قصة حياة هيلين كيلِر التي كتبتها بنفسها، ويا للعجب حين تعرف أنها لا تسمع ولا ترى، لكن ورغم ذلك تمكنت من إيصال صوتها والتواصل معي ومع ملايين البشر عبر هذا الكتاب الذي وصل إلينا بعد أكثر من مئة سنة، لكن كيف لها أن تخترق حاجز الوعي وتنهل من بحار المعرفة دون أهم حاستين من حواس الإنسان؛ السمع والبصر؟.
متابعة قراءة مراجعة كتاب: قصة حياتي العجيبة لـ: هيلين كيلِرقراءات ٢٠٢٠
انتهى عام 2020 بحمد الله، وكانت حصيتلي في القراءة يسيرة، لكنها جيدة كبداية، أقصد بداية التزام حقيقي بالقراءة، لكن ورغم قلة الكتب، إلا أنني استفدت أيما استفادة، وغاص عقلي في بحار زاخرة من الفكر والأدب، ولعل السبب هو نوعية الكتب التي صحبتني خلال العام.
متابعة قراءة قراءات ٢٠٢٠أنا والقراءة وعام 2020
بدأت هذا العام بإعلان حماسي عن هدف استراتيجي، ألا وهو قراءة 50 كتاب خلال 2020 (كتاب كل أسبوع) طبعاً اعتقدت أني وضعت هدفاً طموحاً، فقليلٌ من الناس هو من يقرأ هذا العدد من الكتب في السنة الواحدة، لكني تفاجأت، بعد مصادقة بعض القراء المجدين عبر الفيسبوك، أنه رقمٌ متواضع، فالقراء الحقيقيون يقرأون 100 أو أكثر، لكن رغم تواضع هدفي، ورغم عدم تحقققه، إلا أني سعيد بذلك.
متابعة قراءة أنا والقراءة وعام 2020مراجعة وملخص لكتاب (النظرات) لـ: مصطفى لطفي المنفلوطي
الكتاب متاح بالمجان عبر تطبيق وموقع مؤسسة هنداوي (انقر هنا):
متابعة قراءة مراجعة وملخص لكتاب (النظرات) لـ: مصطفى لطفي المنفلوطيمراجعة ونقد فِلم I’m Thinking of Ending Things
ملاحظة: لا يوجد حرق لأجزاء الفيلم في هذه المراجعة، الحرق، وكل الحرق، موجود في مقالة أخرى يمكنك الذهاب إليها بمجرد نقرك على هذا الرابط.
بعد كل فلم تشاهده، تحصل على مجموعة أفكار/معلومات/قهقهات، وأيضاً مشاعر وأحسايس، ومن المشاعر التي تطغى عليك أثناء مشاهدة هذا الفيلم هو “الشعور بالبرد” 😅 (يذكرني بنفس شعور البرد الذي حصلت عليه من مشاهدة فيلم The Revenant)، وأيضاً الشعور بالغرابة الغموض وبعض الرعب.
الفيلم يدعى (I’m Thinking of Ending Things) وهي العبارة التي ستضل تدور في رأس بطلة الفليم مراراً وتكراراً، وستضل تدور في رأسك أنت كذلك محاولاً أن تجد لها مبرراً أو تفسيراً، بل أنك ستضل تبحث عن تفسير ومغزى للفلم بأكمله، وعندما تصل لنهاية الفلم، حينها قد تلعن الساعة التي قررت فيها مشاهدة هذا الفيلم الغريب، أو قد تقرر -مثلي- الغوص في بعض صفحات الانترنت باحثاً عن تفسيرات وفك للشفرات.
بعد قراءة بعض مراجعات الفيلم في موقع IMDB، وجدت له تفسيرات من أشخاص قد قرأوا الرواية الأصلية التي بني عليها الفيلم، وهي رواية من تأليف شخص يدعى (Iain Reid)، وحين عدت للفيلم من جديد وشاهدت بعض أجزاءه، فهمت كثيراً مما يصعب فهمه (أنقر هنا لقراءة المقالة التي تشرح وتفك طلاسم هذا الفيلم).
برأيي أن المخرج (تشارلي كوفمان) لم يفلح في إيصال الفكرة الأساسية أو إيضاح الحبكة كما ينبغي، أعرف أن هذا ديدنه في أفلامه، أن يلفها بالغموض ويلغمها بالرموز، لكنه قد تمادى أكثر في هذا الفلم، حتى أصبح من العسير جداً فهم الحبكة الرئيسية دون الاستعانة بمرشدين ممن قرأوا الرواية، ومن العسير كذلك الاستمتاع به من المشاهدة الأولى، هو مما يتطلب مشاهدته مرتين على الأقل لفهم حبكته وألغازه.
