رحلة في كتاب: هذه رسالات القرآن، فمن يتلقاها، لفريد الأنصاري

يتحدث الشيخ الدكتور فريد الأنصاري في آخر عمره عن القرآن، بعث لنا بكلمات من آخر ما كتب، كتبها وقلبه ممتلئ بحب القرآن، فخلف لنا كلمات مضيئة، محبوكة بقالب أدبي، متقدة بجذوة إيمان، مُخرجة من قلبٍ صادق، يريد لأمته الرفعة والعلياء.

يحضرني الآن مقطعاً شاهدته قبل عدة أسابيع للشيخ أبي إسحاق الحويني، يقول فيه بحرقة وألم (ياليتني أعطيت القرآن عمري)، وهو الشيخ الذي أفنى عمره في الحديث وعلومه، وهو بكلامه هذا لا يندم على مسيرته في خدمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يتمنى أنه اهتم بالقرآن أكثر، بل أعطاه كل عمره.

لقد أحسن الشيخ فهد الكندري حين سمى برنامجه الرمضاني السابق (بالقرآن اهتديت) فالقرآن فعلاً يهدي، القرآن يحمي، القرآن يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة، وهو الوحيد القادر على إنقاذك، إسعادك، إحيائك (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ).

هذا النور هو الذي أضاء قلب (جيفري لانج) حين اهتدى بالقرآن، وليس غير القرآن، حين صادفه أمامه ذاتي يوم، فقعد يجوب في رحابه ويتجول في آفاقه، فقرأه من الغلاف إلى الغلاف بدافع الفضول، فلم يصل إلى نهاية الرحلة حتى كان قلبه قد وصل إلى بداية الهادية، نعم، لقد كان ميتاً فأحياه الله، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، فكتب إلى الناس كتاباً تلو الآخر، يحكي تجربته ويحاول إظهار بعض النور الذي بزغ في صدره.

عودة إلى الكتاب

يتكون الكتاب من خمس رسائل، أربعٌ منها عن القرآن، والخامسة عن الإخلاص، ففي رسالته الأولى يتحدث عن مفهوم (التداول الاجتماعي للقرآن الكريم) ويضع لهذا المفهوم تعريفاً جميلاً يقول فيه (هو الانخراط العملي في تصريف آيات الكتاب في السلوك البشري العام، تلاوة وتزكية وتعلماً، وتعريض تربة النفس لأمطار القرآن، وفتح حدائقها المُشعثة لمقارضه ومقاصه) يتحدث أيضاً في هذه الرسالة عن مشكلة (الانشغال حول القرآن وليس بالقرآن وفي القرآن) وهو باختصار الانشغال بالحقل النظري عن العملي، فالواجب أن يعيش المرئ بالقرآن، فيقول في هذا السياق:

(إن الذي لا يكابد منزلة الإخلاص، ولا يجاهد نفسه على حصنها المنيع، ولا يتخلق بمقام توحيد الله في كل شيء رغباً ورهباً، لا يمكن أن يعتبر حافظاً لسورة الإخلاص، وإن الذي لا يذوق طعم الإيمان عند الدخول في حمى (المعوذتين)، لا يكون قد اكتسب سورتي الفلق والناس، ثم إن الذي لا تلتهب مواجيده بأشواق التهجد لا يكون من أهل سورة المزمل).

أما في (مجالس القرآن)، وهو عنوان الرسالة الثانية، فيخاطب الشيخ فريد معاشر الشباب، من حملوا على عاتقهم تلقي رسالات القرآن، يوصيهم بإنارة شعلة القرآن في قلوبهم، بإحياء آياته في حياتهم، حتى ما إذا تحدثوا إلى الآخرين وصافحوهم، شعروا بحرارة الإيمان في أيديهم، ولا يتم ذلك إلا بالمجاهدة والمكابدة، حتى يشتعل النور في القلب، ثم يقول الشيخ معلناً (أن اللغة عاجزة عن وصف ذلك النور) ويجب أن يذوق القلب بنفسه حتى يعيش النور في واقعه، ويستضيء به كل من حوله.

ثم يورد كلاماً بديعاً عن حمل كتاب الله، فيقول (أيها الأحبة المكابدون، إن حمال هذه الحقائق الإيمانية في الأمة اليوم هم القليل، وإن الحامل لجمرة واحدة من جمر آية واحدة، يكتوي بلهيبها، ويستهدي بنورها، لأنفع لنفسه وللناس -بإذن الله- من مئات الحفاظ للقرآن كاملاً، الذين استظهروه من غير شعور منهم بحرارته، ولا معاناة للهيبه، ولا مشاهدة لجماله وجلاله. فلا يحقرن نفسه صاحبُ الآية والآيتين، إذا كان حقاً ممن قبض على جمرهنّ بيد غير مرتعشة، وارتقى بقراءتهن إلى منازل الثريا، نجماً ينير شبراً من الأرض في ظلمات هذا العصر العصيب).

أما الرسالة الثالثة، فقد كانت الأشد حرارة، والأسطع ابتهاجاً، وقد ضرب لحال القرآن بيننا كمثل النيزك الذي يهبط من السماء، إلا أن الفرق الشاسع أن النيزك ينزل حاراً ثم ما يلبث أن يبرد لهيبه، ومع الأيام يصبحاً حجراً كأحجار الأرض، أما كلام الله، فهو القادم إلينا من خارج واقعنا وعالمنا، هو الشهاب المنير، الذي أنار وينير وسينر حتى آخر الزمان، والمطلوب منا أن لا نتعامل معه كنصوص متعلقة بزمانٍ غابر، بل على أنه وحي، صلة أبدية للأرض بالسماء.

ويقول في هذه الرسالة (إن ذلك النيزك الناري الواقع من السماء إلى الأرض، ما يزال يحتفظ بأسرار العالم الخارجي الذي قدم منه، إنه فِهرِست مكنون، لو تدبرته لوجدته يكتنز خريطة الكون كله، إنه لم يفقد حرارته ولا طاقته قط، وإنما حجب لهيبه رحمة بالناس، وتيسراً لهم، وتشجيعاً للسائرين في الظلمات على حمل قنديله الوهاج، والقبض عليه بأصابع غير مرتعشة، بل على احتضانه وضمه إلى القلب، نوراً متوهجاً بين الجوانح).

في الرسالة الرابعة يتحدث الشيخ فريد عن تدبر القرآن، ويعطي فيه كلاماً مقنعاً، فدافع عن حق التدبر المكفول لكل مسلم، فالتدبر ليس حكراً على العلماء، ويكفي العامي أن يعرف بعض معاني الكلمات الغائبة عنه حتى يتمكن من الغوص في عمق الآية واستخلاص ما يفيده منها وما يثري حياته.

يوضح الشيخ فريد الفرق بين التفسير والتدبر، فالتفسير هو الكشف والبيان، ويكون في الغالب من أجل النشر والإذاعة، فالمفسر يجب أن يكون عالماً كي يبلغ ويساعد غير المتعلم في فهم كتاب الله، أما المتدبر فإن غايته تبليغ نفسه، والتفاعل مع آي القرآن لإصلاح حياته، وكلام الله في المجمل هو كلام يستوعبه قلب الإنسان العادي ذو الحدود الدنيا، ويجد فيه ما يهمه لأن يصلح ويُصلح.

التدبر -من تفعل- هو النظر إلى دبر الشيء، إلى ما تخلفه الآية من آثار في النفس والحياة، هو الخطوة التالية التي تنعقد على عاتق التالي لكتاب الله، أن يقرأ الآية ثم يفكر في الحياة والكون، في التقاطعات بين مجريات حياته وكلام الله الخالد، وقد ذكر الشيخ فريد العديد من الأمثلة لكيف يمكن للإنسان أن يتدبر أبسط الآيات، ليخرج منها بأعظم الفوائد.

إن المفسر أو المطلع على أقوال المفسري، المتعمق لمعاني وسياق الآيات، تحصل له فائدة أكبر عند التدبر، كذلك العالم بأمور الحياة، من طب وجيلوجيا وهندسة وغيرها، سيتمكن من الغوص أعمق في بحار التدبر، لكن حتى الإنسان البسيط ذو العلم المحدود، سيجد من الآيات الكثير مما يغوص فيها بعقله وفكره.

يقول الشيخ فريد (إن المسلم، أي ملسم، إنما عليه أن يصطحب مختصرا صغيرا من كتب التفسير، وذلك فقط حتى يضبط بُوصلة الاتجاه العام لمعنى الآيات، ثم يشرع آنئذ في التدبر للقرآن، ولا حرج، لأن التدبر لكتاب الله لا ينبني عليه حلال ولا حرام، ولا تصدر عنه فتوى ولا قضاء، وإنما هو مسلك روحي يقود القلب إلى التوبة والإنابة، وإلى مجاهدة النفس من أجل الترقي بمراتب العلم بالله)

ثم يورد الشيخ فائدة جميلة حول الفرق بين التدبر والتفكر، فالتدبر هو النظر في آيات الله المسطورة، والتفكر هو النظر في آيات الله المنظورة، في النفس والآفاق، في العالم والإنسان، في قصص البشر وما فيها من عبر، وهاذين الأمرين؛ التدبر والتفكر، يؤولان معا إلى مصطلح قرآني مركزي ثالث، هو (التذكر)، فيقول: (فالتدبر للقرآن يقودك إلى التفكر في الوجود، والتفكر في الوجود يعود بك إلى القرآن، وهما معا في جميع الأحوال يثمران تذكراً للقلب وذكرى).

