شرح وتفسير فِلم I’m thinking of ending things

هذا شرح وتفسير لفلم (I’m thinking of ending things)، إن كنت تنوي مشاهدته فالأفضل أن تشاهده أولاً ثم تقرأ هذه المقالة لأن فيها حرقاً لكل أجزاءه تقريباً.

يبدأ الفيلم بعدة لقطات من داخل البيت الريفي، وهو نفس المنزل الذي قام (جايك) بأخذ حبيبته إليه لزيارة أبويه، فيما بعد، ستشاهد الرجل العجوز وهو يعيش داخل المنزل بمفرده (الذي يعمل في التنظيف داخل المدرسة الثانوية)، والذي سيتضح لك فيما بعد أنه نفسه (جايك)،

لكنه يعيش بمفرده داخل المنزل بعد أن أصبح مسناً، فهل يعني أنه لم يتزوج تلك الفتاة حين كان شاباً؟ الجواب هو أنه لم يقابلها أصلاً، أو لنقل: أنه قابلها في ذلك البار لكنه لم يتجرأ بمفاتحتها، وبذلك تصبح تلك الرحلة في السيارة وكل المشاهد التي جمعته بهذه الفتاة ليست سوى مشاهد تدور في مخيلة (جايك)، أي أن هذا الأمر لم يحدث على أرض الواقع، ولعلك تتذكر الحوار الذي دار على طاولة العشاء، حين طلب الأبوين من الفتاة أن تشرح لهم كيف تم اللقاء بينهما، فشرحت حتى وصلت إلى مرحلة سكتت فيه وسكت الجميع في استغراب، بمعنى أن ما دار على أرض الواقع كان حتى تلك النقطة فقط، وأنه لم يحدثها (لأنه لم يكن لديه الجرأة بسبب شخصيته الخجوله) وبالتالي لم تقع تلك العلاقة على أرض الواقع، لكن ما تم بعد ذلك كان في مخيلة جايك فقط، بدليل أن الفتاة حين توقفت عن الكلام ورمقت جايك، أومأ لها جايك بأن تكمل الحديث، في إشارة رمزية إلى أن الحكاية بعد تلك النقطة هي من تلفيق (جايك).

إذاً اتضح الأمر: الحكاية كلها لم تحدث، لم تصبح تلك الفتاة حبيبة جايك، ولم يقم بعمل رحلة إلى منزل أبويه الريفي، ولم يحدث أي شيء من ذلك على أرض الواقع، كله يدور في مخيلة (جايك)، لكن هل هي مخيلة جايك الشاب أم العجوز، الجواب: العجوز، وأحد الرمزيات التي تدل على ذلك، مشهد القبلة، حين حاول تقبيل حبيبته داخل السيارة فإذا بلقطة سريعة لرجل عجوز وهو يراقب من فتحة صغيرة، ففزع جايك وثار غضبه، والرمزية هنا أن جايك (العجوز) هو الذي كان يراقب، لأنه هو مبتدع القصة ومختلق الأحداث من أساسه، وكل هذا يدور داخل عقله، لذلك فهو يراقب ويعرف كل التفاصيل.

وهنالك تفسير آخر لشخصية الفتاة، تلك الفتاة التي اختلف اسمها أكثر من مرة داخل الفيلم، بمعنى أنها ليست سوى شخصية وهمية من نسج خيال (جايك) وأن جايك يرى فيها نفسه، أي أنها هو وهو هي، ولذلك دلائل كثيرة، مثلاً حين رأت صورته المعلقة على الحائط وهو صغير، حسبت أن الصورة لها وهي صغيرة، وهذا يدل على تماهي الشخصيتين وكونهما شخصاً واحداً:

دليل آخر فيه تفسير شامل لشخصية (جايك) وهو القصيدة التي كتبتها الفتاة وألقتها داخل السيارة أثناء رحلة الذهاب، لقد وصفت حالة (جايك) وحياته البائسة، فبعد أن أكملت سرد القصيدة، قال لها (كأنكِ كتبتها عني).

https://www.youtube.com/watch?v=JjdhgyLxkJo

من التلميحات أيضاً: حين نزلت الفتاة إلى المرآب ورأت لوحات جايك، والتي كانت لوحاتها هي نفسها، وهذا يدل أيضاً على أن الفتاة وجايك والرجل العجوز (عامل النظافة) ماهم إلا شخص واحد.

يتحدث البعض أن مغزى الجملة (والتي هي عنوان الفيلم) أنها عبارة تدور في رأس الرجل العجوز (الذي يتخيل كل تلك الأحداث) وأنه يعني أنه يريد أن ينهي حياته (ينتحر) والمشهد الأخير حين أحس بضيق شديد داخل السيارة، ثم بارتياح، كانت تلك لحظة موته، ثم يقدم لنا المخرج ذلك الخنزير على شكل رسم متحرك وهو يتقدم جايك داخل ممر المدرسة.

قد يكون هنالك تفسير آخر، قد يكون المخرج (والذي هو كاتب السيناريو أيضاً) قد قام بتعديل بسيط في سير القصة ونهايتها، لأن الحوار الأخير الذي دار بين الخنزير وجايك العجوز لا يوحي بأن جايك قد قرر الانتحار، ففي نهاية الحوار قال له الخنزير (لنلبسك ثياباً)، بعدها ظهر جايك وهو يعتلي المنصة ويقدم خطاباً للجمهور، الخطاب الذي يتم فيه تكريم جايك في نهاية المطاف والاعتراف بحياته وإنجازاته.

فهل كان المقصود بجملة (لنلبسك ثياباً) أي تلك الثياب التي تقدم بها إلى المنصة وألقى بها الخطاب (ربما)، أو أن المقصود هي ثياب أخرى (ثياب ما بعد الموت)، وبالتالي تكون تلك الخطبة هي مما أدخله المخرج إلى سياق الفيلم ليعطي احتمالاً آخراً ومساراً مختلفاً، لأن تلك الفتاة كانت من بين الحضور في تلك الخطبة، والمعنى هنا أنه لو كانت الخيارات قد اختلفت وقُدر لجايك أن يحب تلك الفتاة ويتزوجها، ربما كانت هذه هي نهايته، نهاية عظيمة بتتويج كبير بعد أن أمضى حياة مزهرة، وهنا يذكرنا هذا المشهد بفيلم (Mr. Nobody) والذي تدور فكرته حول الخيارات والقرارات التي يتخذها الإنسان في حياته وتشكل بذلك قدره.

وهنالك إشارة واضحة من خلال تلك الخطبة التي ألقاها جايك، إلى أن الحب والاقتران بزوجته تلك كان السبب في نجاحه كله (لو أنه قام بذلك في شبابه)، لقد كان كله من أجلها وبسببها.

يبقى أن نفسر الرقصة الاستعراضية قبل نهاية الفلم، وأقرب تفسير في اعتقادي أنه تعبير عن أن جايك كان قد اقترب كثيراً (وربما عدة مرات) من أن يجد شريكة حياته، لكن شخصيته الأخرى (الخجولة والانعزالية) كانت تتعارك معه دائماً وتهزمه (في نهاية المطاف)

ونرى أن الشخص الذي تهجم عليه قبل أن يتم زواجه من تلك الفتاة وحال بينه وبينها هو شخص يرتدي نفس القميص الذي وجدته الفتاة داخل مغسلة الملابس في قبو المنزل الريفي، وهو كذلك نفس القميص الذي يرتديه جايك العجوز (عامل النظافه) بمعنى أن الشخصية الخجولة الانعزالية هي التي انتصرت في نهاية المطاف (قامت بقتل الشاب المفعهم بالحياة في نهاية مشهد الرقصة) وبالتالي حكم على حياته بأن تكون تلك الحياة البائسة الموشحة بالوحدة.

أحد الرسائل المبطنة في الفلم، أن جايك لم يتمتع بشخصية شجاعه، كان الجبن أحد أسباب تشكل حياته على ذلك النحو، فنرى مثلاً الأم وهي تتحدث إلى الفتاة وتأمرها بأخذ الرداء إلى الغسالة في القبو، وهي بذلك توجه حديثها لجايك نفسه (لأن شخصية الفتاة هي شخصية جايك) تقول لها (واجهي المخاطر) في إشارة إلى أن جايك كان يخاف من ذلك القبو، وهو ما بدى عليه أول مرة حين سألته الفتاة عن ذلك القبو، بدى عليه الرعب والخوف من ذلك المكان، إنه الخوف الذي لزمه منذ الصغر فشكل حياته على ذلك النحو.

