانه (كل الطرق تؤدي إليه) كل مسار ينتهي إلى مرحلة تقربنا أكثر، وهكذا نتقلب في أحوال الدنيا ونحن في الحقيقة نعرج في سلم معرفته جل وعلا، وكما قال ابن القيم: لقد خلق الله الكائنات لخدمة الإنسان، وخلق الإنسان له سبحانه وتعالى.

لذلك أعتقد أن المغزى من هذه الحياة هي أن نخرج من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة، وكل معرفة تؤدي إلى معرفته سبحانه، لأنه هو المُوجد لكل شيء، وكل شيء يدل عليه، إذاً فنحن هنا لنعرفه، وهذا يتم عبر خوض هذه التجربة الحياتية من أولها إلى آخرها، بحلوها ومرها، بتقلباتها وعجائبها، نحن نتعلم من الكتب لكن نتعلم من الحياة أضعافاً مضاعفة، وما يسهل علينا طريق المعرفة هو الدين الذي يشبه القارب أو السفينة، فالتزامنا بما أمر الله واتباعنا لسنة نبيه هو ما يسهل علينا العبور والوصول إلى أبعد حد ممكن، والمسافات كبيرة، والوصول التام (التجلي) لا يتم في هذه الحياة، لكن لكل إنسان مقداره ومقامه.

وصل إلى نقطة في الطريق وتوقف

الناس يختلفون في سيرهم إلى الله (عبر طريق معرفته وحبه) تبدأ الرحلة بالعلم والمعرفة واستكشاف العالم والنفس، تبدأ من الخارج إلى الداخل، وهذه الرحلة سوف تؤدي إلى أعمق نقطة وهي الله سبحانه (هو الباطن سبحانه) لكن كل شخص يصل إلى نقطة معينة ويتوقف، يتوقف عندها ويثبت ويكمل حياته مترنحاً حولها، والأصل أن يستمر الإنسان في معرفة الله حتى آخر نفس وآخر لحظة، لأن الإنسان أياً كان لا يمكن له أن يصل إلى نهاية الطريق، لأن الله هو الإله المطلق الذي لا يمكن لنا أن نحيط بمعرفته أو أن تتسع قلوبنا لكامل محبته.

حسرة أن يتوقف الإنسان عن السير في نقطة بعيدة، ولايزال في العمر متسع، والمشكلة هي عندما يعتقد أنه وصل لنهاية الطريقة وأنه قد عرف كل شيء ولم يبقى شيء، في حين أن الطريق مفتوح ومتاح، والسير إليه يكون بعدة طرق، أهما المعرفة والعلم والتفكر، ويتم ذلك عبر كتاب الله (القرآن الكريم) وعبر علوم أوليائه مما نشر في الكتب منذ مئات السنين، فهم قد وصولوا إلى مراحل فدلوا من بعدهم على بعض معالم الطريق، وكذا عبر ممارسة الإيمان مع الحياة والذي ينتج عنه التجارب الروحية التي تزيد إيماننا بالله ومعرفتنا له ولأسمائه وصفاته، وأخيراً العلم بشكل عام فكل علم حقيقي يقودنا إلى الله، إنها خلطة الإيمان مع العلم والعمل.

أن تختار أفضل اختيار

قال لي ابني يوماً، وبعد أن قلت شيئاً أضحكه، قال أني امتلك مهارات كوميدية، قلت نعم، وبإمكاني أن أكون ممثلاً كوميدياً أو صانع محتوى فكاهي، ربما أمتلك الأرضية التي تؤهلني للسير في هذا المسار، ثم أردفت عليه وأعطيته هذ الفائدة:

أنت لديك قدرات كثيرة، ولديك مواهب وإمكانيات عديدة، لكن الحكمة هي أن تختار أفضل تلك المسارات، أن تختار أفضل شيء لتمضي في طريقه، فلا يعني أن يكون لديك بعض الموهبة في مجال أو إمكانية للسير في طريق، لا يعني هذا أنك يجب أن تسير فيه، لأنك متعدد المهارات والمواهب، بل الحكمة هي أن تختار الأفضل، وليس الأفضل يعني الأكثر ربحاً، فهذا فخٌ خطير، بل الأفضل هو ما يستحق أن تقضي حياتك فيه وأن تكلل مسيرتك به، الشيء الذي يسرك بعد أن تغادر الحياة، الأمر الذي يحقق لك الرضى في الدنيا والآخرة، وليس رضاك فحسب، بل رضى رب العباد والذي هو أولى وأهم.