ويختم الشيخ فريد برسالة أخيرة هي الخامسة في ترتيبها، يتحدث فيها عن الإخلاص، الإخلاص الذي يحتاجه أكثر من غيره؛ من كرس وقته وجهده للدعوة إلى الله والعمل في سبيله، وكم من جهود تُبدد وأوقات تضيع بسبب البعد عن الإخلاص، وكم من مطحنة تطحن الهواء وتفرغ طاقتها النفيسة في غير ذات جدوى، بسبب ضعف الإخلاص، وهو بكلماته تلك، يشدد أكبر تشديد على متابعة القلب ومحاسبته وسؤاله دائماً، لماذا تفعل ما تفعل، ولمن تفعل؟

وهكذا تنتهي كلمات الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله برسالته الأخيرة التي بعثها في منتصف عام 2009، ولم تمضي سوى بضعة أشهر حتى رحل عن عالمنا الدنيوي وانتقل إلى العالم الحقيقي، العالم الذي أتى منه ذلك النيزك الذي حدثنا عنه في كتابه، ونحن، ومع نهاية هذا الكتاب، لا نملك إلا أن نودع روحه التي أودعها لنا في سطور وكلمات، فإلى اللقاء يا شيخنا الفاضل، إلى لقاء قادم في عالم آخر، فإنا نشهد الله أن الأرواح قد تعارفت، وأن القلوب قد تآلفت، ولم يبقى إلا أن نحسن فنفوز، ثم نلقاك هناك، عند الحوض، إن شاء الله، وبرحمته وفضله.

خيال ليو تولستوي في عشر قصص قصيرة، مراجعة كتاب: بدائع الخيال

ملاحظة: قدمت مراجعة سريعة للكتاب في فيديو في قناتي، انقر هنا للذهاب إليه

ما إن عرفت أن تلك القصة مذكورة فيه، حتى بادرت بتحميله والبدئ بقراءته، لحسن الحظ كانت مؤسسة هنداوي قد وفرت نسخة رقمية محترمة من هذا الكتاب، إنه كتاب: بدائع الخيال، والذي يحتوي على عشر قصص قصيرة مختارة مما أبدع به الأديب الروسي: ليو تولستوي.

بداية الحكاية كانت قبل عدة أشهر، حين شاهدت خطبة للدكتور عدنان ابراهيم بعنوان (باخوم وصناعة التعاسة) لأكتشف أن “باخوم” هذا هو بطل قصة ألفها الأديب الكبير “تولستوي”، سمعت القصة في نهاية الخطبة (تتوفر في مقطع منفصل بمونتاج جميل) فما كان مني إلا أن أصبت بالدهشة لجمال وعبقرية هذه القصة، والتي -بطريقة غير مباشرة- قد أدخلتني إلى ساحة هذا الأديب الكبير.

بعد عدة أشهر، وعبر منشور صغير في الفيسبوك تبعه سؤال عارض، علمت أن القصة مذكورة في كتاب (بدائع الخيال) وأن مؤسسة هنداوي توفره ضمن أسطول كتبها المجانية، فحملته، ثم بدأت بقراءته، وقد قرأت قصة باخوم التي كان ترتيبها الثالث، بعنوان (كم يحتاج الإنسان من الأرض) فكانت كما سمعت وأجمل.

الكتاب ليس بالكبير،لا تتجاوز صفحاته المئة، وقد أبدع المترجم (عبدالعزيز أمين خانجي) في نقلها إلى العربية، بكلمات سهلة وعبارات رشيقة، كما أن السرد في أصله سلسل وسهل، وهذا كله يدفعك لأن تقرأ بانسيابية فلا تتوقف إلى في السطر الأخير، حين تصل لتلك الحكمة أو الكلمة التي تبقيك شارد التفكير لدقائق متأملاً فيما قرأت.

توحي لك تلك القصص أن كاتبها شخص نبيل يتسم بالورع والتقوى، هنالك توجه قوي لمبادئ الرحمة والتسامح وغيرها من الأخلاق الفاضلة، ولا عجب في هذه السمة السائدة على جو القصص حين تعرف أن هذا الأديب هو من دعاة اللاعنف بكل قوة، ويكفيك أن تقرأ كتابه (ملكوت الله في داخلكم) لتعرف المنبع الأخلاقي الذي انبثقت منه تلك القصص.

ملامح القصص

سأحاول في السطور التالية أن ألخص الجو العام لكل قصة بعبارة قصيرة (دون أن أحرق القصة):

الأولى: بمَ يعيش الناس؟: القصة تجيب عن هذا السؤال، الإجابة تكمن في كلمة واحدة، لا أريد هنا أن أخبرك بها فأحرق عليك الخاتمة الملهمة، لكن يكفي أن أقول لك أنك ستظل تفكر في الأمر كثيراً بعد القراءة، وتتأمل فيما حولك وتثير هذا السؤال في كل مناسبة: بمَ يعيش الناس؟

الثانية: مشرب سورات: اجتمع ثلة من أناس من مشارب مختلفة وأديان متعددة في (مشرب سوارت) في الهند، فثار سؤال فيما بينهم حول (الإله) فبدأ الجميع في التحدث واحداً تلو الآخر، كلٌ وفق دينه ومذهبه، كلٌ يتحدث عن الإله الذي يعبده.

الثالثة: كم هو نصيب الإنسان من الأرض؟: هي قصة الإنسان في كل الأزمان، حين يتحول من القناعة إلى الطمع، حين يسعى دون أن يشبع، هي قصة الجمع والتكاثر، هي قصة تحكي حكمة جليلة وتصل بك إلى نهاية غير متوقعة، من أعجب القصص وأروعها.

الرابعة: ابن العراب: قصة متشعبة أحداثها كثيرة، رحلة يختلط فيها الواقع مع الخيال، عدة حِكَم تتزاحم في خضم سرد متواصل، تستحق أن تُبسَط في رواية كاملة.

الخامسة: مكيدة شيطانية: حين فشل الشيطان في إغواء القروي البسيط، جنح إلى تدبير مكيدة خبيثة، ظاهرها فيه الخير وباطنها في الضياع والخسران، هي قصة بسيطة تخرج منها بأكثر من حكمة، أحدها أن ما قد يكون خيراً لك في الظاهر، قد يكون شراً لك في الباطن.

السادسة: ثلاثة أسئلة: ثلاثة أسئلة تدور في عقل الملك دون أن يجد لها جواباً شافياً، ثم يقرر أن يزور ناسكاً مشهوراً عله يجد الجواب عنده، فتحدث أحداث وتقع أمور، ومن خلالها يعرف الجواب، فيكون جواباً عملياً من واقع تجارب الحياة، وهنا حكمة تخرج بها من القصة: أن الحياة كفيلة بأن تجيبك عن أسئلتك، فلا تستعجل، فقط أكمل الرحلة واستمر في طرح الأسئلة.

السابعة: إلياس: قصة قصيرة لشخص يدعى “إلياس” يخبرك فيها المؤلف ما هو سر السعادة عبر ما حدث لإلياس.

الثامنة: قمحة في حجم بيض الدجاج: قصة تثير عندك شجون الماضي، وخاصة إن كنت كبيراً في السن، فتتذكر كيف كان العالم وكيف أصبح، وماذا قد تغير وأي شيء قد تبدل.

التاسعة: ثمن باهظ: من القصص العجيبة والطريفة، حكاية دولة صغيرة مواردها قليلة جداً، ثم تحدث جريمة قتل، فتحدث مشكلة، ويحتار الملك ومعاونوه، ثم تؤول الأمور إلى مئالات عجيبة لا تملك معها إلا أن تضحك أو تبتسم. (قمت بإلقاء القصة في فيديو ونشرته في اليوتيوب).

العاشرة: الأسطورة الهندية: العمل والمرض والموت: عبارة عن أسطورة متداولة بين الهنود الحمر، عن الإنسان وكيف تطور المجتمع من البساطة والبدائية إلى التعقيد ثم التباغض والحروب.

روابط:

نظرة شاملة للتصوف ومراحله، وفاحصة للشاعر الصوفي: فريد الدين العطار

مراجعة لكتاب: التصوف وفريد الدين العطار، لعبدالوهات عزام (رابط التحميل)

والحلاج -في رأي العطار- ملوم؛ لأنه لم يلتزم صورة الشريعة؛ هو عند العطار بطل الصوفية، ولكنه سماه لص الطريق؛ لأنه باح بالسر وهو قد خالف الشرع، وبهذا استحق العقاب.

