عم علوي الحبشي رحمه الله

رحل عن عالمنا الدنيوي الصغير (إلى العالم الحقيقي الكبير) العم علوي الحبشي، وذلك قبل أيام حين وصلنا خبر وفاته بعد إصابته بمرض كورونا في اليمن.

كان العم علوي من أهل الله، رجل أبيض الشعر أبيض القلب بشوش لكل من يلقاه طيب الخصال من أصدقاء المسجد على الداوم، كان قد سكن أرض الإسكندرية منذ سنوات وحلت رحاله -بالتحديد- في نفس الشارع الذي أسكن فيه، وظل في نفس السكن حتى سفره إلى اليمن في منتصف عام 2019، وكان لا يكف عن إرسال الرسائل الصباحية الجميلة التي تمتلئ بالتفاؤل والدعوات القلبية الصادقة، وكنت على تواصل معه عبر الواتسآب حتى آخر رسالة أرسلها لأصدقائه وقال فيها:

😷☝أعتذر لإنقطاع رسائلي لكم لسبب وعكة صحية ( كرونا ) ولكن ولله الحمد عدت الأمور بما كتبه الله لنا ولازلت مستمر للعلاجات وأسأل الله أن أتجاوزها عما قريب …
وجزى الله خيراً كل من وقف معي في هذه المعضلة وأسأل الله لهم العافية والتوفيق وقضاء حوائجهم …

كانت تلك رسالته الأخيرة، وقد أجبته بأن “شفاك الله وعافاك” وغيرها من الكلمات المستهلكة، لم أكن أتخيل أن يغادر عالمنا بعد يوم أو يومين من تلك الرسالة، وإلا لكتبت له وأطلت الكتابة وأخرجت بعض ما في قلبي، مع أن التعبير (بالكلمات) عن مكنون القلب هو من أشد الأمور صعوبة.

كنت قد عرفته قبل سنوات، حين رأيته في المسجد يتحدث إلى أحد الأصدقاء قبل أن يعرفني وأعرفه، وقد نالني من الغرابة ما نالني حين وجدته يضحك ويبتسم ويمازح أشخاصاً لم يعرفهم سوى لأيام، كان شاباً في جسم شائب.

لقد كانت روحه روح طفل، وهذا ما عرفته بعد أشهرٍ من الصداقه، وبعد أن عرفت جوانب من روحه العظيمة، فقد كان سهل المعشر، يبادر إلى المساعدة والخدمة بطيب نفس، وحين تأتيه تزوره في منزله، يخدمك بسرور وسعادة، وقد يطبخ ويغسل ويقوم بالأعمال الصغيرة دون خجلٍ أو تردد.

في عرس ابنه من زوجته الذي انعقد في شقته الصغيرة، كان يستقبلنا بالبشاشة والابتسامة، كان يضحك، يرقص، يشعل الأجواء بهجة وسروراً، لقد كان شعلة تفاؤل وشمعه أمل لكل من رآه، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.

ثم تعرفت عليه أكثر، صليت الفجر مرة في الجامع الكبير ورأيته يخرج ويسلك طريقاً أطول، استغربت، ثم زال العجب حين علمت أنه يستغل تلك الدقائق في ذكر الله، يذكر الله بسبحته الصغيرة بعد أن يعلن الفجر ولادة يومٍ جديد وقبل أن يطلق الصبح نَفَسَه الوليد.

رحمك الله يا عم علوي، كم من أسرارٍ مدفونة بينك وبين الله

لقد رحل العم علوي في صمت، رحل صاحب القلب الطيب، الرجل المغمور عند بني البشر والمشهور عند رب البشر، أليس الله القائل (فَإن ذَكرَني في نَفْسهِ، ذَكَرْتُهُ في نَفسي) فما قيمة ذكر الإنسان لأخيه الإنسان إن كان الله بعزة جلاله وعظيم سلطانه هو من يذكره، رحل الإنسان الذي تشبع بكل معاني الإنسانية، وهل الإنسانية إلا أن تحسن التعامل مع أخيك الإنسان وتحسن وصاله، ونحن نشهد أنه كان من أكثر الناس إحساناً لمن حوله وللأقربين إليه، وأنا لم أشهد من حياته إلا القليل، وقد كان ذلك القليل -كله- طيباً مطيباً، صافياً زلالا.

رحمك الله يا عم علوي، وأعلى شأنك ومقامك، وجمعنا بك على خير.

