نعيم الصلاة … 1

1 اغسطس 2021

ما أجملك عزيزي المسلم، وأنت تقطع كل الأعمال والأشغال، وتنتزع نفسك من بين لهوك ولغوك، أو تنتشل جسدك من بين أصدقائك وأقرانك، ثم تهرع إلى الصلاة.

ما أجملك وأنت تحث الخطى وتسابق نسمات الهواء وبالك مشغولٌ بالصوت القادم من منارات الحياة وهي تنادي (حيَّ على)
تسأل نفسك، هل قامت الصلاة، هل فاتتني ركعة، هل أنا متأخر؟

تترك انشغالك بالحياة والبشر، وتهرع لتكلم الله كلاماً ليس فيه واسطة (إياك نعبد …).
ثم تطلب منه الطلب الذي تحتاجه مثل أنفاسك، كيف لا وأنت قائمٌ بأمره، متحركٌ بفضله، حيٌّ بقدرته (وإياك نستعين).
ما أجملك حين تفرغ من بين أوقاتك فرصة للمدد العلوي، تترك اتخاذ القرارات -صغيرها والكبير- لتذهب للتزود اليومي، فتردد بصوت قلبك (اهدنا..).
إنها الصلاة، هدية الله لبني البشر، وما أجملها من هدية.

24 سبتمبر

ذهبت بالأمس لمبنى وزارة التربية في مدينة الاسكندرية، من أجل إنهاء اجراءات تسجيل ابني في المرحلة الثانوية، وهي خطوة مطلوبة عند بداية كل مرحلة دراسية، مشوار صغير تأخذ فيه الورق إلى هناك، ثم مشوار آخر بعد أيام لتأخذ الورقة وقد وقعت وختمت.

يقع مبنى الوزارة خارج زحام المدينة، في منطقة تفصل بين عالمين، لكلٍ منهما معالمه الواضحة، عالم الحديد والإسمنت، وعالم الماء والزرع، عالم التلوث (السمعي والبصري والهوائي) وعالم النقاء والصفاء، ولكي تصل إلى ذلك المبنى، فإنك بحاجة لأن تتنقل بين عدة مكروباصات وتقضي وقتاً لا بأس به وأنت تحملك نحو الفضاء، ساعة تتأمل في المدينة التي تغادرها وترى معالم أبنيتها من بعيد، وساعة تتأمل في حياتك وسرعة انقضاء عمرك، ها أنت تعود لنفس المكان بعد ثلاث سنوات كاملة، كيف انقضة؟ أين انقضة؟ آه من هذه الحياة !

أكملت تسليم الأوراق، ومشيت المسافة التي تقطع بين المبنى والشارع السريع، وقبل أن أصل، أعلن المؤذن موعد صلاة الظهر، نظرت من حولي فإذا بي أرى مسجدين، واحدٌ بالقرب من الشارع، والآخر إلى داخل المنطقة الزراعية، وبدون شعور مني، اختار قلبي المسجد البعيد، ثم طاوعته قدماي وذهبنا سوية لنصلي في مسجد القرية البعيد عن المنازل.

لم أكن على وضوء، وحمامات المساجد في زمن كورونا مغلقة، ضحكت في نفسي وقلت: أنت في عالم آخر يا صاح، لن تعدم من حنفية هنا أو هناك، وبالفعل كان الوضع مختلف في هذه المنطقة، فالحمامات مفتوحة، وأقدام المصلين متلاصقة، وحين أقيمت الصلاة كنت كما الغريب أقف بعيد بسجادتي الصغيرة، فقررت أن أندمج مع الجمع وأرص الأقدام بجانب الأقدام، فلا أعتقد أن فيروس كورونا أو غيره قد وصل إلى هذه المناطق الأصلية.
ليس هنالك داع للقلق، فلم نشكل سوى نصف صف في مسجد يتسع لمئات المصلين.

كان الجو بديعاً، والهدوء رائعاً، لقد توقفت عقارب الساعة، وتم تجاهل المكان، فكأنك في بقعة سرمدية مجهولة في هذا الكون، في نقطة ليست بالماضي ولا الحاضر، إنت الآن خارج حدود الزمكان، مسجد فسيح يعطيك طاقة خفية تدرك آثارها ولا تدري ما سرها، تريد أن تجلس هناك، ساعة من الزمن، أو يوماً في الحياة، تغريك المصاحف المرصوفة بأن تفتح أحدها، ثم تسبح في رياض الكون عبر آيات الله ثم تقطف من ثمار الحكمة ما يفتح عين بصيرتك فترى الحقائق ناصعة دون رتوش.

غادر المصلون واحداً تلو الآخر، ولم يبقى إلا عامل المسجد الذي قام لإنهاء أعماله، ثم عدت من غيبتي، وتذكرت أني لازلت هنا، في مكان ما من هذا الكون، في نقطة محددة في الزمن، وأن لي أسرة وأعمالاً ومصالح، يجب أن أرحل أنا كذلك لحال سبيلي، أخذت متاعي وارتديت حذائي، ثم وقفت لحظة أتأمل عند باب المسجد، أرى الروض الأخضر الواسع، وأستقبل بصدري هواء القرية المنعش، ثم حلقت روحي -للمرة الأخيرة- في عالم السعادة السرمدية.

ودعت المسجد شاكراً له حسن الظيافة، وبدلاً من دموع الفراق وألم الوداع، ارتسمت على قلبي ابتسامة الرضى وغمره شعور الامتنان، شكرت الله أن شرع لنا الصلاة وأقام لنا المساجد، أن خصص للقلوب ملاجئ منتشرة في كل شارع وكل حارة، القولب التي تثقلها هموم الحياة وتخيفها توقعات المستقبل، فتذهب إلى تلك الأماكن لتنسى كل شيء وتغسل كل شيء، فلا تتذكر إلا الواحد الأحد، فلا تتذكر إلى موعد لقاء الأحبة ونيل السعادة، فيهون عليها كل شيء، وتخرج من هنالك وقد غمرتها الحكمة، وامتلأت بالطاقة لتواجه الحياة من جديد بعد أن عرفت طريقها، وأخذت من الوقود جرعتها.

اللهم لك الحمد على نعمة المساجد
اللهم لك الحمد على نعمة الصلاة
اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام
اللهم لك الحمد على نعمة الحياة.