اقتباس من ذات الكتاب

ولازلت أتتبع كتابات أولئك الصوفيين الأوائل، علي أكتشف ذلك السر الدفين، الذي وجدوه ولم يتمكنوا من البوح به، فقد قال الغزالي قبلها ناصحاً تلميذه: اعمل واجتهد حتى تصل، لأن تلك الأمور ذوقية، تلك الأمور لا نقدر على الحديث عنها، يجب عليك أن تجربها بنفسك.

وقالها “جلالها الدين الرومي” قال أن هنالك سر لا يمكن البوح به، سر يعرفه العارفون، وما يكتبوه لنا هو بعض طراطيش الكلام، وفيه بعض التلميح، ومن تلك التلميحات نتلمس بصيص النور علنا نتعرف على بعض ملامح ذلك السر العظيم، بالطبع هو عظيم، لأنه يرتبط بالعظيم، بالملك جل جلاله.

انتقلتُ من الغزالي إلى جلال الدين الرومي ثم تاقت نفسي لقراءة كتاب “منطق الطير” والذي هو عمل أدبي صوفي كتب أصلاً بالفارسية، أما كاتبه فهو “فريد الدين العطار” ثم وجدت كتاب يتحدث عنه وعن كتابه ذاك فقررت أن أقرأه أولاً حتى أدخل على حضرة العطار من باب الوقار، فأعرف أولاً لمن أقرأ، أما هذا الكتاب فهو (التصوف وفريد الدين العطار) للمؤلف: عبدالوهاب عزام المتوفي سنة 1959، وهو مفكر وكاتب وشاعر ترجم الكثير من الأعمال الفارسية إلى اللغة العربية باحترافية عالية، ويكفيه فخراً أنه من نقل إلينا أعمال الشاعر الكبير: محمد إقبال.

أقسام الكتاب

ينقسم إلى أربعة أقسام:

  • التصوف الإسلامي: نشوؤه وتطوره
  • التصوف والأدب
  • فريد الدين العطار
  • تصوف العطار

في الفصل الأول يذكر المؤلف (أصل التصوف) ثم يتحدث عن تطوره في ثنايا الحضارة الإسلامية، وقد ذكر كلاماً جميلاً مرتباً وقسم التصوف إلى مراحل وأطوار، وذكر في ثنايا ذلك بعض الشخصيات التي ظهرت في القرن الهجري الثاني (مثل الحسن البصري والفضيل بن عياض، وسفيان الثوري ومالك بن دينار وغيرهم)، على أنهم من أوائل الصوفية دون أن يكون هذا المصطلح معروفاً في ذاك الزمان، وقد وصفهم الكاتب بأنهم (غلب علي جماعة من هؤلاء الحزن والصمت).

ثم أتى جيل بعدهم، وصفهم الكتاب بأنهم (أعظم زهداً، وأقسى على أنفسهم، وأشد تذليلاً لها)، وقد شاعت تسمية (الصوفية) في أواخر القرن الثاني، ومن أمثلة أولئك (ابراهيم بن أدهم البلخي، وبشر الحافي المتوفي سنة 224هـ) وأيضاً (معروف الكرخي)، وممن ذكرهم في الكتاب (السري السقطي) وهو ما يذكر عنه شدة الورع والانغماس في العبادة والتبتل (انقر هنا لقراءة بعض أقواله وآثاره).

وقد تميز أولئك القوم بالتسليم والتوكل على الله في كل الأمور، وخوف من الله دائم، وسوء ظن بأنفسهم وتحقير لأعمالهم مهام عظمت.

ثم أتى جيل آخر من العباد والزهاد، كان ذلك في القرن الثالث الهجري، وغلب عليهم المعرفة والتأمل والحب الإلهي والفناء، وممن عاشوا في هذا العصر: ذو النون المصري – يحي بن معاذ الرازي – أبو يزيد البسطامي – سهل بن عبدالله التستري – والجنيد البغدادي – أبو عبدالله المحاسبي – الحلاج، ثم أخذ المؤلف بتعريف أربعة من أولئك لتباين طريقتهم.

والجدير بالذكر أن البسطامي من أوائل الصوفيين الذين قالوا كلاماً أنكره عليهم الناس، ولا ندري أصحيح ما ينسب إليه أم غير صحيح، حيث تنسب إليه المقولة: “ما في الجبة إلا الله”، وهي العبارة التي فد تفسر على أنها تعبير عن الفناء أو وحدة الوجود، ويدافع عنه آخرون تارة بأن كثيراً مما نسب إليه ليس حقاً، وتارة بأن الصوفي في بعض الأحيان يغلب على أمره ويدخل في حال يغيب فيها وعيه (حالة السكر) من شدة حبه لله وفناءه فيه.

أما الجنيد البغدادي، فقد كان عالماً عارفاً، كان فقهياً يلبس لباس العلماء، قال عنه المؤلف (كان يمثل أهل الصحو كما يمثل البسطامي أهل السُّكر)

أما الحلاج فهو صوفي عجيب الأطوار، وقد روي عنه كلام انكره علماء بغداد، منه قوله (أنا الحق) فأفتوا بقتله، فصلب، وقد ذكره الدكتور علي جمعة في مقطع حديث وأوضح الإشكال في دقائق قليلة (انقر هنا للمشاهدة)

وهكذا ظهر أولياء الله ومحبيه في كل زمان ومكان، فكان لؤلئك أخبار وأحوال، وانتشرت طرائقهم وتعددت أورادهم.

وقد ظهرت فئة منهم حقروا المظاهر كلها، وانتهى بهم إلى التقليل من شأن التكاليف الدينية الظاهرية، وانفتح بهذا باب لضعاف النفوس فخرجوا من التكاليف وأوهموا أنفسهم أنهم بلغوا المقصود من هذه التكاليف، ووجد بعض من لا يبالون بالتصوف ولا بالدين رخصة إلى ما يريديون.

وهؤلاء ليسوا صوفيين وإنما مدعين، وقد أنكر عليهم هذا الجنيد والقشيري وغيرهم من الصوفيين الحقيقيين، فقال الجنيد (هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا، فإن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال عن الله تعالى وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها).

التصوف والأدب

ثم تحدث المؤلف عن (التصوف والأدب) في فصل خاص، ذكر فيه بعض أدباء وشعراء الصوفية وبعض أشعارهم، وألمح إلى أن للشاعر والأديب لغته التي قد يستعين فيها بأمور من البلاغة، ومن الشعراء الذين غلب التصوف على أشعارهم ممن ذكرهم المؤلف: ابن الفارض – ابن عربي – غبدالغني النابلسي، وأورد المؤلف نبذة من كتاب (التوهم) للمحاسبي المتوفي سنة 243 هـ، وهو كتاب يحفزك على التخيل أو (التوهم) فتتوهم أنك في يوم القيامة ثم يسهب في التفاصيل والتخيلات.

وذكر المؤلف أيضاً اقتباسات من كتاب (المواقف) للنفري، وهو كتاب يحكي المؤلف فيه -بصورة تخيلية- بعض المواقف بين يدي ربه، وألواناً من الحوار بينه وبين ربه عز وجل، وفي صفحة الكتاب في Goodreads بعض المراجعات والاقتباسات منه.

ثم تحدث المؤلف عن الشعر الصوفي وأبرز رجاله، وقال:

وأما الأدب الفارسي، ويتبعه الأدب التركي والأدب الأردي فقد ترجم فكر الصوفية ووجدانهم بالشعر لا بالنثر.

وبلغ شعراء الفرس في هذه السبيل غاية لم يدركها شعراء أمة أخرى، فأخرجوا المعاني الظاهرة والخفية والدقيقة في صور شتى معجبة مطربة وقد فتح عليهم في هذا فتحًا عظيمًا فكان شعرهم فيضًا تضيق به الأبيات والقوافي والصحف والكتب حتى ليمسك القارئ أحيانًا حائرًا كيف تجلت لهم هذه المعاني، وكيف استطاعوا أن يشققوا المعنى الواحد إلى معانٍ شتى، ثم يخرجوا كل واحد منها في صور كثيرة عجيبة كأنها أزهار المرج ونباته تزدحم في العين ألوانها وأشكالها وماؤها واحد وترابها واحد.

كان أبو سعيد بن أبي الخير الخراساني من رجال القرنين الرابع والخامس (٣٥٧–٤٤٠ﻫ) فارط شعراء الصوفية في الأدب الفارسي فنظم رباعيات كثيرة هي أحسن ما في الشعر الصوفي من رباعيات فيما أعلم، وجاء بعده عبد الله الأنصاري المتوفى سنة ٤٨١ﻫ وله ديوان في الشعر الصوفي، ثم جاء الشاعر الكبير مجد الدين سنائي الغزنوي المتوفى سنة ٥٤٥ فنظم حديقة الحقائق ومنظومات أخر، وتلاه فريد الدين العطار فأكثر وفاض ونظم نحو أربعين منظومة، ثم جاء مولانا جلال الدين الرومي شيخ شعراء الصوفية كلهم فاستولى على الأمد، ونظم الديوان وهو شعر صوفي رقيق بليغ، والمثنوي وهو شعر وفلسفة وأخلاق وتفسير للقرآن والشريعة بأسلوب صوفي، وقد سماه المجبون به القرآن في اللغة الفارسية، وقالوا عن صاحبه: لم يكن نبيًّا، ولكن أوتي كتابًا.

ثم جاء عبد الرحمن الجامي العلم الشاعر المتوفى ٨٩٨ﻫ وهو يعد آخر شعراء الصوفية العظام.

وإلى جانب هؤلاء شعراء كثيرون لهم في التصوف شعر جيد كابن يمين، والعراق صاحب اللمعات، والشيخ محمود الشبستري صاحب المنظومة كلشن راز (حديقة السر) وقسم الأنوار والمغربي، ولا ننسى الشاعر العظيم الذي فاق الشعراء طرًّا بجمال شعره ودقته وإن لم يبلغ في الشعر الصوفي الصريح وفي الفلسفة مبلغ كبار الشعراء؛ وهو حافظ الشيرازي.

ولا يخلو شاعر فارسي من نزعة صوفية تظهر في شعره؛ لشدة ما سيطر شعراء الصوفية على الشعر الفارسي منذ نبغ كبار الشعراء الصوفية إلى يومنا هذا.

وختم المؤلف هذا الفصل بنبذة عن الشعر التركي، والذي سار وتأثر بالشعر الفارسي، ثم ذكر البلاد التركية الشرقية (تركستان) والتي هي الآن (كازاخستان) وهي التي نبغ فيها صوفي عظيم في القرن السادس الهجري، والتي -كما قال- لا تزال طريقته شائعة في تلك البلاد وبلاد أخرى، هو (أحمد اليسوي) وقد نظم باللغة التركية الشرقية (الشاغاتية) ديوان أسماه (ديوان الحكمة).

تمت ترجمة كتاب (ديوان الحكمة) إلى العربية مؤخراً على يد أحد المترجمين التركيين

الفصل الثالث: فريد الدين العطار

في هذا الفصل تعريف للشاعر الصوفي “فريد الدين العطار” المولود سنة 513 هـ، وقد عاش ومات في نيسابور.

وحين تتبعت مكان وتاريخ نيسابور عبر فضاء الانترنت، وجدت أنها حالياً أحد مدن دولة إيران (تسمى حالياً نيشابور)، وقد دخلها المسلمون في السننة 31 هـ، وهنا فيديو مختصر يحكي تاريخها، وهذا فيديو آخر فيه معلومات مختصرة عنها، ولمن أراد التعمق فليقرأ صفحتها في الموسوعة الحرة.

ونيسابور هي أحدى مدن خراسان، وخراسان هذه أحد المعالم الإسلامية البارزة، هي منطقة وساعة شملت عدة مدن ونبغ فيها علماء ومتصوفون وأشخاص تركوا أثراً بعدهم، جزء منها حالياً يقع في إيران، وأجزاء منها في الدول المجاورة، وقد ذكر المؤلف عنها الفقرة التالية:

ولا يتسع المجال هنا لبيان مكانة خراسان في العالم؛ شعوبه، وتجارته، وثقافته؛ إذ كانت موصل إيران وآسيا الغربية وأوربا وأفريقية وآسيا الشرقية والشمالية؛ ولكني أكتفي بالإشارة إلى صلة هذا الإقليم بالتصوف، كثير من الصوفية الأولين عاشوا هم أو آباؤهم في هذه البقعة من الأرض؛ فإبراهيم بن أدهم، وشقيق البلخي، وبشر الحافي، وفضيل بن عياض، وأبو يزيد البسطامي، وحاتم بن علوان الأصم، وأبو حفص الحداد، وأبو عثمان الحيري، والقشيري، والغزالي، وأبو سعيد بن أبي الخير، والعطار، وجلال الدين الرومي؛ كل هؤلاء من هذا الإقليم أصلًا أو منشأ.

الفصل الثالث والرابع فقد تناول فريد الدين العطار بالتعريف والبحث وكذلك تصوفه وآثار تصوفه فيما كتب ووصل إلينا من أشعاره، والعطار كان يكتب الشعر في اللغة الفارسية لكنه حين نقل إلينا نقل نثراً في الغالب، وأشهر عمل له هو (منطق الطير) وقد قدم المؤلف لهذا العمل تعريفاً واختصاراً لمجمل ما قيل في فصوله وأجزاءه.

تناول المؤلف في احد الفصول تعريفاً لفريد الدين العطار ومكان ولادته وبحثاً وتقصياً لتاريخ وفاته، وهو التاريخ الذي لا تتفق عليه المصادر، والعطار لا يُعرف عنه الكثير، وأكثر معرفتنا به هي من خلال ما كتب ووصف به نفسه، لكن المعلوم أن أبوه كان عطاراً، وقد ورث هذه المهنة منه، ولذلك يلقب بالعطار، أما وفاقته فقد كان في المدينة ذاتها (نيشابور) ولديه ضريح هناك يمكن زيارته، أما تاريخ وفاته فمختلف فيه لكن أكثر الروايات تذكر أنه توفي في 627 هـ، ويذكر البعض أنه قتل حين هجم التتار على المدينة في ذات السنة والذي تسبب إلى مقتل معظم سكان المدينة بحسب المصادر.

كان العطار عطاراً يعطي الدواء لمن يحتاجه في دكانه، وقد بدأ التأليف وهو لايزال عطاراً يعمل في الدكان، وكان صوفياً حين كان عاملاً في دنياه، لكن انقطع بعد ذلك وترك حانوته وسافر إلى بلدان وصاحب مشايخ وأولياء.

وسواء أقُتل العطار أم مات فقد فارق عيشة حزينة قلقة وهو يقول: «عاش ولم يرَ وجه الحياة.»
كان صوفيًّا ناسكًا قطع من الدنيا علائقه، وعاش زمنًا طويلًا معتزلًا متعبِّدًا متأملًا ناظمًا عقائده وآراءه وتجاربه، والظاهر أن هجرة العطار، وانقطاعه للتصوف أدى به إلى الفاقة، وكان أعفَّ وأزهدَ من أن يسأل الناس المعونة أو يقبل من أحدهم هبة

للعطار منزلة كبيرة بين الشعراء الصوفيين، ويمكن أن يكون هو وجلال الدين الرومي أشهر شاعران صوفيان كتبا بالفارسية، وقد ذكر المؤلف بعض قول العطار عن نفسه وعن شعره (اعتداده بنفسه) ثم ذكر بعض أقوال الآخرين عنه.

يقال أن العطار بارك جلال الدين الرومي في صغره وأعطاه كتابه حينما مر بنيسابور صبياً في صحبة أبيه وهو في طريقه إلى العراق، ويقال أن الرومي من أتباع العطار يدور حول كوكبه.

وقصارى القول: إن الصوفية والأدباء يكادون يجمعون على أن العطار وجلال الدين الرومي أكبر الصوفية من شعراء الفرس، وإن يكن جلال الدين أبعد ذكرًا وأوضح طريقة.

وأحسن ما قيل في القياس بينهما ما رواه مؤلف «هفت أقليم» أن صوفيًّا كبيرًا سُئل عنهما فقال: إن الرومي بلغ قمة الكمال — كالنسر — في طرفة عين، والثاني بلغ القمة نفسها، ولكن كالنملة بعد سير طويل ودأب لا يفتر.

ثم ختم المؤلف هذا الفصل بذكر مؤلفات فريد الدين العطار، والعطار غزير الكتابة، كتب الكثير وألف الكثير من الشعر الفارسي الصوفي، وقد عدد مؤلف هذا الكتاب 22 كتاباً وذكر أن هنالك كتب أخرى تنسب إليه، لكنه اكتفي بما هو متحقق منه.

تصوف العطار

تصوف العطار واضح لا يمتلئ بالرمزيات كما -مثلاً- في أشعار حافظ الشيرازي، يقول حيناً في أشعاره أنه بلغ وأبلغ كلما في الخاطر، وأحياناً يقول بأن كيف له أن يظهر ما لا يمكن إظاهره، وهو الشائع بين الصوفية في عدم الإفصاح عن كل الأسرار والأمور الذوقية، فكيف للكلام أن يصف ما لا يمكن بلوغه إلا بالذوق؟

العطار يعظم رسول الله والشريعة، ويعلن أن كل أدلته مستمدة من القرآن، وقد عقد فصولاً كثيرة يبين فيها اتفاق الشريعة والحقيقة.

يعترف العطار في بعض أقواله أن العقل باحث ذكي مدقق أحياناً، وأنه يدرك نظام العالم، وأنه هدى إلى الرشد، ولكن لا ينبغي أن يقف الإنسان في مستواه، وعليه أن يسمو إلى مستوى العشق.