لكن ورغم ذلك، يعد الفيلم رائعاً في جانب الإخراج والتمثيل، الفيلم رغم أنه لا يعدوا عن ثلاثة مشاهد رئيسية تمتد على مدى ساعتين كاملتين إلا أن الأداء التمثيلي كان مميزاً وصادقاً جداً، بناء الشخصية مقنع، المعالجة الدرامية قوية أيضاً، يمكن أن نعتبر الفلم تحفة فنية غير مفهومة المغزى، مثل لوحات بعض الفنانين التجريديين.
لكن، وبرغم أن الحبكة الرئيسية قد غابت وسط سيل الترميزات، إلا أن هنالك رسائل مفتوحة يحاول الفيلم أن يوصلها للمشاهد، وأعني بكلمة (مفتوحة) أنه لا يقدم إجابات بقدر ما يطرح أسئلة، مثل سؤال الشيخوخة والتقدم في العمر، لماذا نميل لإهمال الكبار في السن وعدم إشراكهم معنا في الحياة، أو سؤال: هل فعلاً سوف يتحسن الوضع، هل من المنطقي أن نظل تشبث بالأمل، أو سؤال: ما فائدة الإنجازات في نهاية المطاف، ألن نموت جميعاً ونصبح نحن والتراب شيئاً واحداً، وغيرها من الأسئلة.
أعود وأقول أن الأداء الحواري والتمثيلي كان قوياً، فالفلم أصلاً مرتكز على هذا الجانب، أكثر من نصفه يدور داخل سيارة أثناء رحلة وسط الثلوج العاصفة، لذلك، فأن تشاهد مثل هذا الفيلم الطويل دون أن يكبس عليك الملل كبسته القاضية، فهذا بحد ذاته إنجاز يشكر صانعوا الفلم.
أيضاً هنالك الكثير من الرموز والألغاز التي يمكن أن تستمتع وأنت تفك طلاسمها، وهذا لن يحدث إلا في المشاهدة الثانية بعد أن تفهم حبكة الفلم الرئيسية، والتي ما أن تفهمها حتى تبدأ بحل لغز الفيلم كلعبة بازل تركب أجزاءها هنا وهناك، فيتضح لك المغزى من وراء مشهد أو السبب من قول جملة أو الفائدة من إيراد لقطة، فيضيف هذا متعة إلى المتعة الأولى، وهذا نقطة تحسب لهذه النوعية من الأفلام بشكل عام، ولأفلام (تشارلز كوفمان) على وجه الخصوص.
شرح وتفسير فِلم I’m thinking of ending things
هذا شرح وتفسير لفلم (I’m thinking of ending things)، إن كنت تنوي مشاهدته فالأفضل أن تشاهده أولاً ثم تقرأ هذه المقالة لأن فيها حرقاً لكل أجزاءه تقريباً.
يبدأ الفيلم بعدة لقطات من داخل البيت الريفي، وهو نفس المنزل الذي قام (جايك) بأخذ حبيبته إليه لزيارة أبويه، فيما بعد، ستشاهد الرجل العجوز وهو يعيش داخل المنزل بمفرده (الذي يعمل في التنظيف داخل المدرسة الثانوية)، والذي سيتضح لك فيما بعد أنه نفسه (جايك)،

لكنه يعيش بمفرده داخل المنزل بعد أن أصبح مسناً، فهل يعني أنه لم يتزوج تلك الفتاة حين كان شاباً؟ الجواب هو أنه لم يقابلها أصلاً، أو لنقل: أنه قابلها في ذلك البار لكنه لم يتجرأ بمفاتحتها، وبذلك تصبح تلك الرحلة في السيارة وكل المشاهد التي جمعته بهذه الفتاة ليست سوى مشاهد تدور في مخيلة (جايك)، أي أن هذا الأمر لم يحدث على أرض الواقع، ولعلك تتذكر الحوار الذي دار على طاولة العشاء، حين طلب الأبوين من الفتاة أن تشرح لهم كيف تم اللقاء بينهما، فشرحت حتى وصلت إلى مرحلة سكتت فيه وسكت الجميع في استغراب، بمعنى أن ما دار على أرض الواقع كان حتى تلك النقطة فقط، وأنه لم يحدثها (لأنه لم يكن لديه الجرأة بسبب شخصيته الخجوله) وبالتالي لم تقع تلك العلاقة على أرض الواقع، لكن ما تم بعد ذلك كان في مخيلة جايك فقط، بدليل أن الفتاة حين توقفت عن الكلام ورمقت جايك، أومأ لها جايك بأن تكمل الحديث، في إشارة رمزية إلى أن الحكاية بعد تلك النقطة هي من تلفيق (جايك).