من المشاهد التي تفسر جانباً من فلسلفة الفلم (والمخرج والكاتب)، مشهد جاي العجوز وهو يمشي بعد الخنزير بعد أن فارق الحياة، حيث يقول الخنزير:

“لا بأس بالأمر حين تكف عن الرثاء لنفسك لأنك مجرد خنزير، أو أسوأ من ذلك، خنزير مملوء بالديدان، هناك من يجب أن يكون خنزيراً مليئاً بالديدان، صحيح؟ فلعله أنت، إنها مسألة حظ، تتقبل قدرك تستغل معطيات الحياة بأفضل طريقة ممكنة، تمضي قدماً، لا تقلق حيال أي شيء، هنالك طيبة في القلوب في هذا العالم، يجب عليك البحث عنها، كل شيء متشابه حين تمعن النظر، بصفتك عالم فيزياء، أنت تعرف ذلك، أنت، أنا، الأفكار، جميعنا شيء واحد”

كانت تلك بعض التفسيرات، وهنالك أمور أخرى غير مفهومة في الفيلم (بالنسبة لي على الأقل) من أهمها تلك الرسالة الصوتية التي وصلت إلى تلفون الفتاة وهي في قبو المنزل، والتي كانت بصوت جايك نفسه، فقد احتوت على التالي:

“هنالك سؤال واحد يحتاج إلى إجابة، أنا خائف، اشعر بأنني مجنون، لست واعياً. الافتراضات صحيحة، أشعر بخوفي يزداد. حان وقت الإجابة الآن، سؤال واحد فقط، سؤال واحد فقط يحتاج إلى إجابة”

الكلمة، وما أدراك من الكلمة

وصلتني اليوم رسالة تفيض بعبارات الشكر والامتنان، قالت أنها قرأت مقالة قديمة لي عن (الامتنان)، فرحت بتلك الرسالة، ثم تذكرت شخصاً آخر أريد أنا كذلك أن أرسل له برقية شكر، أعبر فيها عن امتناني وإعجابي بما كتب من نثر يذوب القلب بين سطوره وكلماته، لكن للأسف ليس شخصاً فيسبوكياً، ليس هنالك من طريقة لمراسلته عبر الشابكة (الانترنت)، ولا أعرف حتى عنوان سكنه.

لكن حتى لو عرفت، فلن أتمكن من مراسلته، أتدرون لماذا؟ لأنه قد غادر حياتنا الدنيا وانتقل للحياة التي طالما حلم بها وتحدث عنها، ولقد عشت أوقاتاً جميلة مع نثره ومقالاته، كم مرة خرجت تجاه المنتزه الجميل، وجلست تحت شجرة حنونة، ثم بدأت بقراءة ما كتب قبل 100 عام من الآن، فأندهش وكأني أقرأ لشخص معاصر يكتب في جدار الفيسبوك أو في مدونته الشخصية.

لقد شارفت على الانتهاء من قراءة أحد أشهر كتبه، كتابٌ أودع فيه أفكاره الجميلة وزفرات نفسه الرحيمة، كان الكتاب تعريفاً وافياً بشخصه، فما أن تفتح دفتيه حتى تعيد الحياة لصاحبه وتسمح له بأن يحدثك، ويسامرك، ويسر إليك بأسراره الخاصة، وأنت مع كل عبارة تسمعها منه وكل موضوع يحدثك فيه، أنت تزداد به إعجاباً وله حباً، فهو يقول كثيراً مما في نفسك لكن بتعابير بليغة يعجز لسانك أو قلمك عن الإتيان بمثلها.

تجربة رائعة تلك التي خضتها مع ذلك الكتاب، هو كتاب يحتوي على مقالات متفرقة، عبرت عن رؤية المؤلف للعالم، وعن أفكاره تجاه الحياة، بعضها قصير كقصاصات ورقية أو منشورات فيسبوكية، وبعضها طويلة تتراقص الكلمات الجميلة في سطورها ولا تمل أنت من طولها، إنها تشكيلة من أشهى الأفكار والخواطر والقصص الحقيقية والمتخيلة.

إنه كتاب (النظرات) لـ (مصطفى لطفي المنفلوطي).

ما أريد الإشارة إليه هنا، هو تأثير الكلمة، بقاؤها رغم اندثار جسد صاحبها، خلوده الذي يصنعه عبر الكتابة والنشر، حين يختصر كل حياته في صفحات ورقية وعبر كلمات متراصة، ولا يتم ذلك غالباً إلا في الشق الأخير من عمره، بعد أن تقترب التجربة الحياتية من كمالها، يتدارك الإنسان قرب رحيله وفنائه الدنيوي، فيحاول التشبث بأي قشة تبقيه على قيد الحياة، فلا يجد إلا الكتابة، فيبدأ بتحويل حياته المادية إلى مجموعة من الأفكار والخواطر والقصص، فيصيغ عالمه الخاص الذي تحدده كتبه وتحصيه أوراقه، فإذا ما غادر الحياة الدنيا، علم أنه ترك أثراً إليه، وخيطاً يوصل الراغبين في إحيائه، ليعود روحاً تسري بين السطور، فيصاحب من يريد مصاحبته، ويتحدث لكل من يقرأه.

الكلمة، وما أدراك ما الكلمة، هي سبيل الخلود وبوابة المجد.

مجلة العربي، حبٌ قديم يعود من جديد

بالأمس اشتريت مجلة العربي
هل تعلمون كم سعرها في هذا البلد؟
لنقم أولاً بجولة استطلاعية قبل أن أخبركم بالسعر الذي سيفاجئكم.

بالطبع تعرفون أن طبعتها فاخرة، ورق ملون أملس يداعب برقة أصابع يدك، أما صفحاتها فتزيد عن الــ200 صفحة، الحجم مناسب، لا كبير يضنيك حمله، ولا صغير يفقدك متعة القراءة والتصفح، إنها بحق مثالية الشكل والمظهر.

في البدء، هنالك مقال مدير التحرير، هو مقال رأي تتجاذب أطراف الحديث مع أحدهم عبر وسيط الكلمات، لا مشكلة إن لم يعجبك وجهة نظر هذا أو ذاك، فهناك مالذ وطاب من مقالات ثقافية واستطلاعاتٌ مرئية، والكثير مما قيل.

في (أوراق أدبية) حوارٌ مع أحد الكتاب المعروفين، هي فرصة للدخول إلى شوارع عقله قبل أن تشتري كتبه، فقد يعجبك ويكون باب دخولك إلى عالمه.

أما في (قضايا عامة) فكتب فيه أحد الدبلوماسيين القداما بعض الأحداث الغريبة، هي مقالة أشبه بالمذكرات الشخصية التي تثير عندك الفضول وتضيء النور على جوانب لم تكن تعلمها.
حسناً، لقد أشبعت فضولك، فمذا بعد في هذه الصفحات الملونة.

ألوانٌ تظهر لك بعض ألوان الحياة الجميلة، وفي هذا العدد زيارة لدولة آسيوية مدعومة بالكثير من الصور المبهجة، هي رحلة مجانية عبر قارب الكلمات، قام بها من يحسن صياغة العبارات، ثم صنع من تجربتة قصة ماتعة كتبت في قسم (استطلاعات).

هنالك في أحد الصفحات بعض أقوال المفكرين والمشهورين مما يحدث في زماننا الحاضر، هي عبارات مقضبة تسلي بها وقتك وتقتل بها مللك.

تتعرف على شخصية أخرى في باب (وجهاً لوجه) وتقرأ شعراً جميلاً في صفحة من الصفحات، ثم تقرأ بعض المقالات الأدبية وأخرى معرفية، تنوع يبحث عن مصدر شغفك، ويتلمس مكامن اهتماماتك، حتى تجد بغيتك فتلتهم الكلمات بشهية الجائع للمعرفة التائق للحكاية.

في باب (شخصيات) تتعرف على أحدٍ قد مات، يحكي لك أحد معجبيه ما قال وما قيل عنه، وفي السينما يحدثك النقاد والمعجبون، بقصص الأفلام والحكايات، وهنالك استراحة بسيطة، اسمها (طرائف عربية).

أما في (البيت العربي) فهنالك مساحة للمتخصصين والمهتمين، أما الحكاؤون، فلديهم مسابقة دورية لأحسن القصص القصيرة، هي (قصص على الهواء).

إنها فعلاً رحلة معرفية وأدبية رائعة، تسلك دربها كل شهر حين تشتري هذه المجلة، وبكم تشتريها يا ترى؟ بـجنيه وربع الجنيه فقط، هذا هو سعرها في مصر يا سادة يا كرام، وهو ما يعادل سبعة سنتات من الدولار الأمريكي (12 نسخة بدولار واحد)، فتخيل معي هذا الثمن البخس، وهذه الفائدة والمتعة الجمة، إنها حقة لفرصة.

كنت أشتري قديماً هذه المجلة دون أن أقرأها، كنت طفلاً في عالم الفن والأدب، ثم انقطعت أعواماً كثيرة، أما اليوم فأنا ألتهم صفحاتها بنهم عجيب، وأقول في نفسي، كيف كنت لاهياً عن هذه المنحة المعرفية الرائعة، كيف لم أكن أشتري هذه المجلة الشهرية الماتعة؟

شكراً للقائمين على مجلة العربي، شكراً لهم فعلاً، فهم يدعمون الثقافة العربية أعظم دعم، ويؤدون رسالة نهضوية بأروع صورة.

