شغف القراءة، وتفتح أزهار الحياة

يعرف اليوتيوب (بسبب خوارزمياته الذكية) أني أحب الاستماع للمفكر الراحل (عبدالوهاب المسيري) لذلك فلا يمر يوم إلا ويرمي أمامي أحد الفيديوهات القديمة له من دهاليز اليوتيوب التي لا يعلم وسعها إلا قلة من البشر، والحقيقة أني رغم ممانعتي الشديدة لكل ما يضيع الوقت ويسرق دقائقي الثمنية، إلا أني أستسلم دائماً للمسيري، فأنا أحب أن أستكشف عقلية هذا المفكر الكبير، وعمق نظرته للأشياء.

المسيري مفكر كبير، له كتب منشورة، ولازلت أمني نفسي أني -يوماً ما -سأقرأ بعضها أو معظمها، والرافعي أديب كبير، بدأت قبل أيام بقراءة وحي قلمه وتذوق عذب كلماته، أما تولستوي فما أن بدأت رحلتي في بعض قصصة، حتى انفتحت شهيتي للمزيد، أما رائعة الأديب الكبير (فكتور هوجو) البؤساء، فلقد غمرتني القصة بالدهشة حين شاهدت الفيلم الذي أنتج عنها في 2012، فكيف بين وأنا أقرأ الرواية، أما المفكر الجميل (مصطفى محمود) فقد عشت أجمل الأيام حين كنت أقرأ كتبه الصغيرة التي كانت تمتع عقلي وتداعب فكري قبل سنوات، ولازلت متشوقاً للعودة وإكمال قراءة كتبه، وقبل أيام؛ كتب لنا الدكتور (أيمن الجندي) صاحب القلم الجميل، عن العالم الجليل الشيخ محمد أبو زهرة وعن مؤلفاته الدسمة وكتبه الكثيرة، فاشتهيت أن أغوص في سطور ما كتب، هذا بجانب عشرات العناوين لكتب أضعها في قائمة (القراءة المستقبلية) التي تزيد ولا تنقص.

ما أن أفكر في الكتب، حتى تتفح روحي كزهرة يداعبها الربيع ليرى جمالها الزاهي، وما أن أبدأ بالقراءة، حتى أرى الجمال يدب في خلجات نفسي كقطعة أرض أصابها الماء فاخضوضرت ونمت، إن لي بلكونة أليفة في شقتي الصغيرة، أتسلل إليها كلما اشتاقت نفسي للسياحة داخل عقول البشر، أو كلما شعر عقلي بالجوع وضاقت به تفاهات الحاضر، أستلقي فأنظر إلى السماء والسحب الجوالة، ثم أقرأ فينسل الوقت سريعاً دون أن أشعر، وهو الإنسلال الوحيد الذي لا أشعر معه بالندم.

أحياناً،،، أتمنى لو أن الوقت كله للقراءة، لو أني بعيد في جزيرة نائية في محيط أزرق بعيد كل البعد عن البشر، أعيش عيشة بسيطة، فأغذي جسدي من خير الأرض، وأغذي روحي من جمال الطبيعة، من البحر والسماء، وأغذي عقلي من كومة كتب كبيرة تم اختيارها بعناية من كافة ألوان وأطياف عقول البشر، فأعيش من أجل القراءة، وأقرأ كي أعيش، ياله من حلم جميل.

القراءة تجدد في عروقي حب الحياة، الحياة مع الكتب هي حياة غنية وثرية، بل هي مغامرة أجمل من مغامرة “طرزان”، ذلك الرجل الذي يتنقل بين الأشجار والأحجار، والتي عاجلاً أم آجلاً سيمل منها لتكرارها، أما مغامرة القراءة والكتب، فمن أين سيأتي الملل وأنت تقتحم مع كل كتاب عالماً جديداً، وبعد نهاية كل كتاب تقلع من كوكب لتيمم وجهك شطر كوكب آخر، فكيف لمن يتنقل بين الكواكب أن يمل وهو يحلق في أرجاء هذا الكون السحيق.