إذاً اتضح الأمر: الحكاية كلها لم تحدث، لم تصبح تلك الفتاة حبيبة جايك، ولم يقم بعمل رحلة إلى منزل أبويه الريفي، ولم يحدث أي شيء من ذلك على أرض الواقع، كله يدور في مخيلة (جايك)، لكن هل هي مخيلة جايك الشاب أم العجوز، الجواب: العجوز، وأحد الرمزيات التي تدل على ذلك، مشهد القبلة، حين حاول تقبيل حبيبته داخل السيارة فإذا بلقطة سريعة لرجل عجوز وهو يراقب من فتحة صغيرة، ففزع جايك وثار غضبه، والرمزية هنا أن جايك (العجوز) هو الذي كان يراقب، لأنه هو مبتدع القصة ومختلق الأحداث من أساسه، وكل هذا يدور داخل عقله، لذلك فهو يراقب ويعرف كل التفاصيل.


وهنالك تفسير آخر لشخصية الفتاة، تلك الفتاة التي اختلف اسمها أكثر من مرة داخل الفيلم، بمعنى أنها ليست سوى شخصية وهمية من نسج خيال (جايك) وأن جايك يرى فيها نفسه، أي أنها هو وهو هي، ولذلك دلائل كثيرة، مثلاً حين رأت صورته المعلقة على الحائط وهو صغير، حسبت أن الصورة لها وهي صغيرة، وهذا يدل على تماهي الشخصيتين وكونهما شخصاً واحداً:

دليل آخر فيه تفسير شامل لشخصية (جايك) وهو القصيدة التي كتبتها الفتاة وألقتها داخل السيارة أثناء رحلة الذهاب، لقد وصفت حالة (جايك) وحياته البائسة، فبعد أن أكملت سرد القصيدة، قال لها (كأنكِ كتبتها عني).

من التلميحات أيضاً: حين نزلت الفتاة إلى المرآب ورأت لوحات جايك، والتي كانت لوحاتها هي نفسها، وهذا يدل أيضاً على أن الفتاة وجايك والرجل العجوز (عامل النظافة) ماهم إلا شخص واحد.

يتحدث البعض أن مغزى الجملة (والتي هي عنوان الفيلم) أنها عبارة تدور في رأس الرجل العجوز (الذي يتخيل كل تلك الأحداث) وأنه يعني أنه يريد أن ينهي حياته (ينتحر) والمشهد الأخير حين أحس بضيق شديد داخل السيارة، ثم بارتياح، كانت تلك لحظة موته، ثم يقدم لنا المخرج ذلك الخنزير على شكل رسم متحرك وهو يتقدم جايك داخل ممر المدرسة.
قد يكون هنالك تفسير آخر، قد يكون المخرج (والذي هو كاتب السيناريو أيضاً) قد قام بتعديل بسيط في سير القصة ونهايتها، لأن الحوار الأخير الذي دار بين الخنزير وجايك العجوز لا يوحي بأن جايك قد قرر الانتحار، ففي نهاية الحوار قال له الخنزير (لنلبسك ثياباً)، بعدها ظهر جايك وهو يعتلي المنصة ويقدم خطاباً للجمهور، الخطاب الذي يتم فيه تكريم جايك في نهاية المطاف والاعتراف بحياته وإنجازاته.

فهل كان المقصود بجملة (لنلبسك ثياباً) أي تلك الثياب التي تقدم بها إلى المنصة وألقى بها الخطاب (ربما)، أو أن المقصود هي ثياب أخرى (ثياب ما بعد الموت)، وبالتالي تكون تلك الخطبة هي مما أدخله المخرج إلى سياق الفيلم ليعطي احتمالاً آخراً ومساراً مختلفاً، لأن تلك الفتاة كانت من بين الحضور في تلك الخطبة، والمعنى هنا أنه لو كانت الخيارات قد اختلفت وقُدر لجايك أن يحب تلك الفتاة ويتزوجها، ربما كانت هذه هي نهايته، نهاية عظيمة بتتويج كبير بعد أن أمضى حياة مزهرة، وهنا يذكرنا هذا المشهد بفيلم (Mr. Nobody) والذي تدور فكرته حول الخيارات والقرارات التي يتخذها الإنسان في حياته وتشكل بذلك قدره.