كان قد نشر فيديو في اليوتيوب قبل ثلاثة أسابيع من وفاته وقال في مطلعه (رحلتي من صنعاء إلى عدن) ثم وثق فيه بعض الصور والذكريات.
للاسف لن نتمكن من مشاهدة مقطعه الجديد حين يقول (رحلتي من الحياة الدنيا إلى الآخرة) والتي يوثق فيها ملخص رحلته في هذه الحياة
هذا هو الفيديو 👇

هذا رابط قناته: https://www.youtube.com/user/alhabshiah

وقد كنت كتبت قبل أكثر من سنة، مقالة عنه دون ذكر اسمه (بعنوان: حين وجدت ولي الله)، وذلك بعد أن رحل عن مصر إلى اليمن بعدة أشهر، هذا نصها:

أكتب هذه الكلمات والقلب يشتاق لشخص عرفته قبل أكثر من سنة، لكنه رحل بعيداً إلى أرض الوطن قبل عدة أشهر.
كيف تعرف ولي الله حين تلقاه؟
في الحقيقة، هذا سؤال صعب، فهم لا يُعرَفون بسهولة، قد لا تنتبه للنور الذي يشع من وجوههم حين تلقاهم، قد يحجبك عنه ضجيج الحياة، أو غشاء الغفلة المحيط بقلبك، لكن بالتأكيد هنالك علامات تكتشفها فيهم حين تقترب منهم.

قبل أكثر من عام، أتى إلى حارتنا وسكن بالقرب من المسجد، كنت أراه من بعيد وأحيانا أسلم عليه سريعاً وأمضي دون كلام، كنت -ولازلت- حريصاً في انتقاء الأصدقاء الجدد، قبل أن يظهر لي معدنهم وعميق صفاتهم، فالعمر محدود، والإكثار من العلاقات يضيع الأوقات.
كان محافظاً على الصلوات … (هذه نقطة)
كان وجهه مبتسماً على الدوام… (وهذه ثانية)
وحين تلقاه لأول مرة، يتحدث معك وكأنه قد قابلك ألف مرة، فهو سهل في الكلام، متواضع على الدوام، يتحدث معك بحميمية ووجه مبتسم، ينتقي الكلام الطيب ويبادر بالضحك والمزح الخفيف، فلا تملك إلا أن تبادله تلك الضحكات، وكما يقال… يدخل القلب من أول لقاء.

دائماً ما كنت ألاحظ انجذاباً روحياً إليه، أرتاح حين ألقاه وأسلم عليه، حتى رسائله التي تصلني عبر الواتساب ليست مثل باقي الرسائل، كان حريصاً على أن يرسل رسائل صباحية في كل جمعة، فيها بعض الكلمات الطيبة، لست متأكداً هل هو من يكتبها أو غيره، لكني أجدها صادقة وأجد فيها روحه، أقرأها دائماً رغم أني لا أقرأ أو أهتم لرسائل الـ(نسخ-لصق) التي أصبحت مستهلكة ومنزوعة الروح.
هو في مقام الوالد، يكبرني بعقدين أو أكثر، رغم كبر سنة إلا أنه مرح يحمل قلب طفل، يتعامل مع الأمور بسهولة ويسر، وهذا أحد أسرار السعادة التي يعيشها ويشعها فيمن حوله.

لكن يبقى العامل الأهم أن له -كما يبدو- حال مع الله، أن حبله متصل بالخالق جل في علاه، لا تسلني كيف تصل حبلك بالله فهذا مما تعرفه عن ظهر قلب، فأنت وأنا والجميع يعرفون ما هي الـ …. صلاة.
هو حريص على الصف الأول في المسجد، له بعد كل فجرٍ حالٌ مع الذكر، هذا ما يظهر للعيان، وبالتأكيد ما يخفيه الليل عنا هو أعظم، فالطريق إلى الله يُبنى بقيام الليل والسياحة مع كتاب الله وآياته المخطوطة فيه، والمرسومة في هذا الكون.

السر الآخر -وهو ليس بسر- هو قلبه الصافي الخالي من الأحقاد، ولسانه العامر بالكلام الطيب، وهذا كذلك نعرفه جميعاً، وليس حديث (يطلعُ عليكم الآن رجل من أهل الجنة) عنا ببعيد، المعرفة أمر والتطبيق والسلوك أمرٌ آخر.

المهم ….
إن اكتشفت في أحد الأيام أحد أولياء الله في أرضه، فعض عليه بأسنانك، سلم عليه كل يوم، تواصل معه على الدوام، قابله حتى يزيد إيمانك، انظر إلى وجه كي يستضيئ وجهك، اخرج معه في نزهة، اطلب منه نصيحة، استعن بصحبته على شيطانك …
أما إن لم تجد …
فاجتهد،،، حتى تكون أحد أولئك.

أخيراً، هذه بعض الصور المتفرقة للعم علوي: