لا تقل: بِمَ أستعين على الصلاة، بل: بِمَ أستعين على الحياة

بقي من الوقت عشر دقائق لأذان العصر، ولا أدري هل أتمكن من إكمال المقالة قبل الأذان أم لا، وقد يحدث أن أسمع نداء الله وأنا في نهاية عملٍ أو مهمة، فأستعجل بغية الانتهاء قبل الصلاة، فلا أنا أنهيت العمل ولا أنا بكرت إلى صلاتي، فأتحصل على نصف صلاة الجماعة أو حتى ربعها، وحينها يكون حالي كما قال الشاعر:

نُرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ** فلا ديننا يبقى ولا ما نُرقّعُ

أقولها لك بعد تجارب عديدة، لا تُمزق صلاتك بترقيع أعمال الدنيا، اجعل الصلاة في المقدمة وقبل كل شيء، اترك عنك كل ما في يديك حين يعلن المؤذن بدء مراسيم اللقاء الذي يتكرر خمس مرات في اليوم، لقاء رب العالمين، لقاء الروح ببارئها، والقلب بخالقه.

إن حياتنا الدنيا لم تعد حياة جدي وجدك، حياتنا الدنيا صارت مليئة بالمشغلات والملهيات، حياتنا صارت مزدحمة، فلا تجعل صلاتك الضحية، لا تسمح لأي شيءٍ آخر أن يشغلك عنها، لماذا؟ لأنك ستضيع، أنا لا أتحدث عن الضياع في الآخرة، فهي في علم الله، لكني أحدثك عن الدنيا، أحدثك عن أثر الصلاة العجيب الذي يقلب حياتك ويخرجك من ظلمات الواقع إلى نور الحقيقة.

الصلاة نور

كلما زاد الإلهاء كان احتياجنا للصلاة أكبر، كلما جذبتنا الدنيا بقوة زخرفتها أو أثقلت علينا بزحمة همومها كانت الصلاة أكثر أهمية كي تخرجنا من الوهم إلى الحقيقة ومن الظلمات إلى النور.

هل تعبت من تعاقب الليل، هل اشتقت لبزوغ النور في القلب، إذاً عليك بالصلاة، هي القادرة على إخراجك وإيصالك، هي صلة الأرض بالسماء وبوابة القلب لمعارج الروح، هي هدية الله لنا نحن البشر الضعفاء.

نخطئ حين ندع الصلاة لفراغ الوقت أو لصفاء البال، فإن انشغلنا بأمرٍ من أمور الدنيا، جعلنا الصلاة بعد الشغل، فتكون بذلك على هامش حياتنا، فهل هذه صلاةٌ حقاً، وهل هذه هي العبودية فعلاً، بل العبودية أن نسمع ونطيع، وحين ينادي المنادي في أي وقت نلبي كيفما كنا، ومهما نكن، أن نوقف عجلة الحياة ونهرع إلى بيوت الله، فهي المستقر الأول لأرواحنا المتعبة، وهي ملاذنا الأوسع لنفوسنا المرهقة.

أريد الإلتزام بالصلاة، ولكن …

ما أكثر من هم في دائرة التمني، يعلمون أنهم مقصرون، لكن الأمر صعبٌ عليهم، أو ربما هو إبليس من يوهمهم بذلك، يريدون حلاً نموذجياً يساعدهم على الالتزام بالصلاة وإقامتها كما يحبه الله.

في الحقيقة، هم بحاجة إلى تعديل حياتهم بأكملها، بحاجة لأن يتذوقوا طعم الإيمان ويمضو في الحياة بقلب يحلق في سماء السعادة، ونحن نجهل أن الصلاة هي الحل والعلاج لذلك، هي الحبل الممدود من السماء كي ينقذ البائسين في الأرض، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، الإسلام هو حبل النجاة، والصلاة هي عماده، هي سلمٌ يصعد بك نحو الأفق لتكتحل عينيك بالنور، فتدرك أشياء لم تكن واضحة، وتبصر معالم لم تكن جليّة، وإن لم تفعل ذلك بقيت في الأسفل تحارب صغائر الحياة وتوافه الواقع.

الخروج من ظلمات الحياة ليس بالأمر الهين، لذلك شُرِعت لنا الصلاة، هذه الشعيرة العظيمة، ومصدر قوتها ليس ضمن القوانين المادية، وليس الإنسان مطالبٌ بكشف أسرارها أو معرفة طريقة تأثيرها، إنما عليه أن يستجيب، أن يلبي نداء الله (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) ﴿٤٣ البقرة﴾.

لا تقل؛ بم أستعين على الصلاة، بل قل بم أستعين على الحياة، وحينها أجيبك وأقول، بالصلاة (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) ﴿٤٥ البقرة﴾

هل تمتلك قرار تحريك رجليك؟ هل تمتلك قرار قيامك من قعودك؟ نعم إنك من تقرر، وهل هنالك ما هو أبسط من أن تقوم من مجلسك ثم تُتبِعِ الخطوة الخطوة، أن تتحرك نحو المسجد حين تسمع النداء، وإن لم تكن تسمعه فهل أنت عاجزٌ عن تثبيت تطبيقٍ للأذان في هاتفك؟ هل هنالك صعوبة في أن تغسل بعض أجزاء جسمك، ثم تنتصب وتقرأ بعض الآيات، ثم تنحني وتسجد وتردد بعض الكلمات، هل هذا أمرٌ صعبٌ يحتاج لوصفات إبداعية أو طُرُقٌ علاجية؟

هنالك ثلاثة مستويات يتكون منها الإنسان، جسده وعقله وروحه، والروح هي المحرك القوي والسر الخفي، وليس علينا أن ندير هذا المحرك أو نفهم أسرار صنعه (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ولم يطلب منا ربنا المستحيل بل السهل اليسير، طلب منا ما يندرج ضمن نطاق الجسد؛ أن نقوم ونتوضأ ونصلي، وما يندرج ضمن نطاق العقل؛ أن نتوقف عن التفكير ونحن قيامٌ نصلي، وما بعد ذلك من أمور النفس وخفايا الروح، فالصلاة تتكفل به.

ختاماً …

قم للصلاة متى ما سمعت النداء، لا تفكر بل تحرك، لا تؤخّر بل بادر، أوقف كل شيء يمكنك إيقافه، وانسلخ من أي عمل يمكنك تركه، وإن لم تتمكن فتحسر، تحسر إن فاتتك صلاة في مكانها وموعدها، واجعل الحسرة في قلبك دليل إرادتك وحبك، فالله مطلعٌ على القلوب، فأطلعه على قلبٍ محبٍ للصلاة، مشتاقٍ للالتزام بها، اجعل قلبك ينادي ربه بأن يعينه عليها، وأن يهيئ له الأسباب لإقامتها، لأنك حين تقيمها حق إقامتها، لن تعبأ بعدها بالحياة ولا بما فيها، وستبدأ رحلتك السرمدية للخروج من الظلمات إلى النور، للقرب من رب البرية.