وهنالك إشارة واضحة من خلال تلك الخطبة التي ألقاها جايك، إلى أن الحب والاقتران بزوجته تلك كان السبب في نجاحه كله (لو أنه قام بذلك في شبابه)، لقد كان كله من أجلها وبسببها.
يبقى أن نفسر الرقصة الاستعراضية قبل نهاية الفلم، وأقرب تفسير في اعتقادي أنه تعبير عن أن جايك كان قد اقترب كثيراً (وربما عدة مرات) من أن يجد شريكة حياته، لكن شخصيته الأخرى (الخجولة والانعزالية) كانت تتعارك معه دائماً وتهزمه (في نهاية المطاف)

ونرى أن الشخص الذي تهجم عليه قبل أن يتم زواجه من تلك الفتاة وحال بينه وبينها هو شخص يرتدي نفس القميص الذي وجدته الفتاة داخل مغسلة الملابس في قبو المنزل الريفي، وهو كذلك نفس القميص الذي يرتديه جايك العجوز (عامل النظافه) بمعنى أن الشخصية الخجولة الانعزالية هي التي انتصرت في نهاية المطاف (قامت بقتل الشاب المفعهم بالحياة في نهاية مشهد الرقصة) وبالتالي حكم على حياته بأن تكون تلك الحياة البائسة الموشحة بالوحدة.


أحد الرسائل المبطنة في الفلم، أن جايك لم يتمتع بشخصية شجاعه، كان الجبن أحد أسباب تشكل حياته على ذلك النحو، فنرى مثلاً الأم وهي تتحدث إلى الفتاة وتأمرها بأخذ الرداء إلى الغسالة في القبو، وهي بذلك توجه حديثها لجايك نفسه (لأن شخصية الفتاة هي شخصية جايك) تقول لها (واجهي المخاطر) في إشارة إلى أن جايك كان يخاف من ذلك القبو، وهو ما بدى عليه أول مرة حين سألته الفتاة عن ذلك القبو، بدى عليه الرعب والخوف من ذلك المكان، إنه الخوف الذي لزمه منذ الصغر فشكل حياته على ذلك النحو.

من المشاهد التي تفسر جانباً من فلسلفة الفلم (والمخرج والكاتب)، مشهد جاي العجوز وهو يمشي بعد الخنزير بعد أن فارق الحياة، حيث يقول الخنزير:
“لا بأس بالأمر حين تكف عن الرثاء لنفسك لأنك مجرد خنزير، أو أسوأ من ذلك، خنزير مملوء بالديدان، هناك من يجب أن يكون خنزيراً مليئاً بالديدان، صحيح؟ فلعله أنت، إنها مسألة حظ، تتقبل قدرك تستغل معطيات الحياة بأفضل طريقة ممكنة، تمضي قدماً، لا تقلق حيال أي شيء، هنالك طيبة في القلوب في هذا العالم، يجب عليك البحث عنها، كل شيء متشابه حين تمعن النظر، بصفتك عالم فيزياء، أنت تعرف ذلك، أنت، أنا، الأفكار، جميعنا شيء واحد”
كانت تلك بعض التفسيرات، وهنالك أمور أخرى غير مفهومة في الفيلم (بالنسبة لي على الأقل) من أهمها تلك الرسالة الصوتية التي وصلت إلى تلفون الفتاة وهي في قبو المنزل، والتي كانت بصوت جايك نفسه، فقد احتوت على التالي:
“هنالك سؤال واحد يحتاج إلى إجابة، أنا خائف، اشعر بأنني مجنون، لست واعياً. الافتراضات صحيحة، أشعر بخوفي يزداد. حان وقت الإجابة الآن، سؤال واحد فقط، سؤال واحد فقط يحتاج إلى إجابة”
الكلمة، وما أدراك من الكلمة
وصلتني اليوم رسالة تفيض بعبارات الشكر والامتنان، قالت أنها قرأت مقالة قديمة لي عن (الامتنان)، فرحت بتلك الرسالة، ثم تذكرت شخصاً آخر أريد أنا كذلك أن أرسل له برقية شكر، أعبر فيها عن امتناني وإعجابي بما كتب من نثر يذوب القلب بين سطوره وكلماته، لكن للأسف ليس شخصاً فيسبوكياً، ليس هنالك من طريقة لمراسلته عبر الشابكة (الانترنت)، ولا أعرف حتى عنوان سكنه.