أنصحكم بأن لا تفوت شراء هذه المجلة، وأن تقرأوا، وتعودوا أولادكم على القراءة، فالقراءة حياة، والحياة لا تكون جميلة وثرية إلا بالقراءة.
دمتم في خير
عمر

مراجعة فيلم: الصبي الذي سخَّرَ الرياح

هو فيلم مبني على قصة حقيقية، لكنها ليست كالقصص الأخرى، لم تحدث في شوارع لندن أو في شواطئ كلفورنيا، لم تَدُر أحداثها في المنازل الفارهة ومع أشخاص لا يمكنهم الاستغناء عن الهاتف والانترنت، إنها قصة حدثت في إحدى القرى الإفريقية، بين أناس يعتبرون الماء هو الشيء الأساسي الذي به تقوم الحياة، وينظرون إلى الكهرباء كنوع من أنواع الترف الذي يحلمون به، ويتمنونه.

هو فيلم يشعرك بحجم النعم المحيطة بك، بحجم المعناة التي تحيط بأناس غيرك يعيشون في بقعة أخرى من هذا الكوكب، كما أنه فيلم يرسل رسائل إيجابية عديدة، يعطيك طاقة للعمل واستغلال ما بين يديك من فرص لصنع شيء، أو حل مشكلة، أو تحقيق حلم.

لنقل أنه دورة عملية لتعلم (المثابرة) أو كيف تتحقق (الأحلام).

فلم نظيف ليس به ما يخدش الحياء (تقريباً)، وهذا أمر طبيعي لمن لديه رسالة يود أن يشاركها مع العالم، فيرغب أن تصل صافية لمن تصل إليه، وهو يهدف بذلك أن تصل للصغار قبل الكبار، كي يتعلموا بعض الصفات التي تساعدهم لمواجهة الحياة بما فيها من أعباء.

المخرج هنا هو أحد أبطال الفيلم، وهو كذلك كاتب السيناريو، إسمه (تشوتل إيجوفور)، أما الفيلم فيسمى (The Boy Who Harnessed the Wind) أو بالعربي (الصبي الذي سخَّرَ الرياح)، يحكي قصة (وليام كامكوامبا) الذي تمكن من توليد الكهرباء عبر الطاقة الشمسية.

هنالك لقاء قديم مع الشاب الصغير بعد عدة سنوات من هذه الاختراع الذي قام به، نُشِر عبر منصة TED، لقد كانت قصة ملهمة حققت له بعض الشهرة آنذاك، ولم يكن سبب الشهرة حجم الاختراع وقوة الإنجاز، فهو شيء بسيط تافه مقارنة بما هو موجود اليوم من إنجازات تكنولوجية، لكن الفرق أن هذا الاختراع قد ولد في قرية فقيرة ليس فيها أدنى مقومات الحياة العصرية، وقام به طفل بعمر خمسة عشر عاماً، قام به في بيئة ليس فيها كهرباء أو انترنت، لم يكن هنالك مصادر للمعرفة غير مكتبة صغيرة كان من الصعب دخوله إليها، ولم تخصص له ميزانية ضخمة لتمويل مشروعه، بل أنه لم يجد الوقت الكافي لتحقيق حلمه بسبب أعباء الحياة القاسية.

تميز الفيلم في جميع الجوانب تقريباً، فالقصة ملهمة، والإخراج مميز، والتمثيل قوي وصادق (الكاتب والمخرج تولى تأدية أحد الأدوار الرئيسية في الفلم)، وبذلك يكون قد نجح في الجميع بين الهدفين، أن يقدم رسالة إيجابية مؤثرة، وأن يصنع قطعة فنية راقية.

يمكن أن نكتب صفحات عديدة حول الرسائل الإيجابية التي ينطوي عليها هذا الفلم، منها:

  • هذا الفلم هو مثال واضح وتطبيق صارخ لمقولة (الحاجة هي أم الاختراع).
  • لا يأس مع الحياة، لا يأس وهنالك عقل يفكر، لا يأس وهنالك يدان تعملان فتحولان الأفكار إلى منتجات وآلات، وقبل هذا كله: لا يأس وهنالك ربٌ يدبر.
  • يمكنك أن تصنع الكثير بما لديك من إمكانيات قليلة، ومصادر شحيحة.
  • هذه القدرة على الوصول للمعلومة ليست أمراً يستهان به، هنالك أقوام ليس لديهم انترنت ويصعب عليهم الحصول على كتاب يُقرأ أو محاضرة تُسمع.
  • أهمية تشجيع ودعم الأطفال الصغار وعدم تقييد عقولهم حين تفكر، أو أيديهم حين تبدع.
  • ويبقى الماء هو أساس الحياة، والزراعة هي أساس الحضارة.

أما الرسالة الأخيرة التي خرجت بها شخصياً من هذا الفلم، هو أن الفن يمكن أن يكون وسيلة عظيمة للبناء والنماء، وأن السينما هي أداة مهمة لغرس الأفكار الإيجابية، والقيم الأخلاقية.

أخيراً: هذا الفيلم نصفع به أفلام (مارفل) وغيرها من غثاء السينما التي تُكرَّس لأجلها الأموال الطائلة والجهود الضخمة، وفي النهاية لا تكاد تجد قصة محبوكة، أو أداءً مؤثراً، ليس سوى بهرجة الألوان، وزيف المؤثرات، فالربح بالنسبة لهم هو الهدف الأول والأخير.

مراجعة قصة الانمساخ لـ: فرانس كافكا

لقد حظيت قصص وكتابات كافكا باهتمام كبير في عالم الأدب، وأصبحت بعض قصصه تدرس في الجامعات والمدارس، قررت أن أتعرف على هذا الكاتب الذي عاش قبل بحوالي مئة سنة، عبر قراءة أحد كتبه، إنها قصة (الانمساخ) حسب ترجمة ابراهيم وطفي، أو (المسخ) حسب ترجمة منير البعلبكي، وقبل أن أدلف إلى هذه القصة والتحدث عن عالمها الخاص، دعوني أذكر أولاً ما أثار اهتمامي حول المترجم نفسه، وما ذكره هو في آخر هذا الكتاب.

لقد قام ابراهيم وطفي بترجمة هذه القصة وبقية قصص وآثار فرانس كافكا، وأيضاً الكثير من الدراسات والأبحاث التي تمحورت حول كافكا، وقد أفنى في هذا المشروع الكبير شطراً من حياته، بل إنك حين تبحث عن اسمه في قوقل فيسظهر لك موقعاً إلكترونياً مرتبطاً بـ (كافكا) لقد عاش ابراهيم فترة من الزمن وهو يشرب من معين كافكا، فلا يكاد يفيق من نومه حتى يغذي عقله ببعض رسائل كافكا أو آثاره أو ما قيل عنه، وذلك أثناء شربه لكوب قهوته الصباحي (كما ذكر عن نفسه).

تأملت وقلت: كيف أن حياة شخص ما، بما فيها من أفراح وأتراح، أفكار وأخبار، وبما في نفسه من متاهات وألغاز، والتي عادة ما تظهر عبر كتاباته القصصية منها خاصة، كيف لحياة ذلك الشخص أن تؤثر على حياة شخص آخر في المستقبل، شخص أو أشخاص يبعدون عنه زمانياً بمئات السنين (أو آلافاً) ثم تأملت، هل سأكون أنا (أو أنت) من أولئك الأشخاص، هل سنترك أثراً ما في حيوات الآخرين، سواءً من يعيشون معنا أو من يأتون بعدنا، بشكل مباشر أو غير مباشر. أرجو ذلك.

المهم، لنعد إلى الكتاب

تحكي (الانمساخ) قصة موظف يتحول إلى حشرة عملاقة، هذه هي القصة بكل بساطة، وليس ثمة أحداث كبيرة تحدث بعد هذا التحول، فالقصة تبدأ حين يصحو بطل القصة “قريقور” (بصوت الـ g الانجليزية أو الـ (ق) اليمنية) في الصباح ويكتشف أنه يمتلك جسم حشرة، لا ندري ما هو شكل الحشرة بالتحديد، ولم يسمح المؤلف بأن ترسم الحشرة على واجهة الكتاب حين طبع أثناء حياته، وليس هذا مهماً، فالمهم -والذي يظهر من خلال القصة- هو ردة فعله وتعامله مع هذه الحالة الغريبة، وكذلك ردة فعل أسرته وتعاملهم معه.

تفاجأك القصة بغرابتها وغرابة تصرف بطلها، فهو رغم هذا المصيبة الكبرى التي حلت به، إلا أن تفكيره منصب في اللحاق بالقطار كي لا يتأخر عن عمله، ثم من خلال الصفحات التالية ستكتشف طبيعة عمله وطبيعة علاقته برؤسائه وأسرته، ثم ستمر الدقائق ببطئ حتى يأتي أحد المسؤولين في الشركة ويتم اكتشاف المصيبة الكبيرة، فيهرب هذا المسؤول، ثم تبدأ معاناة الأسرة ومعاناة ابنها المتحول أيضاً، والذي كان يسمعهم ويفهمهم، لكنهم لا يفهمونه، ثم تحدث أشياء عادية وتمر الأحداث ببطئ حتى تصل إلى نهاية القصة.