وهكذا، مع كل فترة من فترات عمرك القصير، تتفتح لك الحياة أكثر وأكثر حين تستمر في القراءة، لكن في النهاية ليس لك إلا حياة واحدة، حياة قصيرة جداً، كم عساك تقرأ فيها ياترى، وهنا أتذكر ذلك المشهد من فيلم (About Time)، الفيلم الذي تدور فكرته حول خاصية عجيبة في إحدى العائلات، لا يخبرون أحد بها ويتوارثونها أباً عن جد، وهي إمكانية العودة إلى نقطة محددة في الماضي، ما عليك إلا الدخول في مكان مظلم واغماض عينيك ،،، ثم … (بوم) هاقد عدت إلى الماضي، الشاهد في الأمر، أنه حينسأله الإبن أباه كيف كان يستغل هذه الخاصية، فلم يكن جوابه إلا … (الكتب)، لقد كان يعود للماضي ليكسب سنوات أطول من عمره من أجل أن يقرأ أكثر، وخلال عمره الذي طال وطال، كان قد قرأ الكثير والكثير.

تلك قصة خيالية، لكن الواقع هو أن هنالك كتاب يقبع هناك، فوق طاولة أو في رفٍ قديم، أو ربما يمكن الوصول إليه عبر لمسات سريعة في هاتفك الذكي، الواقع (والذي كان كالخيال قبل عشرين سنة) أنه عبر تلك القطعة الصغيرة (الهاتف) يمكنك قراءة عشرات ومئات الكتب وأنت قابع في بلكونتك الصغيرة، أو متكئ على جانبك الأيسر في ديوانك المشمس الهادئ، الواقع أن القراءة متاحة، متاحة للجميع.

قراءة خمسين كتاب كهدف لعام 2020

لم يزل الضمير ينخز لتركي للقراءة وللكتب، فحين أستعيد بعض الذكريات، أجدني من محبي القراءة من صغري، ففي مراحل الصبى، حين كنت ولداً يشق الطريق في المرحلة الإعدادية والثانوية، كنت أحب الإطلاع والقراءة، أخذت ذلك -ربما- عن والدي، وقد كان يشجعني باستمرار ويشتري لي الكتيبات والقصص، ولعلي أورد هنا بعض الأمثلة.

أتذكر قصص سفير، كان هنالك سلسلتين منها، سلسلة مغامرات وسلسلة خيال علمي، عشت مع تلك القصص أوقاتاً مميزة، سافرت بعقلي وخيالي إلى عوالم جديدة، وعجيبة، ثم كبرت، وكبر شغفي معي، كنت أقرأ بعض الكتب الممتعة من مكتبة أبي، مثل كتب الغرائب والعجائب، كتب الأسئلة والإجابات (سين جيم) وأحد الكتب في الفيزياء المسلية، وغيرها من الكتب مما كان يسهل هضمها.

أتذكر حين نويت أن أقرأ مختصر تفسير ابن كثير -والذي كان في ثلاثة مجلدات- لا أدري مالذي حملني على ذلك رغم صغر سني، بدأت اقرأ تفسير سورة مريم التي كنت أحبها، طبعاً لم أكمل التفسير ولم أصل لعُشره حتى.

أتذكر أول رواية قرأتها بالكامل، أو روايتين على الأرجح، لا أتذكر بأيهما بدأت، الأولى كانت “البحث عن امرأة مفقودة” والرواية الثانية لنفس المؤلف “دموع على سفوح المجد“، أما الأولى فقد عشت معها قصة حب قبل أن أعرف ماهو الحب، والثانية أدخلتني في عالم الحزن، قبل أن يتمرغ قلبي فيه، لقد تركتا في قلبي ندبة، ووضعتا علامة يصعب نسيانها.

ثم كبرت، وألهتني فترة الشباب المبكرة (أو المراهقة) عن القراءة، أنهيت الدراسة الثانوية ثم غادرت المكتبة والمنزل والبلد بأكمله، سافرت لأبدأ مرحلة جديدة لدراسة الجامعة، ثم تزوجت ودخلت معترك جديد، أحداث هنا وأحداث هناك، مضت السنوات سريعاً، وألهتني الحياة عن حبي الأول، عن القراءة.

أنهيت الدراسة الجامعية ثم عدت إلى أرض الوطن وقضيت سنة ونصف ثم سافرت من جديد إلى القاهرة وبدأت الماجستير، حتى قامت الثورات الشعبية، وسافرَت الزوجة وإبني الصغير، وعشت أياماً صعبة في قلق وحيرة، ولم يكن يخرجني من تلك الحالة إلى شيء واحد، هو القراءة.

في تلك الفترة عشت -حرفياً- نعيم القراءة، كان ذلك بين عامي 2011 و 2012، أحببت القراءة في المنتنزهات العامة، بجوار النيل، في الميادين وفوق المترو والأتوبيسات الكبيرة، كنت أقرأ حتى أخرج من الواقع إلى عالم الأفكار، كنت أقرأ لأعيد التوازن لحياتي وأهدئ من روعي، لقد بدأت مرحلة جديدة مع القراءة، مرحلة الحب والشغف.