يقول العطار: إذا اجتمع العقل والدين والعشق أدرك الذوق كل الأسرار التي يبتغيها الطالب

يذكر المؤلف بعد ذلك رأي العطار في الفلسفة، ثم تصور العطار لله والعالم والإنسان، ويذكر فيها موضوع “وحدة الوجود” والفرق بين تصوفر العطار وبقية الصوفية لهذا المفهوم وتصور الفلاسفة اليونان

العالم عند العطار هو تجلي الله، أو هو كالظل من الشمس، والصورة في المرآة، وقد ضرب في «منطق الطير» مثلًا، ملكًا لم يجرؤ أحد على رؤيته أو لقائه، فأراد أن يمكِّن رعيته من رؤيته فصعد فوق قصره وأمر أن توضع مرآة على الأرض تجلى فيها وجهه فرأته الرعية.

ثم يتحدث المؤلف عن (الله والإنسان) ويذكر كلاماً ممزوجاً بأقوال العطار وغيره من الصوفيين، ويحاول أن يفسر مغالاة بعضهم وقولهم (أنا لله) وهي العبارة التي ذكرت أيضاً في أحد كتب العطار، يتحدث العطار عن الروح وعن النفس وكيف نزلت وكيف تتصل بالعالم. ويعقد المؤلف فصلاً آخر بعنوان (القضاء والقدر) وماهي فلسفته في هذا الخصوص، ولعلنا نكتفي بهذا الاقتباس:

يتحدث المؤلف بعد ذلك عن الطريقة وعن الحال والمقام (في فصل سماه: الطريقة) وذكر قولاً مفيداً للقشيري حول الفرق بين الحال والمقام، ثم يورد بعض أقوال العطار وغيرهم فيما يخص “الهدف” الذي لا يمكن بلوغه، والطريق الذي لا نهاية له:

غاية الطريق التي يسير إليها الصوفي تكاد تكون غاية لا تدرك. يقول: «إنك تسير في طريقه مائة قرن ثم تجد نفسك عند الخطوة الأولى»، وهذا يذكرنا بقول الشيخ سعدي الشيرازي في مقدمة الكلستان: “يا من هو فوق الخيال والقياس والوهم، وفوق كل ما قالوا وسمعنا وقرأنا! انتهى المجلس وبلغ العمر منتهاه ولا نزال كما كنا في أول وصفك”

ويقول العطار: “كيف أمضى قدمًا وكأن مائة وادٍ تلوح في كل نفس؟ لا علامة في هذه الطريق، وإنما علامته الواحدة أن لا علامة فيه”. وفي (مختار نامه) يعقد الشاعر فصلًا بهذا العنوان: «في اليأس والاعتراف بالعجز». وسواء أكانت الغاية مما يدرك أو ما لا يدرك فيجب على السالك أن يفكر فيها ويعمل لها دأبًا.

ملخص كتاب منطق الطير

ويختم المؤلف كتابه بوصف وتخليص لما جاء في كتاب “منطق الطير” فقد ذكر باختصار تلك الوديان السبعة التي تقطعها الطيور في سيرها إلى الملك، ثم يورد بعض أقوال الطوير وكلامهم مما ذكره العطار في ملحمته كما يسميها البعض

بعد أن يتزود السالك بالخلال التي بينها الهدهد، في القسم الأول من منطق الطير، يبدأ رحلته فيقطع الأودية السبعة التي وصفها في القسم الثاني من الكتاب الذي سماه مقامات الطيور، وهي أودية: الطلب، والعشق، والمعرفة، والاستغناء، والتوحيد، والحيرة، والفقر والفناء.

وهي أودية متشابهة بما ملأتها حماسة العطار وغلوه بالهول والحيرة؛ ولكن لكل وادٍ، بجانب الأوصاف العامة، خصائص تميزه من غيره.

وهكذا ينتهي هذا الكتاب الماتع، الذي طاف بأودية التصوف وجال في عقول الأولياء، ثم ختم بالغوص عميقاً في عقل أحد روادهم، إنه العطار، فلله دره، ولله درهم، أولئك الذين تباركت الأرض بهم، فلم يغادروها حتى نثروا فيها بعض أزهارهم، ولازلنا نشتم روائحها الزكية حتى اليوم، ونتعطر برحيق كلماتهم.

انتهيت من قراءة الكتاب في الثالث عشر من شهر أبريل 2020 (عام الكورونا)، وصلى الله وسلم على رسوله الكريم.

ملخص كتاب: أيها الولد، للإمام أبو حامد الغزالي

الكتاب رقم 5 لسنة 2020
كتاب صغير بعنوان “أيها الولد” للإمام “أبي حامد الغزالي” (150 صفحة)

هؤلاء العلماء الأجلاء، والربانيون العظماء، يكفي أن تقرأ لهم بعض النصح والعبارات التي تخرج من قلوبهم المخلصة (كما نحسبهم والله حسيبهم) لتجد أثرها وثمرتها في قلبك وحياتك، وخاصة إن أتبعت العلم العمل، ولقد كنت أريد أن أقرأ لأبي حامد الغزالي منذ زمن، منذ أن عرفت بعض جوانب سيرته العطرة من عدة محاضرات منشورة للدكتور عدنان ابراهيم في اليوتيوب، فعرفت أنه في فترة من فترات حياته ترك كل شيء وذهب مهاجراً إلى الله، يبحث عن قلبه ويرجو معرفة ربه، بعد أن وصل إلى مكانة مرموقة في الحياة وبعد أن أصبح عالماً مشهوراً، لكن كل ذلك لم يغنِ عنه وترك كل حياته خلفه وتوجه ليصبح عابداً في المساجد ودرويشاً في الجوامع، ثم ولد من جديد وعاد إلى الدنيا بضياء قلبه الذي امتلأ بحب الله، فألف وكتب لنا كتباً لازالت شموعاً بارزة في كل عصر.

لقد أردت أن أبدأ قراءاتي لكتب الشيخ بهذا الكتاب الصغير الخفيف، حتى يكون فاتحة خير، وخيط يدخلني إلى روضة مؤلفاته.

ملخص الكتاب

أصل كتاب الإمام الغزالي صغيرٌ جداً، لكن المحقق زاد عليه الكثير في البداية، فالكتاب يقع في 150 صفحة، نصفه الأول عبارة عن ثلاثة فصول زائدة على الكتاب، والنصف الثاني هو محتوى رسالة الإمام نفسها، وهنالك الكثير من الحواشي والتوضيحات على كلام الإمام (وتخريج الاحاديث والآيات) ولو حذفنا كل هذا لأمكن وضع هذه الرسالة في كتيب صغير.

والكتاب في مجمله يمكن أن يوضع في باب (الوعظ والتذكير) فهي نصائح من شيخ مشفق إلى تلميذه، ويمكن أن تعتبر أنها موجهة إليك، حيث لا يمل الشيخ من ترداد (أيها الولد) قبل كل موضوع، كما أن الكتاب يحتوي على الأحاديث والأخبار المرققة للقلب والموقظة لباعث الإيمان في النفس.

الفصل الأول (من تأليف المحقق) يحتوي على تعريف بالغزالي، والفصل الثاني فيه تعريف بهذه الرسالة والمصادر التي تم التزود بها لتحقيقها الرسالة وغيرها من التفاصيل الفنية، أما الفصل الثالث والذي يقع في 40 صفحة فقد خصصه المحقق لـ (آداب المتعلم والعالم) من كلامه وبعض المقتبسات من كلام الغزالي.

ثم يأتي الجزء الأصلي والذي فيه رسالة الإمام الغزالي إلى تلميذه. وهذه الرسالة كما يبدو أنه قد ألفها بعد تأليفه لكتابة الأشهر (إحياء علوم الدين) لأنه ذكره في بعض المواضع.

بدأ نصائحه الجليلة بالتشديد على أهمية الوقت وعدم إضاعته، ثم في قبول النصيحة، فهي سهلة لكن الصعب قبولها، ثم ذكر أمر آخر هو مشكلة عدم العمل بما تعلمت (أو بالنصيحة)، وهذه آفة كثير من الناس.

بعدها دخل في موضوع النية، فسأل تلميذه عن كم الليالي التي سهرها في التعلم، ثم سأله عن الباعث لذلك والقصد والنية، (فإن كانت نيتك نيل عرض الدنيا، وجذب حطامها وتحصيل مناصبها، والمباهاة بين الأقران والأمثال فويل لك ثم ويل لك، وإن كان قصدك …) ثم تكلم عن تطهير موضع نظر الله (القلب).

ثم توجه الشيخ في كلامه إلى مسألة (قيام الليل) وذكر الأحاديث والأخبار والآيات وشدد على الأمر، ثم تحدث عن موافقة الشرع في العمل، والاقتداء بالمعلم الأول (صلى الله عليه وسلم)، ثم تحدث عن أمر مهم:

قال رحمه الله (واعلم أن بعض مسائلك التي سألتني عنها لا يستقيم جوابها بالكتابة والقول، إن تبلغ تلك الحالة عرف ما هي وإلا فعلمها من المستحيلات، لأنها ذوقية، وكل ما يكون ذوقياً، لا يستقيم وصفه بالقول. كحلاوة الحلو ومرارة المر، لا تعرف إلا بالذوق) وهو يشير هنا إلى الحالات الروحية التي يصل إليها أولياء الله والصديقين، والتي لم يصلنا من أخبارها إلى الجزء اليسير، لأنك إن أردت أن تعرفها حقاً فعليك بالتجربة، لن تعرفها بالقول والكلام، وهذا الأمر المكنوف بالأسرار يجعل القلب يشتاق لأن يستكشف وأن يتذوق، وهذا لا يأتي إلا بكثرة الأعمال الصالحة، وإطالة الصلاة في الخلوات، والذكر بالقلب قبل اللسان، وغيرها مما يقرب العبد إلى ربه حقاً وليس تظاهراً.