أعترف أنني شعرت بالملل وخاصة في منتصف القصة، حين طالت الأحداث وتم ذكر تفاصيل ليست ذات أهمية، صحيح أن البداية مشوقة والنهاية كذلك، لكن المنتصف مليء بالتفاصيل الغير مهمة، لكن رغم ذلك كانت تجربة مثيرة، نوعية مختلفة من القصص تعبر عن حياة صاحبها، ذلك الإنسان العجيب، وكل إنسان هو عجيب في ذاته.

يحاول الكاتب أن يوصل لنا رسائل واضجة أو مستترة من خلال عمله هذا، ففي البداية يكون التركيز منصباً على علاقة البطل بالعمل والوظيفة، ثم في نصف القصة الآخر يتم تسليط الضوء على علاقة بطل القصة بعائلته، ويمكن أن تخرج ببعض الرسائل المطوية في صفحاته هذه القصة، منها ما هو متعلق بأسر الوظيفة إن صح لنا تسميتها بذلك.

أتطلع لقراءة بعض أعمال (كافكا) الأخرى، وكذا مذكراته ورسائله التي عكست جانباً كبيراً من حياته، لأتعرف على تضاريس حياة إنسان آخر، وما فيها من مطبات هوائية وآفاق ممتدة.

إقامة جديدة… فرصة جديدة

أبشركم يا أصدقائي، لقد حصلت على إقامة أخرى لسنة جديدة.

لقد غمرني السرور، وامتلأ قلبي بالبهجة، وعدت للمنزل كطير يخرج من قفصه.

حصل هذا قبل أيام، حين ذهبت لمصلحة الجوازات لاستلام الإقامة، كانت هذه هي الزيارة الثالثة لهم، الأولى للتقديم، الثانية للتنفيذ، والأخيرة للاستلام، كلها في شهرٍ واحد، شهر من كل سنة.

نعم أنا مقيم يا سادة، لست من أهل هذه البلاد، ولأني كذلك، فيجب علي أن أقدم الأوراق وأنتظر في الطوابير وأدفع مبلغاً من المال كل سنة، حتى أحصل على إذن يسمح لي بالإقامة هنا.

حتى أنتم ..!

أنتم مقيمون كذلك وإن كنتم في أوطانكم، نحن جميعاً في إقامة في هذه الأرض، وكل سنة تتاح لنا فرصة جديدة للإقامة حيث نقيم، أياً كان محل إقامتنا، الفرق بيني وبينكم (يامن تقيمون في أوطانكم) أن هنالك محطة سنوية (هي موعد تجديد الإقامة) تذكرني دائماً وتقرع رأسي، تذكرني أن سنة كاملة قد انقضت، تذكرني (عبر التاريخ المدون) بأنني قد أُعْطِيت مهلة أخرى، كي أنجز، وأحقق، وأعمل.

إن كنت تسكن في وطنك، فللأسف ليس لك هذا الامتياز، ليست لك هذه المحطة السنوية التي تحثك على الخطى وتدفعك للجد، ليس ثمة تاريخ انتهاء مدون في بطاقة أو في جواز سفر، في حين أن هنالك تاريخ انتهاء حقيقي لكل واحدٍ فينا، لكنه غير مدون، ويفترض بك أن تؤدي عملاً رائعاً وتبلي بلاءً حسناً خلال هذه الفترة، فترة إقامتك في هذه الحياة.

لكن ماذا عن المال الذي أدفعه أنا، ولا تدفعه أنت؟ سأجيبك وأقول: الله هو الملك والمالك، وهو المعطي والمانح، هو من يتكفل بمصاريف الإقامة (مِن وإلى)، سواءً ما أدفعه نقداً لشباك التحصيل، أو ما أدفعه للبقالة والسكن، لقد حصلت على وعد منه سبحانه (كما حصلت أنت)، أليس هو القائل (وفي السماء رزقكم وما توعدون)، أعلم أن هنالك بلداناً تفرض أموالاً طائلة نظير هذه الإقامة (كان الله في عونهم) لكن لا قلق عليهم ما دام الله موجوداً، لا قلق مادام باب الدعاء والطلب مفتوح لا يغلق، ومن لم يتمكن، فأرض الله واسعة، والله يعين كل من عزم وتوكل.

في كل سنة، وبعد أن استلم الإقامة، يزايلني شعورٌ فريد من مشاعر (السعادة) فهنالك -كما تعلمون- أنواع كثيرة من (السعادة) لكن للأسف قاموس اللغة لا يتسع لها كلها، وقد ذقت -بحمد الله- أنواعاً جديدة حين استقر بي الحال في هذه البلاد، ومن هذه الأنواع (السعادة التي تأتيك فور استلام الإقامة).

هذه السعادة مرتبطة بالأمل الذي يرتسم أمامك حين تعطى فرصة جديدة للعمل والإنجاز، لا أنكر أنها ناشئة أيضاً من استكمال الاجراءات دون إعاقة، ومن توفر المال دون مشقة، لكن الباعث الأهم هو (الفرصة)، ويمكن أن نشبهها بشعور السعادة الذي ينشأ فور نجاتك من موت محقق، لأنك حينها ستعطى (فرصة) جديدة للحياة، ولو سألت أحد الناجين عن شعوره بعد النجاة، لأخبرك أن قلبه قد تحول إلى عصفور يطير من فرط السعادة.

طبعاً الفرق كبير بين سعادة النجاة من الموت، والحصول على الإقامة، لكنها من نفس النوع والصنف، وهنالك سعادة أخرى أصغر منهما هي من نفس النوع أيضاً، وهذه -لحسن الحظ- يمكن للجميع تذوقها، من يعيشون في بلدانهم ومن هم مغتربون عن أوطانهم، إنها السعادة المنبعثة من معجزة الفجر، ومطلع الصبح.

تطلع الشمس كل يوم بعد أن أكملت الأرض دورتها اليومية، تشرق الشمس على الأرض كما تشرق على قلوب البشر، تعيد لهم الأمل والنشاط والقوة، هنلك صبح جديد يولد في رحم الكون، هنالك فرصة أخرى تتاح للإنسان، هنالك إقامة جديدة ليوم كامل تتاح لك بالمجان، فإما أن تصحو حين يصحو العصافير، وتملأ قلبك من رحيق الحياة، فتنطلق بطاقة الفجر، وتعمل ما يمكن عمله، وتنجز ما يمكن إنجازه، وإما أن تفوتك معجزة الفجر، فتنام والأرض تصحو، وتغفل بينما الأرزاق توزع.

هنالك إقامة لسنة كاملة، وهنالك إقامة لشهر كامل، وهنالك إقامة لأسبوع (تستلمها بعد صلاة الجمعة) وهنالك إقامة جديدة كل يوم، ونصيحتي لك، أن تبكر ثم تصلي ثم تخرج وتمضي باتجاه النور، فتشهد بزوغ الشمس، وتحصل على ختم الإقامة المجانية، وهو ختم بدون حبر، تطبعه الشمس على جبينك في أول ظهورٍ لها.

صديقي الذي أخذ دوري في الطابور

سأحكي لكم قصة عجيبة شغلت تفكيري في الأيام الماضية، فكنت كلما أتذكرها أقول (فعلاً فعلاً) فما قصة هذه الــ (فعلاً)، أعيروني انتباهكم رعاكم الله، لأن العبرة منها مهمة.

سأذكر لكم أولاً موقف بسيط حدث قبل شهر، وستعرفون لاحقاً علاقته بالموضوع.

حين تسجل ابنك في المدرسة لأول سنة، فيجب عليك أن تتقدم إلى الإدارة التعليمية وتجري بعض الختومات وتسلم بعض الأوراق، وبداية كل سنة دراسية يحدث زحام في مكتب الوافدين في هذه الإدارة، لذلك نقوم بتنظيم أنفسنا، من يصل أولاً يسجل اسمه في ورقه وكلما وصل آخر سجل اسمه ثم ندخل بالدور إلى المكتب، وعادة ما يبكر المراجعون صباحاً لأخذ رقم متقدم، وهذا ما فعلته أنا، حيث وصلت هناك الساعة السابعة صباحاً في حين أن العمل في الإدارة يبدأ من الثامنة والنصف، لكن رغم تبكيري، كان هنالك اثنين قبلي، سجلت إسمي وانتظرنا جميعاً، ثم بعد ساعة ونصف، أدخلت الموظفة أول مراجع، ثم توقفت لتنجز بعض الأعمال المكتبية، وتأخرت كثيراً بينما نحن في الخارج ننتظر على أحر من الجمر، فهنالك من هو مرتبط بعمله ومن له مصالح أخرى ومن ومن ومن ….الخ

كان الدور علي، وكنت أقف خلف الباب مباشرة أنتظر إشارة الانطلاق، لكن فجأة ظهر رجل من حيث لا ندري واندفع داخلاً إلى المكتب، نويت أن أدافع عن حقي في الطابور بكلمات لطيفة لكنه لم يدع لي فرصة للتحدث، لم ينظر إلي أو يعير أحداً اهتمامه، حاول قلبي التماس العذر، فقد بدا وهو يلبس الثوب أنه جديد في هذه البلد، ولم يتعود الالتزام بالطوابير والنظام، لكن عقلي لم يطاوعني، وليس هذا بسبب أخذه لحقي في الطابور، فلن يضر من انتظر ساعات أن ينتظر دقائق إضافية، لكن أكثر ما غاضني هو التصرف نفسه، حين لم يحترم الآخرين الواقفين والجالسين.