لكن حتى لو عرفت، فلن أتمكن من مراسلته، أتدرون لماذا؟ لأنه قد غادر حياتنا الدنيا وانتقل للحياة التي طالما حلم بها وتحدث عنها، ولقد عشت أوقاتاً جميلة مع نثره ومقالاته، كم مرة خرجت تجاه المنتزه الجميل، وجلست تحت شجرة حنونة، ثم بدأت بقراءة ما كتب قبل 100 عام من الآن، فأندهش وكأني أقرأ لشخص معاصر يكتب في جدار الفيسبوك أو في مدونته الشخصية.
لقد شارفت على الانتهاء من قراءة أحد أشهر كتبه، كتابٌ أودع فيه أفكاره الجميلة وزفرات نفسه الرحيمة، كان الكتاب تعريفاً وافياً بشخصه، فما أن تفتح دفتيه حتى تعيد الحياة لصاحبه وتسمح له بأن يحدثك، ويسامرك، ويسر إليك بأسراره الخاصة، وأنت مع كل عبارة تسمعها منه وكل موضوع يحدثك فيه، أنت تزداد به إعجاباً وله حباً، فهو يقول كثيراً مما في نفسك لكن بتعابير بليغة يعجز لسانك أو قلمك عن الإتيان بمثلها.
تجربة رائعة تلك التي خضتها مع ذلك الكتاب، هو كتاب يحتوي على مقالات متفرقة، عبرت عن رؤية المؤلف للعالم، وعن أفكاره تجاه الحياة، بعضها قصير كقصاصات ورقية أو منشورات فيسبوكية، وبعضها طويلة تتراقص الكلمات الجميلة في سطورها ولا تمل أنت من طولها، إنها تشكيلة من أشهى الأفكار والخواطر والقصص الحقيقية والمتخيلة.
إنه كتاب (النظرات) لـ (مصطفى لطفي المنفلوطي).
ما أريد الإشارة إليه هنا، هو تأثير الكلمة، بقاؤها رغم اندثار جسد صاحبها، خلوده الذي يصنعه عبر الكتابة والنشر، حين يختصر كل حياته في صفحات ورقية وعبر كلمات متراصة، ولا يتم ذلك غالباً إلا في الشق الأخير من عمره، بعد أن تقترب التجربة الحياتية من كمالها، يتدارك الإنسان قرب رحيله وفنائه الدنيوي، فيحاول التشبث بأي قشة تبقيه على قيد الحياة، فلا يجد إلا الكتابة، فيبدأ بتحويل حياته المادية إلى مجموعة من الأفكار والخواطر والقصص، فيصيغ عالمه الخاص الذي تحدده كتبه وتحصيه أوراقه، فإذا ما غادر الحياة الدنيا، علم أنه ترك أثراً إليه، وخيطاً يوصل الراغبين في إحيائه، ليعود روحاً تسري بين السطور، فيصاحب من يريد مصاحبته، ويتحدث لكل من يقرأه.
الكلمة، وما أدراك ما الكلمة، هي سبيل الخلود وبوابة المجد.
مجلة العربي، حبٌ قديم يعود من جديد
بالأمس اشتريت مجلة العربي
هل تعلمون كم سعرها في هذا البلد؟
لنقم أولاً بجولة استطلاعية قبل أن أخبركم بالسعر الذي سيفاجئكم.
بالطبع تعرفون أن طبعتها فاخرة، ورق ملون أملس يداعب برقة أصابع يدك، أما صفحاتها فتزيد عن الــ200 صفحة، الحجم مناسب، لا كبير يضنيك حمله، ولا صغير يفقدك متعة القراءة والتصفح، إنها بحق مثالية الشكل والمظهر.
في البدء، هنالك مقال مدير التحرير، هو مقال رأي تتجاذب أطراف الحديث مع أحدهم عبر وسيط الكلمات، لا مشكلة إن لم يعجبك وجهة نظر هذا أو ذاك، فهناك مالذ وطاب من مقالات ثقافية واستطلاعاتٌ مرئية، والكثير مما قيل.
في (أوراق أدبية) حوارٌ مع أحد الكتاب المعروفين، هي فرصة للدخول إلى شوارع عقله قبل أن تشتري كتبه، فقد يعجبك ويكون باب دخولك إلى عالمه.