ثم ذكر ما يجب على السالك، وهي أربعة امور: إعتقاد صحيح لا يكون فيه بدعة، (2) توبة نصوح لا يرجع بعدها إلى الذلة (3) استرضاء الخصوم حتى لا يبقى لأحد عليك حق (4) تحصيل علم الشريعة قدر ما تؤدي به أوامر الله تعالى، ثم من العلوم الآخرة ما يكون به النجاة.

ثم ذكر في مقال طويل ما حكاه (حاتم الأصم) عندما سأله (شقيق البلخي) عن ماذا حصل عبر الثلاث سنوات من مصاحبته له، فأجاب في ثمانٍ نقاط وفوائد، ذكرها بشيء من التفصيل، وملخصها كالتالي: (1) أفضل محبوب هو الذي يدخل معك قبرك ولا يفارقك وقت موتك، وهو العمل الصالح (2) مجاهدة النفس وعدم اتباع الهوى (3) بذل المحصول الدنيوي لوجه الله (4) اختيار التقوى لتكون مصدر العز والكرامة (5) عدم الحسد والرضى بما قسمه الله لك (6) لا تعادي أحد غير الشيطان (7) اليقين أن الرزق بيد الله والاشتغال بالعبادة وقطع الطمع عن ما سواه (8) التوكل على الله والاعتماد عليه.

ثم ذكر أهمية وجود الشيخ المربي في حياة السالك، وماهي مواصفاته، وما يجب على السالك من آداب نحوه، ثم ذكر صفتا الصوفي الحق (تجده تحت في الاقتباس رقم 11) ثم أجاب عن ماهية هذه الأشياء: العبودية (ص131) – التوكل (ص132) – الإخلاص (ص133).

تحدث بعد ذلك بكلام جميل (من ص133 إلى 135) عن الأمور الذوقية (التصوف) وكيف السبيل للوصل إليها.

ثم أورد ثمان نصائح، أربعة أمور يدعهن، وأربعة يتمسك بهن: أن يدع المناظرات إلا في حدود ضيقة جدا ووفق شروط خاصة، وحذر من أن تكون واعظاً إلا بشروط، وعدم مخالطة الأمراء والسلاطين وأن لا تقبل شيئاً من عطاياهم، وأما الأربعو التي ينبغي عليه فعلهن: أن تجعل معاملتك مع الله – حب لأخيك ما تحب لنفسك – أن تصب القراءة والمطالعة في اكتساب علم يفيدك وينجيك، وأخيراً: أن لا تجمع من الدنيا أكثر مما يكفيك لسنة، ثم ختم رسالته بدعاء أعطاه لتلميذه كي يدعو به، وقبل ذلك ذكر هذه العبارة:

أيها الولد: إني كتبت في هذا الفصل ملتمساتك، فينبغي لك أن تعمل بها ولا تنساني فيه من أن تذكرني في صالح دعائك.

اقتباسات جذبتني

1- “إن امرأ ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن تطول عليه حسرته”
2- “روي أن الجنيد قدس الله روحه رُئي في المنام بعد موته، فقيل له: ما الخبر يا أبا القاسم؟ قال: طاحت العبارات وفنيت الإشارات، وما نفعنا إلا ركعات ركعناها في جوف الليل”
3-” أيها الولد: لا تكن من الأعمال مفلساً، ولا من الأحوال خالياً، وتيقن أن العلم المجرد لا يأخذ باليد”
4-“أيها الولد: لو قرأت العلم مئة سنة، وجمعت ألف كتاب، لا تكون مستعداً لرحمة الله تعالى إلا بالعمل لقوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) وقوله تعالى (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً)”
5-” قال الحسن البصري رحمه الله: يقول الله تعالى لعباده يوم القيامة: ادخلوا يا عبادي الجنة برحمتي واقتسموها بقدر أعمالكم”
6-“قال الحسن رحمه الله (طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب) وقال (علامة الحقيقة ترك ملاحظة العمل لا ترك العمل)”
7-“أيها الولد: العلم بلا عملٍ جنون، والعمل بغير علم لا يكون”
8-” قال عليه الصلاة والسلام لرجل من أصحابه: يافلان … لا تكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تدع صاحبه فقيراً يوم القيامة”
9-” قال سفيان الثوري: إذا كان أول الليل ينادي منادٍ من تحت العرش: ألا ليقم العابدون، فيقومون ويصلون ما شاء الله، ثم ينادي منادٍ في شطر الليل: ألا ليقم القانتون، فيقومون ويصلون إلى السحر، فإذا كان السحر ينادي مناد: ألا ليقم المستغفرون، فيقومون ويستغفرون، فإذا طلع الفجر ينادي منادٍ: ألا ليقم الغافلون، فيقومون من فروشهم كالموتى نشروا من قبورهم”.
10-“واعلم أن بعض مسائلك التي سألتني عنها لا يستقيم جوابها بالكتابة والقول، إن تبلغ تلك الحالة عرف ما هي وإلا فعلمها من المستحيلات، لأنها ذوقية، وكل ما يكون ذوقياً، لا يستقيم وصفه بالقول. كحلاوة الحلو ومرارة المر، لا تعرف إلا بالذوق”
11-” ثم اعلم أن الصوفي له خصلتان: الاستقامة، والسكون عن الخلق، فمن استقام وأحسن خُلُقه بالناس وعاملهم بالحلم فهو صوفي”
12-” أيها الولد: الباقي من مسائلك بعضها مسطور في مصنفاتي، فاطلبه ثمة، وكتابة بعضها حرام. اعمل أنت بما تعلم، لينكشف لك ما لم تعلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عمل بما علم ورثه الله ما لم يعلم.”

مراجعة سريعة للمجموعة القصصية (وشاية الليلك) للكاتب اليمني الدكتور فارس البيل

الكتاب رقم 4 في 2020
مجموعة قصصية بعنوان (وشاية الليلك) لـ: فارس البيل

لو أردت أن أعبر عن هذه القصص بكلمة او كلمتين، لقلت أنها (دافئة).
لغة الدكتور فارس عذبة رقراقة، أما القصص التي عددها 12 فهي متنوعة، منها ما تدور أحداثه في الريف، ومنها ما هو في الحضر، منها ما ينتهي ببعض الحزن، ومنها ما يدغدغ عواطفك ويستثير ضحكتك، هي قصص تعبر عن بعض الواقع، وتعكس جوانب من الحياة وما فيها من تناقضات.

هنالك من القصص ما يختزل سنوات في أسطر، وقد أعجبتني خفة الانتقال في الأزمنة التي يتبعها الكاتب، حيث يدع للقارئ بعض الفجوات التي من خلالها يستنتج بنفسه أن أشهراً أو سنوات قد مرت، دون أن يطنب أذنيك بعبارات تزيد على النص وتأكل بعض جماله.

يبدع الكاتب في وصف المكان، وينتقل بالقارئ بعقله إلى عالم القصة بما فيها من مشاعر وأحاسيس، يختار كلماته بحرص، وينتقي الألفاظ البلاغية التي تستوقفك مراراً لتتأمل بعض جمالها.

بدأت رحلتي بقصة (وراء البريق)، وأعادتني الكلمات إلى جو الريف العليل وطيبة الناس الأصيلة، ثم حلقت بي القصة وأوصلتني في نهاية المطاف إلى حكمة اختزلها أحد الحكماء اليمنيين بقوله (عز القبيلي بلاده… ولو تجرع وباها).

ثم انتقلت إلى (تحت المطر)، والتي تباطأ الزمن فيها بشدة، فبدلاً من أن تحكي لك القصة ما حدث في فترة، ركزت على مشهد حدث في نصف ساعة، يحكي مصادفة غريبة، لقاء وحوار تفهم من خلاله كيف سارت الأمور وإلى أين آلت، كي تستخلص -في نهاية المطاف- الرسالة التي تعبر عن حال هذا الزمان، وما يحدث من بني الإنسان.

تحاول القصص -في الغالب- عرض مشاكل اجتماعية من الواقع العربي، لكن بأسلوب أدبي يدع للقارئ حرية القرار والحكم، والبعض منها يكتفي بالسرد الجميل لمواقف ومشاهد من الحياة.

في الأسفل بعض الاقتباسات التي تعكس جمال لغة الكتاب، والكاتب.