المهم، هو موقف عابر من مواقف هذه الحياة، لم أكن لأذكره هنا لولا ما حدث قبل يومين.

اتصل بي قبل أمس أحد اليمنيين الذين أعرفهم، وطلب مني أن أحضر كي نساعد أحد اليمنيين الآخرين في إنجاز أمر من الأمور، لن أدخلكم في تفاصيل هذا الأمر كي لا أضيع وقتكم الثمين، لكن الشاهد هو أني حين وصلت وتعرفت على هذا الشخص، بدأنا نتجاذب أطراف الحديث، لم يكن وجهه غريباً علي، لقد رأيته سابقاً لكني لم أتذكر أين.

حكى لي هذا الأخ (صديق صديقي) عن أشياء كثيرة، ومما حكى لي أنه قد تعود أن لا يلتزم بالطوابير، دائماً يأتي مباشرة وينطلق صوب الباب دون أن ينظر إلى أحد، وأنه يتبع استراتيجية (التغاضي والتطنيش)، يصيح الناس ويعترضون فيتظاهر بعدم سماعهم أو عدم فهمهم، لقد تعود أن يُدخِل كلماتهم من أذن ويخرجها من الأذن الاخرى، فمهما يقولون من كلام فلن يضره الكلام بشيء، هو مجرد كلام، المهم أنه ينجز عمله بسرعة وبدون انتظار، ثم حكى لي بعض الشواهد، فقد قضى معاملة في المكان الفلاني بسرعة، وقد أنجز أوراقاً في المصلحة الفلانية في آخر الدوام دون انتظار، وقد وقد …الخ

ثم حكى لي أنه أنجز معاملة أولادة في الإدارة التعليمية دون أن ينتظر أي طابور، لقد أتى متأخراً ودخل مباشرة وفعل كما يفعل كل مرة، وفي هذه اللحظة، وأنا أنظر إلى وجهه، تذكرته يقيناً، وعرفت أنه الشخص الذي أكل حقي في الطابور، حين دخل قبلي وأثار حنقي وغيضي، فابتسمت وأخبرته بهدوء أنني كنت هناك وأنني الشخص الذي كنت واقفاً عند الباب.

لم تنتهي القصة هنا، وليست هذه هي العبرة.

المهم، انقضت أكثر من ساعة ولم يتم إنجاز ذلك الأمر الذي اجتمعنا من أجله، وهو أمر بسيط يتم إنجازه بالعادة في عشر دقائق، لكن كان هنالك (عرقلة) أو إعاقة من شخص آخر، ثم اتفقنا أن نلتقي في اليوم التالي (يوم أمس) لإتمام إنجاز ذلك الأمر (البسيط والسريع) وقد ذهبت في العصر إلى هناك، ثم حاولنا إنجاز الأمر، فظهرت مشكلة أخرى لم تكن في الحسبان، مشكلة بسيطة أعاقت إنجاز الأمر، ثم مر الوقت حتى انتهى الدوام وأغلق المكتب أبوابه دون أن يتم إنجاز الأمر، ورحلت وأنا منزعج، ثم تأملت في نفسي أثناء عودتي وقلت:

سبحان الله، هذا الأمر البسيط الذي لا يستغرق سوى بضع دقائق، كيف أنه قد تعثر في اليوم الأول، ثم اليوم الثاني كذلك، أكيد أن هنالك سر، ثم مباشرة لمعت الفكرة في رأسي، وعرفت ماهي الحكمة والدرس الذي ربما لم يفهمه هذا الأخ الفاضل، الرسالة التي وجهتها الأقدار إليه، لكنه لم يكلف نفسه لفتحها وقراءتها، فهو كما ذكرنا، يستخدم أسلوب التغافل والتطنيش، فغفل عن هذه الرسالة -كما كان يغفل عن أصوات المراجعين والمنتظرين الذين أخذ حقهم في الطابور-، وكأن الأقدار توجه له ولي وللجميع رسالة مفادها:

“يا أيها الإنسان المسكين، يا من يتحايل في الطوابير ليكسب من وقته ساعة أو ساعتين، هاأنت ذا تتأخر يوم ويومين، ولو جلست مع نفسك وتذكرت سجل حياتك، ثم تأملت كم مرة تعرقلت وتعثرت، كم مرة سعيت في طريق ثم فشلت، كم مرة ظهرت لك المشاكل من تحت التراب وأنت لا تدري ما هي الأسباب، إن الأسباب واضحة لكنك لا تراها، إنه القضاء العادل، تتحايل على عباد الله في أمور بسيطة، فتتحايل عليك الأقدار وتؤدي بك إلى عراقيل كبيرة.”

أريد أن أوجه رسالة لطيفة إلى هذا الأخ الكريم، الذي جمعتني الأقدار به صدفه، وقد لا نجتمع مرة أخرى، فقد رأيت أنه من واجبي أن أقدم النصح، وأن أستخرج الفائدة والعبرة من هذا الموقف لنتعض جميعاً ونستفيد.

أخي الكريم، حين عاتبتك على هذا الأمر قبل يومين، بررت لي موقفك بـ(أن الوضع ما يمشي إلا هكذا) وأن (هكذا هي الحياة وهذا هو الواقع).

لا يا أخي هذا ليس مبرر، نحن في اختبار في هذه الدنيا، لقد خلق الله الحياة والموت أساساً (لينظر أينا أحسن عملا) وتأمل أول سورة الملك وستجد الكلام واضحاً، لا تقل لي: هنالك من يتعامل بالوساطة وهنالك من يقدم الرشوة وهناك وهناك، أنت مكلف بنفسك يا أخي، الله يريد منك أنت أن (تحسن عملا) في كل شيء صغير أو كبير، سواءً كان في طابور في مصلحة حكومية أو في قضية أخرى كبيرة.

أريد أن ألفت انتباهك إلى نقطة: أن هذا الأمر (الحقير في نظرك) هو عظيم وخطير، لأنه متعلق بالعدل، والعدل أمر مهم جداً جداً، يكفي أن تقرأ في سورة الحديد قول الله (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الله يقول أنه أرسل الرسل من أجل أن يقوم الناس بالقسط، وكأن العدل والقسط هو الغاية والهدف من إرسال الرسل والكتب السماوية، أن تكون مقسطاً وعادلاً ولو على نفسك وعلى مصلحتك.

تخيل معي: لو أن موظفاً حكومياً أخذ إذناً بالتأخر مدة ساعتين في الصباح كي يذهب لإتمام أوراق ابنه في الإدارة، وقد وصل مبكراً جداً وانتظر مع البقية حتى يصل دوره، ثم أصبح الوقت المتبقى هو ما يكفي بالكاد ليتم معاملته ويعود إلى عمله قبل انقضاء وقت الإذن، فأتيت أنت ودخلت مباشرة وتجاهلت الكلام والصياح، فتمكنت عبر مهاراتك الذكية أو عبر كلامك المعسول، أو حتى عبر فلوسك التي تدسها خلسة في يد الموظف، تمكنت من الدخول قبل الجميع، فسببت في تأخر الآخرين ربع ساعة كاملة، ثم أتى دور هذا الموظف وانتهى وعاد إلى عمله لكنه كان قد تأخر ربع ساعة (هي التي سرقتها أنت من وقته)، ثم وصل وكان المدير غاضباً، فعاقبه بخصم قسط من راتبه.

أرأيت، كيف يمكن لهذا الفعل الصغير أن يُحدِث هذا الأثر الكبير، فهل تكون بهذا قد أكلت بعض ماله وتسببت في ظلمه، قف مع نفسك وتأمل، واقرأ ما يسمونه بــ (تأثير الفراشة) كي تعلم أن هذا ممكنٌ وقوعه.

المهم، كانت هذه كلماتي التي اعتلجت في صدري، أطلقتها لمن أراد أن يعتبر من هذا الموقف البسيط، فقد جعلني الله شاهداً على بعض أقداره وحكمته، وإني لأتعجب وأستمر في التعجب، وأقول في نفسي (فعلاً فعلاً) حين أتأمل هذا الموقف: تجازوني شخص في الطابور وأخذ حقوق الرجال والنساء الواقفين، ثم إذا بي أقابله بعد شهر وأشهد كيف تعرقلت في وجهه معاملة بسيطة، معاملة ينجزها الناس في ربع ساعة، فأخذت منه ثلاثة أيامٍ كاملة.