أما في (قضايا عامة) فكتب فيه أحد الدبلوماسيين القداما بعض الأحداث الغريبة، هي مقالة أشبه بالمذكرات الشخصية التي تثير عندك الفضول وتضيء النور على جوانب لم تكن تعلمها.
حسناً، لقد أشبعت فضولك، فمذا بعد في هذه الصفحات الملونة.
ألوانٌ تظهر لك بعض ألوان الحياة الجميلة، وفي هذا العدد زيارة لدولة آسيوية مدعومة بالكثير من الصور المبهجة، هي رحلة مجانية عبر قارب الكلمات، قام بها من يحسن صياغة العبارات، ثم صنع من تجربتة قصة ماتعة كتبت في قسم (استطلاعات).
هنالك في أحد الصفحات بعض أقوال المفكرين والمشهورين مما يحدث في زماننا الحاضر، هي عبارات مقضبة تسلي بها وقتك وتقتل بها مللك.
تتعرف على شخصية أخرى في باب (وجهاً لوجه) وتقرأ شعراً جميلاً في صفحة من الصفحات، ثم تقرأ بعض المقالات الأدبية وأخرى معرفية، تنوع يبحث عن مصدر شغفك، ويتلمس مكامن اهتماماتك، حتى تجد بغيتك فتلتهم الكلمات بشهية الجائع للمعرفة التائق للحكاية.
في باب (شخصيات) تتعرف على أحدٍ قد مات، يحكي لك أحد معجبيه ما قال وما قيل عنه، وفي السينما يحدثك النقاد والمعجبون، بقصص الأفلام والحكايات، وهنالك استراحة بسيطة، اسمها (طرائف عربية).
أما في (البيت العربي) فهنالك مساحة للمتخصصين والمهتمين، أما الحكاؤون، فلديهم مسابقة دورية لأحسن القصص القصيرة، هي (قصص على الهواء).
إنها فعلاً رحلة معرفية وأدبية رائعة، تسلك دربها كل شهر حين تشتري هذه المجلة، وبكم تشتريها يا ترى؟ بـجنيه وربع الجنيه فقط، هذا هو سعرها في مصر يا سادة يا كرام، وهو ما يعادل سبعة سنتات من الدولار الأمريكي (12 نسخة بدولار واحد)، فتخيل معي هذا الثمن البخس، وهذه الفائدة والمتعة الجمة، إنها حقة لفرصة.
كنت أشتري قديماً هذه المجلة دون أن أقرأها، كنت طفلاً في عالم الفن والأدب، ثم انقطعت أعواماً كثيرة، أما اليوم فأنا ألتهم صفحاتها بنهم عجيب، وأقول في نفسي، كيف كنت لاهياً عن هذه المنحة المعرفية الرائعة، كيف لم أكن أشتري هذه المجلة الشهرية الماتعة؟
شكراً للقائمين على مجلة العربي، شكراً لهم فعلاً، فهم يدعمون الثقافة العربية أعظم دعم، ويؤدون رسالة نهضوية بأروع صورة.
أنصحكم بأن لا تفوت شراء هذه المجلة، وأن تقرأوا، وتعودوا أولادكم على القراءة، فالقراءة حياة، والحياة لا تكون جميلة وثرية إلا بالقراءة.
دمتم في خير
عمر
مراجعة فيلم: الصبي الذي سخَّرَ الرياح
هو فيلم مبني على قصة حقيقية، لكنها ليست كالقصص الأخرى، لم تحدث في شوارع لندن أو في شواطئ كلفورنيا، لم تَدُر أحداثها في المنازل الفارهة ومع أشخاص لا يمكنهم الاستغناء عن الهاتف والانترنت، إنها قصة حدثت في إحدى القرى الإفريقية، بين أناس يعتبرون الماء هو الشيء الأساسي الذي به تقوم الحياة، وينظرون إلى الكهرباء كنوع من أنواع الترف الذي يحلمون به، ويتمنونه.
هو فيلم يشعرك بحجم النعم المحيطة بك، بحجم المعناة التي تحيط بأناس غيرك يعيشون في بقعة أخرى من هذا الكوكب، كما أنه فيلم يرسل رسائل إيجابية عديدة، يعطيك طاقة للعمل واستغلال ما بين يديك من فرص لصنع شيء، أو حل مشكلة، أو تحقيق حلم.
لنقل أنه دورة عملية لتعلم (المثابرة) أو كيف تتحقق (الأحلام).