وشاية الليلك

قرأت قصة “العجوز والبحر” وهذا كان انطباعي

كتاب رقم 3 في 2020
رواية أو قصة “العجوز والبحر” لـ “أرنست همنجواي” (116 صفحة)

اخترت هذه القصة لشهرتها، ولأني أريد البدء في قراءة روايات عمالقة الأدب العالمي، فبدأت بشيء يسير، وقد وجدت في النت هذه القصة بثلاثة ترجمات، كنت أحياناً أتنقل بين ترجمة وأخرى، حين لا تعجبني إحداهن أو أجد فيها بعض الصعوبة في بلع الكلام أو تعيقني عن السرعة في القراءة، بدأت القصة بحماس، ثم قل الحماس في منتصف القصة بسبب التفاصيل الكثيرة الغير مثيرة، لكن نهاية القصة كان مميزاً وأظهر ما في القصة من حكمة دفينة ودرس بليغ.

كتبت هذه الكلمات فور الانتهاء من قراءتها:

“هي قصة تختصر حكاية الإنسان في الأرض، صراعة من أجل البقاء، حكمته التي يكتسبها خلال سنين العمر، فتتجسد في تصرفه تجاه موقف، أو صبره أمام أمرٍ عسير، وقد تتجسد تلك الحكمة في حوار يجريه مع عصفور تائه في عباب البحر، أو مع سمكة يجاريها ليظفر بخيرها.

هذه القصة رغم صغر حجمها، إلا أنك تمضي معها بنفس طويل، بهدوء جليل، تكاد من جلاله أن تسمع خفقان قلبك، هو هدوء يسبق العاصفة، فما تلبث أن يتحول إلى ضجة تخلفها عزيمة الإنسان المتقدة، فتتحول برودة المياه الزرقاء إلى لهب يحتدم من أجل البقاء، فتظهر أمامك خصال الإنسان القوية، وترتسم في مخيلتك لوحة صراعاته الأبدية.

قصة قد تشعر معها ببعض السأم في بدايتها، حين تتحرك الساعة ببطئ، ومع هذه الوتيرة المتثاقلة، تتعرف فيها على شخصية البطل عن قرب، وتنتقل -شعورياً- من جو المدينة الصاخب إلى هدوء البحر القاتل، تختلي فيها مع بطل القصة ليخبرك عن “من هو” وعن لمحة من ماضيه، وتتعرف فيها على بعض التفاصيل التي تغيب عنك لحياة البحر والصيد.

هي قصة يراها كل شخص من زاويته، ويستخلص منها كل إنسان حكمة بحسب سنه، فقد يراها الشاب المقبل على الحياة، ملحمة للبطولة والإصرار وصفحة من صفحات الكفاح والنضال، بينما قد يراها الشيخ الذي ابيض شعر ذقنه، قصة من قصص الصبر والتأني، والتمهل بدل الاستعجال، قد يجدها محب الطبيعة رحلة للتأمل والتفكير وسط محيط أزرق وتحت سماء زرقاء، وقد يجدها الزاهد في الحياة، صورة من صور الأخذ بعد العطاء، وأن هذه الدنيا لا تساوي شيء، فما هي إلا ابتلاء.

سوف يأخذك الكتاب في رحلة إلى عالم الصياد المخفية، إلى تطلعاته وصبره، إلى جلده وقوته، تكتشف فيها عالمه الداخلي وخلجات صدره التي لا يعرفها أقرب الناس إليه، ستعيش مع شخصيات أخرى ليست من البشر، وستتولد في صدرك بعض المشاعر والمودة لما ليس بعاقل، ستتفاعل مع الأحداث، ستكون ثاني اثنين، تراقب وتتعلم، تفرح وتحزن، وأحياناً قد تتألم.

عبر قارب الكلمات، ستعيش مع الصياد في قاربه، تسمع حديثه مع نفسه، وأحياناً مع من حوله، قد تشعر بألمه وقد تنكشف لك بعض مشاعره، وكلما غاص القارب في البحر غصت أنت في بحر كلمات الرواية، فما تلبث تلك الرتابة إلى أن تتحول إلى أحداث متسارعة، وما تلبث النهاية بالانكشاف إلا وتتخذ مسلكاً مختلفاً، لم تكن تتوقعه، وحين تنتهي من القراءة، تطوي الصفحات، وتغلق الكتاب، ثم تجلس مع نفسك وتسترجع ما حصل غير مصدق كيف حصل، لكنه أمر منطقي جدا، كما هي الحياة التي تستغرب أحداثها الموجعة ثم حين تفكر فيها، تجدها منطقية، لأنها هكذا، لأنها الحياة.”

حكاية صوفية ترويها امرأة تركية: قراءتي لرواية: قواعد العشق الأربعون

كتاب رقم 2 في 2020
رواية “قواعد العشق الأربعون” لـ “إليف شافاق” (500 صفحة)

نالت هذه الرواية شهرة واسعة، وأتذكر حين سمعت عنها لأول مرة قبل أكثر من خمس سنوات، حين أخبرني بها زميلي في العمل، وهو ينهال عليها بالشكر والثناء، ومرت السنوات، وفي السنة الماضية قررت أن أقرأها، بدأت وشدتني الأحداث لكني لم أكمل القراءة، فالرواية طويلة نسبياً، لكن حين بدأت هذه السنة بهدف القراءة قررت أن أكملها، وقد تم ذلك بحمد الله، وهذه مراجعة سريعة لقراءتي لها.

الرواية عن العالم الصوفي المشهور عند الغرب قبل العرب (جلال الدين الرومي) وعن صديقه (شمس التبريزي) لا أدري كم هي الحقائق التي في الرواية وكم هو المنسوج من خيال المؤلفة التركية.

أنا أعتبر الرواية انعكاس لما تؤمن به المؤلفة عن الدين والتصوف، فبرغم ما تحتويه الرواية من قيم وأخلاقيات راقية، إلا أنها تسوق كذلك لأفكار أرفضها ويرفضها معظم علماء الدين، فقد تم تمييع الدين بداخل القصة إلى درجة كبيرة، وأيضاً هنالك جرأة لم تعجبني بخصوص التحدث عن العلاقات الجنسية.

هنالك أربعين قاعدة تظهر مع أحداث الرواية، وفي الغالب يقول بها بطل الفيلم (شمس التبريزي)، معظم تلك القواعد عبارة عن حكم صوفية وأخلاقية جميلة وعميقة أحياناً. تصور الكاتبة البطل بأنه ذو حكمة وبصيرة بل وحتى بعض الخوارق للطبيعة.

في العموم؛ الرواية جيدة على ما فيها من هنات وشطحات، وقد أخذت منها الكثير من الاقتباسات التي نالت اعجابي، هذه أبرزها:

قواعد العشق الأربعون

الفلسفة لغير المتفلسفين؛ مراجعة كتاب: مبادئ الفلسفة

الكتاب رقم 1 في 2020
إسم الكتاب: مبادئ الفلسفة
تأليف: أ. س. رابوبرت
ترجمة: أحمد أمين
عدد صفحاته: 138
( متوفر بنسخة رقمية في موقع هنداوي)

بدأت به بسبب ما أجد في نفسي من انجذاب لهذا المجال الذي لا أعرف عنه سوى طراطيش كلام، وقد رأيت أن هذا الكتاب قد يكون مناسباً لأفتح لعيني نافذة تطل على هذا العالم وأعرف أعمدته الرئيسية، وقد كان كتاباً جيداً شاملاً لأمور كثيرة، كما يعتبر مدخل تعريفي وتاريخي جيد للفلسفة.

الكتاب قديم نوعاً ما، تم تأليفه قبل أكثر من 100 سنة، لكن هذا لا يؤثر كثيراً عن قيمة الكتاب وفائدته في هذا العصر، كونه يتطرق أساساً للمنابع التاريخية التي ظهرت فيه الفلسفة وفروعها، وهو العصر اليوناني حين أوغل العقل الإنساني في التفكير فيما حوله من طبيعه وما وراء الطبيعة أيضاً.

يُعرّف الكتاب الفلسفلة في بادئ الأمر بعبارات بسيطة سهلة ويشير إلى أن الإنسان هو كائن متفلسف بطبعه، وأن كل إنسان هو فيلسوف صغير بمعنى من المعاني ودرجة من الدرجات، ثم يبدأ الكتاب بسرد فروع الفلسفة وتخصيص فصل منفصل لكل فرع من الفروع، وبداية كل فصل يسرد المؤلف كلاماً نظرياً سهل الفهم جميل البنية كمدخل لفهم هذا الفرع.

يضيف المترجم فصلاً إلى الكتاب عن الفلسفة الإسلامية كون الكاتب الأصلي لم يذكرها لا من قريب ولا من بعيد، حيث وقد خصص المؤلف فصلاً كاملاً لتاريخ الترقي الفلسفي وقسم الأزمنة والعصور بطريقة مجملة ليعطي القارئ نظرة شمولية لتاريخ الفلسفة وكيف تطورت وعن أهم رموزها وشخصياتها.