تحديث/ ثم التقيت به في اليوم الثالث لإكمال المعاملة، ويا للعجب كيف ظهرت عرقلة جديدة من تحت التراب، حاولنا وذهبنا وعدنا وترجينا الموظفين لكن دون جدوى، ثم في آخر الوقت، بعد أن كدنا نستسلم لليأس، همست في أذنه ونحن ننتظر، وقلت: دعنا نتوب أنا وأنت في سرنا ونستغفر الله بصدق علّ الله يقضي حاجتك وننهي هذا الأمر الذي طال وأرهق أعصابنا، فتبنا إليه واستغفرناه، فانفرجت الكربة، وانحلت المسألة، وتم الأمر على خير ما يرام، فلله الحمد والمنة، كم نتعلم من دروس في هذه الحياة، وكم يربينا عبر المشاكل والمصائب، ونسأله تعالى أن يبصر قلوبنا لعيوب أخلاقنا، وأن يهدي عقولنا لمعرفة رسائله إلينا، إنه عظيم كريم.

مراجعة وتلخيص لكتاب: صور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي

كنت أسمع عن الشيخ علي الطنطاوي ولم أكن قد قرأت لها كتاباً كاملاً، إلى أن قررت أن أقتحم سور مؤلفاته وأدخل عتبة باب عقله، ولقد كان دخولاً مباركاً، لأنه كان من باب كتاب (صور وخواطر) فهو الكتاب الذي تشعر معه بالقرب من هذه الشخصية، فهي مقالات مختارة تقترب بك تارة وتوصلك إلى أعماق نفسه، وتبتعد بك تارة أخرى فتجول بك عبر أحداث أصبحت اليوم تاريخاً مضى.

لقد أحببت الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- بسبب هذا الكتاب، وأحسست أثناء قراءته بالقرب منه، فكأني صديق أسامره أو قريب أسمع منه بعض تفاصيل حياته، وأعتقد أن أي قارئ لهذا الكتاب سوف يشعر بنفس الشعور، لأن الشيخ في هذا الكتاب يشارك القارئ بعض تجاربه في الحياة، بل يغوص أكثر ليشارك معنا بعض حواراته مع نفسه وأفكاره التي تجول في خاطره، وتجد وأنت تقرأ الكتاب نوعاً من الصدق والصراحة، فهو حديث لا يقوله عادة كاتب في كتاب، بل يفضي به شخصٌ إلى صديقه المقرب.

الكتاب مكون من مقالات منفصلة، متوسطة في الحجم، والشيخ علي الطنطاوي هو أديب قبل أن يكون مفكر إسلامي أو داعية أوشيخ، لذلك فأنت تشعر بحلاوة وأنت تقرأ كتاباته، أيضاً هنالك قوة في الصياغة وجزاله في استخدام اللغة، لكن مع سهولة وسلاسلة، يمكن للقارئ العادي أن يقرأ بسرعة دون أن توقفه صعوبة الكلمات (إلا نادراً).

المقالات هي مما تم نشره في المجلات التي كان يكتب فيها الشيخ، وبعضها مما كان موجهاً للإذاعة، وأخرى بدون تحديد، والكثير من هذه المقالات قد حددت السنة التي نشرت فيها، فهنالك مقالات قد نشرت في الثلاثينيات (من القرن الماضي) وهنالك مقالات نشرت في الستينيات، وهذا يدل على أن الكتاب قد احتوى بعضاً من أبرز المقالات التي كتبها الشيخ على مدى ثلاثين عاماً.

يستفتح الكتاب بمقالة (عام جديد) وفيها موعظة مؤثرة عن الحياة التي تنقضي سنونها عاماً بعد عام، وتأتي مقالة (تسعة قروش) التي يحاول فيها الكاتب تحويل المشاعر إلى كلمات، وأنّا له ذلك، فيتحدث عن موقف صغير حدث له مع أطفال في الحارة، ثم كيف غمرته السعادة التي اشتراها بتسعة قروش فقط، أما مقالة (القبر التائه) فهي قطعة أدبية راقية، وليست تحكي عن الموت كما قد يدل اسمها، بل عن الحب وعن حال العشاق، فالقبر التائه إنما هو لأحد قتلى الحب الذي يقف عند صخرة في أحد شواطئ بيروت، ويبدو أن الشيخ علي قد كتب المقالة وهو في لبنان أثناء عمله فيها، وهذه المقالة ليست الوحيدة عن الحب، إنما له مقالة أخرى أتت متأخرة في الكتاب ومتأخرة في حياته أيضاً، هي مقالة (عن الحب) وقد تميزت الثانية عن الأولى بفلسفتها، والأولى عن الثانية بأدبيتها.

في الكتاب عدة مقالات تغوص بنا في عمق نفس الشيخ الطنطاوي، فهي -كما هو عنوان الكتاب- عبارة عن خواطر، لكن طبعاً ليست كأي خواطر، بل خواطر أديب ومفكر، من أمثلة ذلك مقالة (في الليل) وكذلك (بيني وبين نفسي) و (يوم مع الشيطان)، وأيضاً مقالة تعكس بعض صراعات المؤلف الداخلية وخلجات نفسه الدفينة، باسم (بين الطبيعة والله) يتحدث فيها عن أحلامه التي ما تحققت، وعن آماله التي طالت، ويبدو أن كتابتها قد كان في وقت ضبابي صعب بالنسبة للمؤلف، وهي مقالة تجمع بين مصارحة النفس وتفلسف العقل، وتعتبر من المقالات الطويلة نسبياً في الكتاب، والحقيقة أنها مما أعجبني لأنها قربتني من الكاتب أكثر.

ويعود بنا الشيخ عبر مركب ذكرياته إلى زمنه الماضي، فيتذكر أحداثاً ويبدع أدباً، كما في (زورق الأحلام) وكذلك مقالة (رقم مكسور) والتي من خلالها نتعرف على بعض أحداث الماضي، وخاصة نهاية الحكم العثماني لسوريا، وهو في (وقفة على طلل) يبكي على الأطلال ويقف عند الذكريات، ذكريات دراسته وصباه في شوارع دمش العتيقة. وهنالك مقالة لطيفة بعنوان (وحي الصورة) حيث يجد صورة له وهو صغير فيجري حواراً افتراضياً مع نسخته القديمة.

من المقالات الجميلة (كتاب تعزية)، وهي عبارة عن رد على امرأة ماتت ابنتها ثم بعثت للشيخ برسالة تبث فيها بعض أحزانها، فرد عليها بكلام جميل بليغ من أروع ما تسمع في أدب التعزية ومواساة من فقدوا أحبابهم، وقد كتب في هذه المقالة فقرة تكتب بماء الذهب، ينبغي لكل كاتب أو مؤلف أن يتخذها شعاراً له، قال رحمه الله:

“إن كتابك على عامية ألفاظه، وعلى أنه ليس فيه كلمة صحيحة، لا في رسمها ولا في إعرابها، أنه على هذا كله- قطعة فنية، قليل أمثالها.
إنك استطعت أن تستنزلي به الدمع، من عيون طائفة من أعلام الأدب، وكم من الشعراء الذين يرثون، فلا يستقطرون قطرة من دمع قارئ أو سامع، لأنهم ما بكوا لما نظموا.
ذلك ليعلم طلاب الأدب، أن الذي يخرج من القلب هو الذي يقع في القلب، وأن من يمتلكه المعنى الذي يكتب فيه، هو الذي يمتلك به الذين يقرأونه، أما الذي ينحت الألفاظ من أعماق القاموس بالمعول، ليكومها على الورق بالمجرفة، فهو (عامل) في إصلاح الطرق وليس صائغاً لجواهر الكلام.
ولست أدعو إلى العامية، ولا إلى نبذ البلاغة، وإهمال القواعد، معاذ الله، ولكن أدعو إلى امتلاء النفس بالفكرة قبل تحريك القلم على القرطاس.”

هنالك مقالات هي رسالات يوجهها إلى شخص أو لشريحة من الناس، مثل رسالته إلى تلميذه وأخيه الذي يحبه في الله، والذي حصل على منحة دراسية للدراسة في باريس، وقد عنونها بـ (إلى أخي النازح في باريز)، كذلك رسالتين لأبناء وبنات المسلمين، واحدة للشباب والثانية للبنات، فأما التي للشباب (يا ابني) فقد كانت رداً لرسالة شاب في السابعة عشر يشتكي فيها من مشكلة الشهوة والغريزة، فيجيب عليه بكلام رائع، وأعطاه فيها حلولاً عملية، وأما الثانية (يا ابنتي) فقد انتشرت في حينه انتشاراً واسعاً، وفيها يوجه كلاماً أدبياً راقياً إلى بنات المسلمين، ينصح بلغة أبوية حميمية رقيقة، وقد قال في مطلعها:

يا ابنتي؛ أنا رجل يمشي إلى الخمسين، قد فارق الشباب وودع أحلامه وأوهامه، ثم إني سحت في البلدان، ولقيت الناس وخبرت الدنيا، فاسمعي مني كلمة صحيحة صريحة من سني وتجاربي، لم تسمعيها من غيري. لقد كتبنا ونادينا ندعو إلى تقويم الأخلاق، ومحو الفساد وقهر الشهوات حتى كلت منا الأقلام، وملت الألسنة، وما صنعنا شيئاً، ولا أزلنا منكراً، بل إن المنكرات لتزداد، والفساد ينتشر، والسفور والحسور والتكشف تقوى شرته، وتتسع دائرته، ويمتد من بلد إلى بلد، حتى لم يبق بلد إسلامي (فيما أحسب) في نجوة منه، حتى الشام التي كانت فيها الملاءة السابغة، وفيها الغلو في حفظ الأعراض، وستر العورات، قد خرج نساؤها سافرات حاسرات، كاشفات السواعد والنحور.