رسالة كورونا المهمة

هنالك رسالة مهمة وكأن الله قد أرسلها إلينا عبر جائحة كورونا (وكم يا رسائل)، رسالة متعلقة بالتجديد الديني، مثال بسيط يمكن أن نخرج منه بنتيجة كبيرة، المثال هو صلاة الجامعة، كيف أصبحنا متفرقين، ألم نكن ننهى أن ندع فروقات للشيطان في سابق عهدنا، مالنا اليوم نترك فروقات شاسعات بين كل مصلٍ وآخر، ستقول أننا مضطرون لهذا الأمر حفاظاً على حياة الأفراد، سأقول أننا مضطرون كذلك للتجديد الديني حفاظاً على حياة الأمة، أليست حياة الأمة أهم من حياة الفرد، أليس ما كان مسلماً به بالأمس أصبح اليوم متفقاً على ضده اليوم، لقد اجتمع العلماء في البقاع والأصقاع على جواز أمر من أمور الصلاة، وكم يا هنالك من أمور كثيرة تحتاج اجتماع العلماء اليوم للاتفاق عليها كي تنطلق الأمة للسير في ركب الحضارة، كي يعلو شأنها وتكون فعلاً أمة وسطاً هادية للبشرية، فحياة الأمم (الروحية) مرهونة بحياة أمة الرسالة الخاتمة، وحياة هذه الأمة في خطر مالم نفكر ونجتهد ونقرر، مثلما فكرنا واجتهدنا وقررنا أن نتباعد في الصلاة بعد أن كنا مجتمعين.

معضلة الموت واعترافات فيلسوف

شاهدت فيلم وثائقي قصير عن فيلسوف يسمى (هربرت فنرقات) يحكي عن نفسه وقد اقترب من سن الـ 100 سنة، وقد ضعف جسمه وبدأ شبح الموت يخيم عليه، يقول أنه كتب عدة كتب منها كتاب عن (الموت) والذي قال فيه (لا يوجد سبب منطقي للخوف من الموت، لأن الموت ليس فيه شيء يخيف، فلا شيء سيحدث، فقط سينتهي كل شيء وتسدل الستارة) بمعنى أنه لم يكن يؤمن بالدار الآخرة، المهم أنه يقول في هذا الفيلم الذي سجل قبل موته بقليل (مات عام 2018) أنه كان مخطئاً في عبارته تلك واستنتاجه، وأنه حالياً يخاف من الموت ولا يدري ما سبب خوفه.

لقد اقتلع -في آخر سنينه- قناعته السابقة التي كتب ودافع عنها، وهو الآن يسأل نفسه، ما العبرة من كل هذا، وهو رغم عجزه وضعفه لازال يريد الاستمرار في الحياة، ولا يريد أن الموت، لقد نقض عملياً ما كان يقوله نظرياً، وأصبح حائراً لا يدري ماذا ولماذا وإلى أين.

كتب الكثير من الكتب والمقالات وقال وتحدث، إلا أن كلماته الأخيرة التي تخرج بشق الأنفس بعد أن أصبح ضعيفاً حائراً، هذه الكلمات الأخيرة القليلة هي أصدق من كل ما قال، لأن الذي يتحدث هنا هو روحه وليس عقله، الروح التي تتوق لبارئها وخالقها وتخاف أن يطمس أثرها، الروح التي ما ارتوت بعد لأنها لم تعد إلى من زرعها، ولم تتعرف عليه بصدق، فكيف سينتهي كل شيء والرحلة لم تبدأ بعد؟

وهنا نتذكر نعمة الدين ونعمة الإسلام على وجه الخصوص، النور الساطع القادر على إيصالك وإحيائك الحياة الطيبة، الذي أعطانا الإجابة قبل أن نسأل، وعبّد لنا الطريق قبل أن نعقل، فالدين هو نعمة وفضل من الله، هو هدية الله كي نحيا سعداء ونعرف كيف نمضي عرفاء.

فالحمد لله أولاً وأخيراً، الحمد لله دائماً وأبداً.

الله يرحمه، ذهب إلى خالقه وهو أخبر به، قد يكون الله أوصله إلى هذا العمر إمهالاً له حتى يتغير، فهو الرحمان الرحيم، لا يرضى لعباده الكفر، يجري عليهم أقداره حتى يعودوا إليه، إلى حضن رحمته الدافئ، وإلى برد حبه الواسع.