أما الجزء الثاني من الكتاب فقد كان عن مسائل الفلسفة ومذاهبها، وفيه تطرق لثلاث مسائل مهمة آخرها (نظرية المعرفة) والتي تطورت وتعمقت الكتابات فيها في القرن السابع والثامن عشر الميلادي، حين بدأت بعض عقول الفلاسفة تعيد النظر إلى الأصل والمنبع، إلى المعرفة وكيف نتلاقها أو ننتجها.

الكتاب يفتح عينيك إلى أمور كثيرة، هو مدخل وباب لمن يحب استكشاف كيف يفكر العقل البشري وكيف يصل إلى الحقائق والنتائج بنفسه من خلال التفكير والنظر والتجربة، قد تتعرف من خلال الكتاب على مباحث وأمور جديدة يعطيك فيها خيطاً لتكمل أنت المشوار عبر كتب أخرى متخصصة أكثر.

يوجد في آخر الكتاب معجم لأشهر الرجال الذين ورد ذكرهم في الكتاب، وهو جزء مفيد للتعرف أكثر على بعض الفلاسفة، فيما لو أراد القارئ أن يتبحر في مجال من المجالات بعد إتمام الكتاب، فيبحث عن كتب أخرى كتبها فلاسفة ومتخصصون.

لقد كانت قراءة جيدة وممتعة ومفيدة، وقد فتحت شهيتي للقراءة في بعض مباحث الفلاسفة ولبعض رجالها.

قراءة خمسين كتاب كهدف لعام 2020

لم يزل الضمير ينخز لتركي للقراءة وللكتب، فحين أستعيد بعض الذكريات، أجدني من محبي القراءة من صغري، ففي مراحل الصبى، حين كنت ولداً يشق الطريق في المرحلة الإعدادية والثانوية، كنت أحب الإطلاع والقراءة، أخذت ذلك -ربما- عن والدي، وقد كان يشجعني باستمرار ويشتري لي الكتيبات والقصص، ولعلي أورد هنا بعض الأمثلة.

أتذكر قصص سفير، كان هنالك سلسلتين منها، سلسلة مغامرات وسلسلة خيال علمي، عشت مع تلك القصص أوقاتاً مميزة، سافرت بعقلي وخيالي إلى عوالم جديدة، وعجيبة، ثم كبرت، وكبر شغفي معي، كنت أقرأ بعض الكتب الممتعة من مكتبة أبي، مثل كتب الغرائب والعجائب، كتب الأسئلة والإجابات (سين جيم) وأحد الكتب في الفيزياء المسلية، وغيرها من الكتب مما كان يسهل هضمها.

أتذكر حين نويت أن أقرأ مختصر تفسير ابن كثير -والذي كان في ثلاثة مجلدات- لا أدري مالذي حملني على ذلك رغم صغر سني، بدأت اقرأ تفسير سورة مريم التي كنت أحبها، طبعاً لم أكمل التفسير ولم أصل لعُشره حتى.

أتذكر أول رواية قرأتها بالكامل، أو روايتين على الأرجح، لا أتذكر بأيهما بدأت، الأولى كانت “البحث عن امرأة مفقودة” والرواية الثانية لنفس المؤلف “دموع على سفوح المجد“، أما الأولى فقد عشت معها قصة حب قبل أن أعرف ماهو الحب، والثانية أدخلتني في عالم الحزن، قبل أن يتمرغ قلبي فيه، لقد تركتا في قلبي ندبة، ووضعتا علامة يصعب نسيانها.

ثم كبرت، وألهتني فترة الشباب المبكرة (أو المراهقة) عن القراءة، أنهيت الدراسة الثانوية ثم غادرت المكتبة والمنزل والبلد بأكمله، سافرت لأبدأ مرحلة جديدة لدراسة الجامعة، ثم تزوجت ودخلت معترك جديد، أحداث هنا وأحداث هناك، مضت السنوات سريعاً، وألهتني الحياة عن حبي الأول، عن القراءة.

أنهيت الدراسة الجامعية ثم عدت إلى أرض الوطن وقضيت سنة ونصف ثم سافرت من جديد إلى القاهرة وبدأت الماجستير، حتى قامت الثورات الشعبية، وسافرَت الزوجة وإبني الصغير، وعشت أياماً صعبة في قلق وحيرة، ولم يكن يخرجني من تلك الحالة إلى شيء واحد، هو القراءة.

في تلك الفترة عشت -حرفياً- نعيم القراءة، كان ذلك بين عامي 2011 و 2012، أحببت القراءة في المنتنزهات العامة، بجوار النيل، في الميادين وفوق المترو والأتوبيسات الكبيرة، كنت أقرأ حتى أخرج من الواقع إلى عالم الأفكار، كنت أقرأ لأعيد التوازن لحياتي وأهدئ من روعي، لقد بدأت مرحلة جديدة مع القراءة، مرحلة الحب والشغف.

للأسف أشغلتني الدنيا مرة أخرى، لم أبتعد حينها عن الكتب بشكل كامل لكني تكاسلت، وصار اهتمامي الأكبر هو في اقتناء الكتب وشرائها، والبحث عنها وقراءة ما قيل عنها، فكنت أقضي الكثير من الوقت متنقلاً بين صفحات Goodreads، وصرت أخرج من معرض الكتاب كل سنة برزم كبيرة من الكتب، جمعت الكتب بنية أن أبني لي مكتبة مستقبلية، وخاصة حين أعود لأرض الوطن، وبالفعل حين عدت مع كتبي الكثيرة المنوعة، أنشأت لها أرففاً جديدة بجانب كتب والدي، فصرت أشاهدها ليل نهار بفخر وأمسح على أغلفتها وأنظم أمكنتها، كنت أقوم بأشياء كثيرة، إلا أن أقرأها.

ومرت السنوات، وأتت الأزمات، ضاق الحال وتقطعت السبل، فكان الرحيل هو الحل، البحث عن أرض جديدة لتتنفس الروح، وتستمر الخطى، فأتيت إلى هنا، بجانب البحر، أبث له حزني، ويواسني وقت ضعفي، مرت أعوام قبل أن يستيقظ القلب من غفلته، قبل أن يكتشف خطيئته، حتى انتهى عام 2019، ودخل علينا العام الجديد، وفي أحد الأيام وأنا أسلي نفسي بفتات الفيسبوك، وقع نظري لمنشور الدكتور مروان الغفوري، والذي أورد فيه أسماء الكتب التي قرأها في 2019، فشعرت حينها بغصة في الحلق، وألم في الروح، شعرت بثقل الذنب الذي يخيم علي منذ سنوات، كنت أسوق الأعذار إلى نفسي، بأني مشغول، بأن لي هدف مهم يتطلب الإنهماك، وياله من عذر أخرق، لأني لا أمل من تضييع ساعات كل يوم في أمور جانبية، يكفي أن أخصص وقت الشبكات الاجتماعية للقراءة، إن كنت صادقاً مع نفسي.

حينها عزمت على التوبة، على العودة إلى القراءة، على أن يكون هدفاً محدداً وآلية واضحة، أن يكون أمراً ملزماً وغذاء لا ينقطع، أن تتحول إلى عادة لا يمكن الفكاك منها، أن تغدو القراءة من ضروريات الحياة، أن أستبدل قراءة الفتات ومشاهدة المسليات بقراءة الكتب الكاملة والدسمة.

فوضعت الهدف: 50 كتاب لعام 2020 أو أكثر، والآلية أن أنهي كتاباً كل أسبوع، بأي وسيلة كانت، المهم أن أستمر في القراءة، ولكي أشجع نفسي وألتزم على ذلك ، أعلنت هذا على الملأ، بل ودعوت الآخرين كي ينضموا معي إلى هذا التحدي، فكيف لشخص يدعو الآخرين لأمر ويشجعهم عليه ثم يكون أول من يترك وينقض، لقد وضعت نفسي كأول عربة في القطار، فالعربة الأولى لا يمكن أن تتوقف، مادام هنالك عربات من خلفها تدفعها إلى الأمام.

المهم، كان هذا ما حصل، وهاءنا -بحمد الله- أكتب بعد أن انقضى أول شهر في هذه السنة وأنا بحمد الله ملتزم بالقراء رغم بعض التقصير، بل أن هنالك أفكار أخرى بدأت بالتبرعم من رحم هذه العادة الحميدة، وقد تفتح القراءة أبواباً لم تكن في الحسبان، وتغير حياة الشخص لدرجة لا يمكن توقعها.

أخيراً: أحاول أن أنشر فيديو أسبوعي، عبارة عن خاطرة تخص القراءة، عبر اليوتيوب في قناتي الشخصية.

أحاول الالتزام بكتابة مراجعة أو تلخيص لكل كتاب أنهي قراءته، كي أذّكر نفسي به وبأهم ما قيل فيه، قبل أن أذّكر الآخرين، وسيشمل هذا التبويب أيضاً بعض المقالات المتعلقة بالقراءة وحب القراءة، وستكون جميع هذه المقالات في هذه المدونة -ان شاء الله- في تبويب خاص سأسميه “القراءة مستمرة“.