فلم نظيف ليس به ما يخدش الحياء (تقريباً)، وهذا أمر طبيعي لمن لديه رسالة يود أن يشاركها مع العالم، فيرغب أن تصل صافية لمن تصل إليه، وهو يهدف بذلك أن تصل للصغار قبل الكبار، كي يتعلموا بعض الصفات التي تساعدهم لمواجهة الحياة بما فيها من أعباء.
المخرج هنا هو أحد أبطال الفيلم، وهو كذلك كاتب السيناريو، إسمه (تشوتل إيجوفور)، أما الفيلم فيسمى (The Boy Who Harnessed the Wind) أو بالعربي (الصبي الذي سخَّرَ الرياح)، يحكي قصة (وليام كامكوامبا) الذي تمكن من توليد الكهرباء عبر الطاقة الشمسية.
هنالك لقاء قديم مع الشاب الصغير بعد عدة سنوات من هذه الاختراع الذي قام به، نُشِر عبر منصة TED، لقد كانت قصة ملهمة حققت له بعض الشهرة آنذاك، ولم يكن سبب الشهرة حجم الاختراع وقوة الإنجاز، فهو شيء بسيط تافه مقارنة بما هو موجود اليوم من إنجازات تكنولوجية، لكن الفرق أن هذا الاختراع قد ولد في قرية فقيرة ليس فيها أدنى مقومات الحياة العصرية، وقام به طفل بعمر خمسة عشر عاماً، قام به في بيئة ليس فيها كهرباء أو انترنت، لم يكن هنالك مصادر للمعرفة غير مكتبة صغيرة كان من الصعب دخوله إليها، ولم تخصص له ميزانية ضخمة لتمويل مشروعه، بل أنه لم يجد الوقت الكافي لتحقيق حلمه بسبب أعباء الحياة القاسية.
تميز الفيلم في جميع الجوانب تقريباً، فالقصة ملهمة، والإخراج مميز، والتمثيل قوي وصادق (الكاتب والمخرج تولى تأدية أحد الأدوار الرئيسية في الفلم)، وبذلك يكون قد نجح في الجميع بين الهدفين، أن يقدم رسالة إيجابية مؤثرة، وأن يصنع قطعة فنية راقية.
يمكن أن نكتب صفحات عديدة حول الرسائل الإيجابية التي ينطوي عليها هذا الفلم، منها:
- هذا الفلم هو مثال واضح وتطبيق صارخ لمقولة (الحاجة هي أم الاختراع).
- لا يأس مع الحياة، لا يأس وهنالك عقل يفكر، لا يأس وهنالك يدان تعملان فتحولان الأفكار إلى منتجات وآلات، وقبل هذا كله: لا يأس وهنالك ربٌ يدبر.
- يمكنك أن تصنع الكثير بما لديك من إمكانيات قليلة، ومصادر شحيحة.
- هذه القدرة على الوصول للمعلومة ليست أمراً يستهان به، هنالك أقوام ليس لديهم انترنت ويصعب عليهم الحصول على كتاب يُقرأ أو محاضرة تُسمع.
- أهمية تشجيع ودعم الأطفال الصغار وعدم تقييد عقولهم حين تفكر، أو أيديهم حين تبدع.
- ويبقى الماء هو أساس الحياة، والزراعة هي أساس الحضارة.
أما الرسالة الأخيرة التي خرجت بها شخصياً من هذا الفلم، هو أن الفن يمكن أن يكون وسيلة عظيمة للبناء والنماء، وأن السينما هي أداة مهمة لغرس الأفكار الإيجابية، والقيم الأخلاقية.
أخيراً: هذا الفيلم نصفع به أفلام (مارفل) وغيرها من غثاء السينما التي تُكرَّس لأجلها الأموال الطائلة والجهود الضخمة، وفي النهاية لا تكاد تجد قصة محبوكة، أو أداءً مؤثراً، ليس سوى بهرجة الألوان، وزيف المؤثرات، فالربح بالنسبة لهم هو الهدف الأول والأخير.
مراجعة قصة الانمساخ لـ: فرانس كافكا
لقد حظيت قصص وكتابات كافكا باهتمام كبير في عالم الأدب، وأصبحت بعض قصصه تدرس في الجامعات والمدارس، قررت أن أتعرف على هذا الكاتب الذي عاش قبل بحوالي مئة سنة، عبر قراءة أحد كتبه، إنها قصة (الانمساخ) حسب ترجمة ابراهيم وطفي، أو (المسخ) حسب ترجمة منير البعلبكي، وقبل أن أدلف إلى هذه القصة والتحدث عن عالمها الخاص، دعوني أذكر أولاً ما أثار اهتمامي حول المترجم نفسه، وما ذكره هو في آخر هذا الكتاب.