والصراحة أن غصة قد علقت في حلقي حين قرأت هذه العبارة: ( لقد كتبنا ونادينا ندعو إلى تقويم الأخلاق، ومحو الفساد وقهر الشهوات حتى كلت منا الأقلام، وملت الألسنة، وما صنعنا شيئاً، ولا أزلنا منكراً) لأني أدركت أن الشيخ وأمثاله قد وُجِدوا في زمن صعب، كانوا يحاربون في معركة الأخلاق والعفة بدون معونة أو سند، متسلحين بأدوات قديمة يواجهون تياراً عارماً في ظروف احتلال وتغيرات دولية كبيرة، وانسياح ثقافي ودوامات فكرية عاتية، وتذكرت مأساة كل مصلح وداعية، تذكرت كل مجدد يريد لأمته الرفعة والعلياء فيعمل بدون كلل فلا يكون نتيجة عمله إلى مزيداً من تدهور، فتكاد تذهب نفسه حسرات، وهذا يقودنا إلى تذكر حياة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، المصلح الأول والداعية الأعظم، قال تعالى: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات).

هنالك أيضاً مقالات ذات طابع أدبي صرف، منها (حلم في نجد) التي تجد فيها الكثير من أبيات الشعر في حب نجد، وقد رتبها بأسلوب أدبي ذو طابع قصصي، وما دمنا نتحدث عن القصص، فلا يمكن أن نتجاهل قصتين يتحدث فيهما الشيخ عن أعرابي قح كان قد تعرف عليه أثناء سفره، ولم يكن قد دخل المدن ولا تلوث بحداثتها، ثم يحكي ما حصل له عندما دخل الحمام البخاري (التركي)، وهذا كان عنوان مقالة (أعرابي في حمام)، وفي قصة أخرى يحكي ماذا حصل له حين دخل السينما، وهما قصتين طريفتين من وحي خيال الكتاب كما يبدو، ثم أتبع ذلك بمقالة (الأعرابي والشعر) والتي كنت قد صدقتها في البداية، ثم صرح أنها من وحي خياله، وفيها يطوف المؤلف بالشعر والأدب وينقد ويحلل.

هنالك مقالات فكرية، فيها رأي المؤلف حول بعض القضايا والأفكار، منها مقالة (لا أؤمن بالإنسان) التي كتبها رداً على كتاب بعنوان (اومن بالإنسان) للاستاذ عبدالمنعم خلاف، وقد حملني هذا على أن أبحث عن الكتاب الأصلي، فوجدته في الانترنت بنسخة قديمة، ثم وجدت للمؤلف مقالة بنفس العنوان في مجلة الرسالة القديمة. وكذا مقالة جميلة في تبيان موضوع القَدَر بعنوان (حكمة القدمر).

من مقالات الرأي والفكر أيضاً، والتي يظهر فيها الأسلوب النقدي والهجومي للشيخ، مقالة (نداء إلى أدباء مصر)، حيث يتحدث فيها عن جبران خليل جبران وعن الكتاب الذي ألفه (ميخائيل نعيمه) وفيه سيرة جبران الذاتية، وفي المقالة انتقادات قوية موجهة إلى مؤلفات جبران، وقد قاده الموضوع إلى التحدث عن مسألة الفن وعلاقتها بالقيم والأخلاق والفضيلة. وهنالك مقالة مشابهة بعنوان (نحن المذنبون) يعرب فيها المؤلف عن انتقاداته وآرائه بعد أن قرأ ترجمة (اللورد بيرون)، وهو ينتقد السماح بنشر الكتب التي تنشر الفسوق والرذائل، وقد تحدث أيضاً عن أحد كتب توفيق الحكيم وعنه شخصياً في موضع النقد.

أفضل المقالات التي أعجبتني

هنالك مقالات برزت وتمزيت، منها مقالة (شهيد العيد) الذي يحتوي على حبكة قصصية جميلة في نهايتها، ومقالة (اعرف نفسك) التي هي غوص في أعماق النفس بلغة أدبية فلسفية راقية، أما مقالة (مجانين) فقد ذكر فيها المؤلف بعض الأخبار والنوادر العجيبة لأناس مشاهير وشخصيات لها وزنها في المجتمع، وسرد قصص ومواقف محرجة حدثت لهم، ثم يتساءل: ماهو الجنون ومن هو المجنون؟

أما مقالة (أنا والإذاعة) فهي أكثر مقالة لطيفة طريفة، لا يمكن إلا أن تبتسم وأنت تقرأها إن لم ترغمك فقراتها على الضحك، يتحدث عن نفسه وكأنه يدخل الإذاعة لأول مرة، وما يشاهد من غرائب وعجائب، ثم يختمها بطرفة تعبر عن روحه الخفيفة.

وقد أعجبني أيضاً ما كتبه عن الحب، وخاصة المقالة الأخيرة المعنونة بـ (في الحب)، ففيها كلاماً بليغاً وفلفسة عميقة.

أما المقالة التي حازت على المركز الأول من وجهة نظري، والتي تركت أثراً قوياً في أعماق نفسي، فقد كانت (مرثية غراي) وقد ترجمها بكلماته من الأدب الانجليزي، قال عنها (تعد هذه المرثية من أبلغ المراثي في الشعر الانكليزي، قرأها علي صديقي الاستاذ حيدر الركابي فنقلتها إلى العربية كما فهمتها) وقد بحثت عن هذه المرثية فوجدت أصلها ووجدت ترجمة لها في أحد كتب الدكتور عبدالوهاب المسيري، ثم اكتشفت أن الشاعرة نازك الملائكة قد ترجمتها شعراً، بل أن هنالك شعرٌ آخر يترجم هذه المقطوعة، وحسب ما عرفت أن الشيخ الطنطاوي هو أول من نقلها إلى العربية (كما ذكره حفيدة مجاهد)، وأن مجلة الرسالة قد نشرت عن ترجمة الشاعر في أحد أعدادها القديمة سنة 1936م

وهكذا نكون قد اتممنا -بحمد الله- عرض هذا الكتاب عرضاً مجملاً وتخليصاً مقتضباً، وتم تعريف كل مقالة وعن ماذا تحكي، وفي الأعلى عناوين أغلب المقالات، ودليلاً موضوعياً يستفيد منه كل من يريد مقالة بعينها، أو موضوع محدداً، فلله الحمد أولاً وأخيراً، وله الفضل دائماً وأبداً.

عمر الحمدي / 14 أكتوبر 2020

البهجة المفعمة، والرسائل الإيجابية، في فلم ماري بوبنز

هو أحد روائع السينما المبهجة، وأحد إنتاجات ديزني المميزة، فيلم غنائي يحمل في طياته الكثير من المعاني الجميلة والرسائل الإيجابية، يستمتع به الصغير والكبير، إنه فيلم (ماري بوبنز) أو (Mary Poppins) الذي أنتج عام 1964، وأعيد إنتاجه بتحوير قليل في القصة عام 2018 تحت عنوان (Mary Poppins Returns).

عرفت هذا الفيلم عبر فيلم آخر يحكي قصة إنتاجه، إنه فيلم “إنقاذ السيد بانكس” أو (Saving Mr. Banks) الذي أدى بطولته (توم هانكس) وقام بتمثيل شخصية (والت ديزني)، ودارت الأحداث حول محاولة إقناع مؤلفة القصة الأصلية بأن يتم تحويل الكتاب إلى فيلم غنائي، وبعد محاولات عديدة ومفاوضات مديدة، وافقت على إنتاج الفيلم، لكن وفق شروط واتفاقات.

الفيلم كان مميزاً، فقد عكس في طياته بعض حياة كاتبة القصة ومعاناتها ومعاناة أبيها في الجانب المالي، ثم أتت قصة “ماري بوبنز” التي ألفتها لتكون انعكاساً لبعض أجزاء حياتها، لكن مع الكثير من الخيال، الخيال الذي يجعل النهاية سعيدة، والأحداثها شيقة.