للأسف أشغلتني الدنيا مرة أخرى، لم أبتعد حينها عن الكتب بشكل كامل لكني تكاسلت، وصار اهتمامي الأكبر هو في اقتناء الكتب وشرائها، والبحث عنها وقراءة ما قيل عنها، فكنت أقضي الكثير من الوقت متنقلاً بين صفحات Goodreads، وصرت أخرج من معرض الكتاب كل سنة برزم كبيرة من الكتب، جمعت الكتب بنية أن أبني لي مكتبة مستقبلية، وخاصة حين أعود لأرض الوطن، وبالفعل حين عدت مع كتبي الكثيرة المنوعة، أنشأت لها أرففاً جديدة بجانب كتب والدي، فصرت أشاهدها ليل نهار بفخر وأمسح على أغلفتها وأنظم أمكنتها، كنت أقوم بأشياء كثيرة، إلا أن أقرأها.

ومرت السنوات، وأتت الأزمات، ضاق الحال وتقطعت السبل، فكان الرحيل هو الحل، البحث عن أرض جديدة لتتنفس الروح، وتستمر الخطى، فأتيت إلى هنا، بجانب البحر، أبث له حزني، ويواسني وقت ضعفي، مرت أعوام قبل أن يستيقظ القلب من غفلته، قبل أن يكتشف خطيئته، حتى انتهى عام 2019، ودخل علينا العام الجديد، وفي أحد الأيام وأنا أسلي نفسي بفتات الفيسبوك، وقع نظري لمنشور الدكتور مروان الغفوري، والذي أورد فيه أسماء الكتب التي قرأها في 2019، فشعرت حينها بغصة في الحلق، وألم في الروح، شعرت بثقل الذنب الذي يخيم علي منذ سنوات، كنت أسوق الأعذار إلى نفسي، بأني مشغول، بأن لي هدف مهم يتطلب الإنهماك، وياله من عذر أخرق، لأني لا أمل من تضييع ساعات كل يوم في أمور جانبية، يكفي أن أخصص وقت الشبكات الاجتماعية للقراءة، إن كنت صادقاً مع نفسي.

حينها عزمت على التوبة، على العودة إلى القراءة، على أن يكون هدفاً محدداً وآلية واضحة، أن يكون أمراً ملزماً وغذاء لا ينقطع، أن تتحول إلى عادة لا يمكن الفكاك منها، أن تغدو القراءة من ضروريات الحياة، أن أستبدل قراءة الفتات ومشاهدة المسليات بقراءة الكتب الكاملة والدسمة.

فوضعت الهدف: 50 كتاب لعام 2020 أو أكثر، والآلية أن أنهي كتاباً كل أسبوع، بأي وسيلة كانت، المهم أن أستمر في القراءة، ولكي أشجع نفسي وألتزم على ذلك ، أعلنت هذا على الملأ، بل ودعوت الآخرين كي ينضموا معي إلى هذا التحدي، فكيف لشخص يدعو الآخرين لأمر ويشجعهم عليه ثم يكون أول من يترك وينقض، لقد وضعت نفسي كأول عربة في القطار، فالعربة الأولى لا يمكن أن تتوقف، مادام هنالك عربات من خلفها تدفعها إلى الأمام.

المهم، كان هذا ما حصل، وهاءنا -بحمد الله- أكتب بعد أن انقضى أول شهر في هذه السنة وأنا بحمد الله ملتزم بالقراء رغم بعض التقصير، بل أن هنالك أفكار أخرى بدأت بالتبرعم من رحم هذه العادة الحميدة، وقد تفتح القراءة أبواباً لم تكن في الحسبان، وتغير حياة الشخص لدرجة لا يمكن توقعها.

أخيراً: أحاول أن أنشر فيديو أسبوعي، عبارة عن خاطرة تخص القراءة، عبر اليوتيوب في قناتي الشخصية.

أحاول الالتزام بكتابة مراجعة أو تلخيص لكل كتاب أنهي قراءته، كي أذّكر نفسي به وبأهم ما قيل فيه، قبل أن أذّكر الآخرين، وسيشمل هذا التبويب أيضاً بعض المقالات المتعلقة بالقراءة وحب القراءة، وستكون جميع هذه المقالات في هذه المدونة -ان شاء الله- في تبويب خاص سأسميه “القراءة مستمرة“.