لقد قام ابراهيم وطفي بترجمة هذه القصة وبقية قصص وآثار فرانس كافكا، وأيضاً الكثير من الدراسات والأبحاث التي تمحورت حول كافكا، وقد أفنى في هذا المشروع الكبير شطراً من حياته، بل إنك حين تبحث عن اسمه في قوقل فيسظهر لك موقعاً إلكترونياً مرتبطاً بـ (كافكا) لقد عاش ابراهيم فترة من الزمن وهو يشرب من معين كافكا، فلا يكاد يفيق من نومه حتى يغذي عقله ببعض رسائل كافكا أو آثاره أو ما قيل عنه، وذلك أثناء شربه لكوب قهوته الصباحي (كما ذكر عن نفسه).
تأملت وقلت: كيف أن حياة شخص ما، بما فيها من أفراح وأتراح، أفكار وأخبار، وبما في نفسه من متاهات وألغاز، والتي عادة ما تظهر عبر كتاباته القصصية منها خاصة، كيف لحياة ذلك الشخص أن تؤثر على حياة شخص آخر في المستقبل، شخص أو أشخاص يبعدون عنه زمانياً بمئات السنين (أو آلافاً) ثم تأملت، هل سأكون أنا (أو أنت) من أولئك الأشخاص، هل سنترك أثراً ما في حيوات الآخرين، سواءً من يعيشون معنا أو من يأتون بعدنا، بشكل مباشر أو غير مباشر. أرجو ذلك.
المهم، لنعد إلى الكتاب
تحكي (الانمساخ) قصة موظف يتحول إلى حشرة عملاقة، هذه هي القصة بكل بساطة، وليس ثمة أحداث كبيرة تحدث بعد هذا التحول، فالقصة تبدأ حين يصحو بطل القصة “قريقور” (بصوت الـ g الانجليزية أو الـ (ق) اليمنية) في الصباح ويكتشف أنه يمتلك جسم حشرة، لا ندري ما هو شكل الحشرة بالتحديد، ولم يسمح المؤلف بأن ترسم الحشرة على واجهة الكتاب حين طبع أثناء حياته، وليس هذا مهماً، فالمهم -والذي يظهر من خلال القصة- هو ردة فعله وتعامله مع هذه الحالة الغريبة، وكذلك ردة فعل أسرته وتعاملهم معه.
تفاجأك القصة بغرابتها وغرابة تصرف بطلها، فهو رغم هذا المصيبة الكبرى التي حلت به، إلا أن تفكيره منصب في اللحاق بالقطار كي لا يتأخر عن عمله، ثم من خلال الصفحات التالية ستكتشف طبيعة عمله وطبيعة علاقته برؤسائه وأسرته، ثم ستمر الدقائق ببطئ حتى يأتي أحد المسؤولين في الشركة ويتم اكتشاف المصيبة الكبيرة، فيهرب هذا المسؤول، ثم تبدأ معاناة الأسرة ومعاناة ابنها المتحول أيضاً، والذي كان يسمعهم ويفهمهم، لكنهم لا يفهمونه، ثم تحدث أشياء عادية وتمر الأحداث ببطئ حتى تصل إلى نهاية القصة.
أعترف أنني شعرت بالملل وخاصة في منتصف القصة، حين طالت الأحداث وتم ذكر تفاصيل ليست ذات أهمية، صحيح أن البداية مشوقة والنهاية كذلك، لكن المنتصف مليء بالتفاصيل الغير مهمة، لكن رغم ذلك كانت تجربة مثيرة، نوعية مختلفة من القصص تعبر عن حياة صاحبها، ذلك الإنسان العجيب، وكل إنسان هو عجيب في ذاته.
يحاول الكاتب أن يوصل لنا رسائل واضجة أو مستترة من خلال عمله هذا، ففي البداية يكون التركيز منصباً على علاقة البطل بالعمل والوظيفة، ثم في نصف القصة الآخر يتم تسليط الضوء على علاقة بطل القصة بعائلته، ويمكن أن تخرج ببعض الرسائل المطوية في صفحاته هذه القصة، منها ما هو متعلق بأسر الوظيفة إن صح لنا تسميتها بذلك.
أتطلع لقراءة بعض أعمال (كافكا) الأخرى، وكذا مذكراته ورسائله التي عكست جانباً كبيراً من حياته، لأتعرف على تضاريس حياة إنسان آخر، وما فيها من مطبات هوائية وآفاق ممتدة.