نعود لفلم “ماري بوبنز

القصة -بدون حرق- تدور حول أسرة يعمل ربها في أحد البنوك المشهورة، ويحمل شخصية صارمة منضبطة، يتعامل في المنزل مع أسرته كما يتعامل في البنك مع موظفيه، لكن تدخل إلى حياتهم مربية لأولادهم تغير الأوضاع وتقلب الأحوال، فهي تحاول إصلاح الأمور وإعادتها إلى نصابها، بينما الأب ينظر إليها بأنها قد أتت لتفسد عليه أبناءه وتشيع الفوضى في منزله.

الفيلم من النوع الموسيقي، فالكثير من الحوارات هي ملحنة ومسجوعة، وكذلك هو فيلم خيالي، ليس خيالا علمياً لكن خيال من نوع (فانتازيا)، خيال يناسب الأطفال ولا يؤذي عقولهم.

الفيلم -رغم احتوائه على الكثير من الأغاني والرقص المحتشم- يحمل بعض الرسائل الإيجابية المهمة، وأهم رسالة يوصلها إلينا، وهي الفكرة الأساسية من الفيلم، هي طريقة تعامل الإنسان مع الحياة ومع المادة على وجه الخصوص، وأن هنالك قيم أرفع وأهم من المال والمكانة والنجاح الوظيفي، ومن تلك القيم “الأسرة”.

لقد عرفنا عبر الفيلم الذي ذكرته لكم بداية هذه المقالة، أن الكتابة كانت تعاني من مشاكل في هذا الموضوع، موضوع المال، وأن أباها قد غرس في عقلها فكرة احتقار المال، لذلك فقد أتت هذه القصة لتغذي هذه الفكرة وتبلور قناعات الكاتبة في إطار درامي.

يبدو أن والت ديزني قد وضع لمسته الخاصة على القصة، فقام بتلقيح الدراما المشبعة والرسالة الثقيلة بالكثير من المرح والبهجة، فظهر لنا هذا الفيلم حاملاً كلا الميزتين: ذو رسالة قيمة، وذو طابع مبهج.

من الرسائل الإيجابية التي يمكن للمشاهد أن يستكشفها في طيات الفيلم

  • القليل من المرح يجعل من تأديه الأعمال وتسيير الحياة أمراً ممتعاً، أشبه باللعبة
  • ليست السعادة في كثرة المال، قد يكون عامل مدخنة بسيط أسعد بكثير من مالك بنك كبير
  • تكمن السعادة في الأشياء البسيطة التي لا تكلف الكثير، في تأمل الغروب من علو، أو في الاستماع لعصافير تزقزق قرب النافذة، أو في ممارسة الهوايات المفضلة.
  • يحتاج الطفل أن يعيش طفولته، لا يجب أن تكون حياته مقيدة وصارمه ومليئة بالأعباء الثقيلة.
  • القليل من الضحك قد يجعلك تحلق عالياً، إن لم يكن بجسدك فبقلبك
  • غداً يكبر أطفالك، وتفوت على نفسك فرصة إسعادهم قبل أن يتمكنوا من إسعاد أنفسهم.

فيلم “عودة ماري بوبنز”

يمكن اعتبار فلم “Mary Poppins Returns” -والذي أنتج في 2018- أنه مكمل للأول، حيث تعود ماري بوبنز من جديد إلى نفس المنزل، لكن هذه المرة بعد أن كبر الأطفال وأصبح الولد منهم أباً لديه أطفال، أتت من جديد لتعتني بالأطفال الجديد، وقصة هذا الفيلم مشابهة لقصة الفيلم الأصلي، مع بعض التحويرات في القصة، والكثير من التغييرات في الأداء والغناء.

رغم حداثة الإنتاج، وإحكام الخدع والمؤثرات، إلا أن الفيلم الأصلي كان أقوى -من وجهة نظري على الأقل- وخاصة في الأداء والتمثيل.

لقد خلقت مؤلفة القصة شخصية “ماري بوبنز” على أنها المرأة التي تأتي لتصلح الوضع وتعيد الأمور إلى نصابها، وقد عكست بذلك شخصية خالتها أو عمتها التي كانت تفعل في حياتهم نفس الشيء، تأتي وقد حلت الفوضى في المنزل وتحاول أن تنظم وتضبط وتصلح، وهكذا، فإن في حياة كلٍ منا “ماري بوبنز” خاصة به، قريب أو صديق، ذكر كان أو أنثى، شخصية تحاول الإصلاح ما استطاعت في أي مكان تحل فيه، وتحاول بث روح الاطمئنان ونشر البسمة في أي قلب سكنت به، وما أجمل أن تكون أنت أو أنا تلك الشخصية، فنكون البلسم الذي يشفي الجراح، والدواء الذي يداوي الأوجاع.

ملاحظات:

  • هنا مقالة جيدة -في البي بي سي- عن فيلم “إنقاذ السيد بانك” وعن ملفة القصة الرئيسية
  • الفيلم هو فيلم عائلي، ليس فيه مقاطع خادشة للحياء، يحتوي على مشاهد راقصة لكنها دون إسفاف.

من شرفتي الصغيرة

مربعة الجدران، مفتوحة على السماء، تسمح لمن يستلقي في أحضانها بمشاهدة السحب الصغيرة وهي تداعب القمر، هي الشرفة (البلكونة) الصغيرة التي تسمح للشمس بالمكوث فيها ساعات عديدة كل يوم، على عكس أختها الكبرى، والتي لا تسمح للشمس إلا بساعة من نهار، تطل في خجل وما تلبث أن تغرب قبل غروبها.

هائنذا أستلقي بعد أن نام الجميع، وبعد أن أطفئت الأنوار في الداخل، لم يبقى إلى نور السماء الذي لا يكاد يضيء شيئا من هذه العتمة، وأشعة ساطعة تخرج من شاشة الحاسوب الذي أطقطق على أزراره محاولاً صياغة هذه الكلمات، مادٌ لأرجلي التي لا تستطيع التمدد في هذا المربع الصغير، متكئ على وسادتي التي أصبحت نزيلة دائمة في هذا المكان الحي، وكأني بها وهي تشكرني صباح مساء أن بوأتها هذه المنزلة السامية واخترت لها مكان إقامة في الهواء الطلق.

صوت طفل يبكي، همهمات أمٍ مع أولادها، رجل يمشي فيحدث ضجيجاً بقدميه، باب يغلق، صوت شاحنة مزعجة تمر في الشارع القريب، أصوات خفيفة متداخلة تندمج مع سكون الليل المهيب لتصنع لوحة فنية تراها جميع الحواس، العين والأذن مع الأنف الذي يستنشق نسيم الهواء البارد في ليلة صيفية هادئة.

إنها لحظات الهدوء والانسجام التام، الغياب في بحار النسيان دون أن يعكر مزاجك تفكير أو تذكير، الغوص في اللاشيء والحديث بدون كلام، إنه صمت العقل الذي يرهقك كل ساعة بألف فكرة وفكرة، لكنه حين يأتي هنا يصمت مذهولاً من قوة الشعور، إنه بسمة القلب وانبساط الروح، إنه النعيم الذي لا يعادله نعيمٌ دنيوي، نعيمٌ سهل المنال، لا يكلف الكثير، فالسماء متاحة بالمجان، والليل يعطي الجميع دون جدال، أما نسمات الهواء فهي تدخل كل دار دون استئذان.

من شرفتي الصغيرة أحدثكم، معذرة، بل أنا صامت لا أتحدث، إنما أحاول ترجمة الكلام، رغم أني مترجمٌ سيء، أحاول نقل حديث الروح وهمسات المشاعر، أحاول يائساً تحويل الشعور إلى كلمات، ولا يتم ذلك إلا بالمرور بقنطرة العقل، وقد أزعجته حقاً، هذا العقل المسكين، فهو لا يريد العمل في هذه الأثناء، فهي فترته الذهبية كي يهدأ ويستريح، يصيح في قائلاً، ألا دع الكتابة واتركني جانباً، دع اللحظة تغمرنا بجلالها، دع السكينة تبهجنا بجمالها، دع الليل يسكب علينا من خشوعه الغامر.

أيها العقل اللبيب، أستميحك عذراً وأطلب منك طمعاً أن تأذن لي بإزعاجك شيئاً يسيراً في بعض حين، أن أخرجك من حالتك السرمدية إلى مهارتك الذكية، كي نكتب بعض السطور الألمعية، في بعض الليالي التي نجلس فيها هاهنا، في هذه الشرفة الصغيرة، كي أدون بعض الأخبار، وأوثق بعض الأفكار، فكما ترى، لم يبقى إلا القليل قبل أن نرحل، وفيك الكثير مما يود أن يظهر، دون بعض ما فيك كلما غمرك حضور الليل الجليل.

وافق العقل بعد هنيهات من تفكير، سيتعاون معي لأكتب بعض اليوميات والخواطر، ويودع في هذه المقالات ما يلح من حكم المواقف ومنوعات المآثر.

كان معكم عمر، من شرفته الصغيرة، دمتم في خير، وإلى اللقاء