شئت أم أبيت؛ أنت كِسّيب

بعض الناس كِسّيب (بكسر الكاف وتشديد السين) فيما يتعلق بكسب المال (حطام الدنيا)، لكن كل شخص دون استثناء هو كسيب فيما يتعلق بالسيئات، الفرق أن البعض عندهم شفافية عالية فيمكنهم رؤية بعض ذنوبهم (لا يعلم جميع الذنوب إلا الله) والبعض أعمى عن أخطائه وسيئاته، ولقد رأينا كم من شخص في مجال العلاقات الشخصية والاجتماعية، من يجرح هذا بكلمة ويؤذي هذا بفعل ويستمر في الحياة دون أن يعرف ما يخلفه وراءه من جروح في القلوب وآثام في نفوس الآخرين، الناس من حوله يرون ويعلمون أخطاءه وهو أعمى، وقد يكون ذو طبع غليظ فيخاف من حوله قول الحقيقة له، فيستمر على عماه وهو يشعر أنه على ما يرام وليس عليه أي آثام.

هكذا هو الإنسان (كسيب سيئات) شاء أم أبى، والحاذق من حاول البحث عن عيبوه وذنوبه ولزم الاستغفار في الصباح والمساء، ثم التحسين ومحاولة الإصلاح في كل فرصة مواتية، والدعاء والالتجاء إلى الله بأن يغفر له الذنوب الخفية، وأن يبصره بعيوب نفسه، ويلزمه التوبة الدائمة.

يكفي أن نتذكر هذه الآية الكريمة التي خاطب الله بها رسوله الكريم (محمد صلى الله عليه وسلم) ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).

معرفة الله عبر رحلة الحياة الدنيا

قلت سابقاً أن طريق معرفة الله هو عبر خوض تجربة الحياة الدنيا مع وجود الإيمان، ذلك أن تجربة الحياة الدنيا تشمل الكثير من النعم والعطايا، وفي مرحلة من المراحل سيبدأ الإنسان بملاحظة المُنعم، وخاصة إن كان من أهل الإيمان والذكر، سيلاحظ أقدار الله العجيبة، سيلاحظ كرمه ورحمته عليه شخصياً، ستضيق عليه الدنيا فيلجأ إلى الله، وحين يعطيه الله ما أراد، حين تنكشف كربته أو تقضى حاجته، حينها سيلاحظ وجود الله وسيلامس قلبه برد رحمته، فيعرفه أكثر ويقترب منه أكثر، ثم تأتي مصيبة فيلجأ إلى الله فيحس ببرد الرضى في قلبه ويعيش السمو الروحي الذي ما خبره من قبل، فيعرف أن الله معه ويسمعه ويعلم حاله أكثر من نفسه.

إننا في بداية حياتنا نعرف ونتعلم، نتعلم التوحيد ونعرف أسماء الله الحسنى، نعرف أنه السميع، لكنها معرفة سطحية تفتح لك الطريق، هذه المعرفة ستتعمق أكثر وأكثر عبر رحلة الحياة الدنيا، حين ندعو فيستجاب لنا ونطلب فنعطى، حينها ستنتقل المعرفة السطحية إلى إحساس يتعمق اكثر وأكثر، سنبدأ بالتعرف على الله بشكل شخصي يتماشا مع تجربتنا الحياة، ولذلك كل شخص يعرف الله بطريقة مختلفة، يعرفه من زاوية مختلفة، فكيف لإنسان أن يعرفه حق معرفته، محال طبعاً.

إذاً، المطلوب أن نستمر بخوض هذه الرحلة، باقتحام العقبات وخوض المغامرات، لكن بشرط أن نتحصن بالإيمان، والإيمان يزيد بالذكر (ذكر اللسان وتلاوة القرآن وإقامة الصلاة)، سنعرف الله أكثر، أما إن أردنا المزيد، فعلينا بالشكر، شكر اللسان والقلب والعمل، فكلما أعطاك شكرته، فمن الله عليك بعطاءٍ أكبر، لكن أهم من ذلك، هو عطاء المعرفة والقرب والحب.

ثم تستمر في هذه الرحلة المباركة، حتى تتلاشا من أمامك الأهداف وتنعدم الغايات، فلا ترى إلا الله، تريد وجهه وتبغي رضاه، وحينها، تكون عبداً ربانياً فعلاً.