اطمئن، فقدماه لن توصلاه بعيداً | Don’t Worry, He Won’t Get Far on Foot

تعجبني الأفلام التي تفتح لي نوافذ أخرى، إما نوافذ معرفية، أو نوافذ لاستكشاف دواخل الإنسان وغرائب طباعة، وهذا الفيلم فعل كلا الأمرين، بل أنه زاد على ذلك بأن جعلني أكثر امتناناً لكوني مسلماً، لهذه الحياة الثرية والتجربة الفريدة التي توفرها لنا هذه الرسالة السماوية التي ضمنت لنا العيش بأرقى درجات السعادة والفلاح.

فأما النافذة الأولى (نافذة المعرفة) فهي معرفتي للشخصية التي دار حولها الفلم، (مبني على قصة حقيقية)، شخص يدعى (John Callahan) أو (جون كالهان)، هو رسام ساخر (تتسم أعماله بالجرأة والوقاحة أحياناً)، مؤلف وكاتب أغاني، تعرض لحادث أفقده القدرة على التحكم في جسمه، فعاش مشلولاً على كرسي متحرك، وقد كتب قصة الفيلم بنفسه (توفي عام 2010 والفيلم من إنتاج 2018)، وعرض جانب من معاناته التي تمثلت أساساً في إدمانه لشرب الخمر.

ها هنا قصة إنسانية محسومة النتائج حول الخمر وآثار شربه، هاهنا دليلٌ واضح على عظمة دين الخالق الذي يعلم ما يصلح الإنسان وما يفسده، فمن يسأل ما الحكمة ولماذا؟ من يضيق ذرعاً بما يعتقد أنها (تقييدات) فرضها عليه الدين، فليشاهد هذا الفيلم ليعلم من خلال التجربة أن هذا الدين يُصلح ويُعلي ويُقيم، يُسعد ويُرشد ويصون.

الفلم يسير بوقع هادئ غير ممل، تميز في إظهار جانب من غرابة الإنسان وعجائبيته، أظهر مدى هشاشته وضعفه، القصة جيدة ومقنعة، أما طريقة الإخراج فقد سارت في غير ترتيب زمني واحد، بل أن هنالك تنقلات بين أزمنة مختلفة، تنقلات يسهل متابعتها وربط خيوطها، وهو ما أضفى جاذبية للفيلم دونما تعقيد.

في النهاية، قد تتفق أو تختلف مع شخصية الفيلم الحقيقية، من الراجح أنك لن يعجبك ما يختزنه من أفكار وما ينتجه من أعمال على أرض الواقع، وخاصة أنه يركز في بعض أعماله على مواضيع مثيرة للجدل والخجل، وقد تعتبر أن الفلم يسوق لهذه الشخصية ويظهرها بشكل حسن، لكن إن نظرت للفلم على أنه قصة إنسانية تركز على الأحداث والنتائج بغض النظر عن الأفكار والآثار، فستكون من معجبي الفيلم -كما أنا- مع الاحتفاظ بحقك في الاختلاف مع تلك الشخصية -كما أنا أيضاً-، تلك الشخصية التي غادرتنا منذ سنوات وانتقلت إلى خالقها، ليحكم كيفما يريد ويعطي رحمته لمن يشاء.

بالنسبة لي: فقد حرك الفلم فيّ مشاعر الامتنان والحمد، الامتنان لأني صحيح البدن حر الحركة، ولأني كذلك صحيح العقل والرؤية، نعمة الله علي التي عصمتني وأبعدتني من تلك المسالك، تفاصيل أقداره الخفية التي رسمت مسار حياتي بهذه الطريقة لا بتلك. أحمد الله على هداية الإسلام، وما أعظمها من هدية.

تنبيه: الفقرات التالية قد تحتوي على حرق لبعض أجزاء الفيلم، تجاوزها حتى فقرة (التقييم الأخلاقي) وعد إلى القراءة بعد المشاهدة إن كنت تنوي ذلك.

أما مسار “جون” بطل الفيلم؛ فقد كان مأساوياً لولا أن تداركه الله برحمته، لكن كيف تجلت رحمته فيه؟ بالحادث الذي أدى به إلى الشلل، نعم كان ذلك الحادث أحد وسائل العلاج وأحد أشكال الرحمة، علاج طعمه مر لكن -وكما يبدو- كان ضرورياً كي يتغير مسار حياته ثم تؤول الأمور إلى تحسن فرصته في الحياة وبعد ذلك النجاح فيها وحسب قنوانيها، صحيح أنه لم يتوقف عن الشرب فور الحادث، بل استمر وساءت حالته أكثر، تمادى في الأمر، حتى أتت تلك اللحظة التي انهار فيها، حين وقف عارياً أمام عجزه، عجزه التام، عجزه من أن يحضر قنينة الخمر من تحت الطاولة، تلك القنينة التي أذلته طوال حياته وعاش عبداً لها وأفقدته متعة الحركة، بل الحياة برمتها.

أعتقد أنه وفي تلك اللحظة الفارقة، حينها لمع نور في قلبه، غرست نبتة في روحة، تجلى الله بلطفه ورحمته عليه، يبدو أنه أحس بالعجز التام، فاقتنع ثم امتنع ولم يشرب بعدها أبداً، لقد كانت نقطة نور من خارج أسوار الحياة، ولقد حاول الفيلم أن يظهرها بعمقها دون أن يقدر، وتحدث عنها جون نفسه في الوثائقي لكنه لم يوفق، فنقطة النور تلك عظيمة جداً لا يمكن لبيان أن يحكيها، ولا لصورة أن ترويها، نقطة النور تلك تظهر دائماً في حيوات الناس بدرجات مختلفة، إنها تجليات نورانية ربانية تغير -في غمضة عين- ما صعب علينا تغييره في أعوام.

( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ)

من المعاني الجميلة التي عرضها الفيلم وسوق لها، هي الاعتماد على الله، الخروج من الحول والقوة إلى حول الله وقوته، وحين طبق “جون” نصيحة “دوني” بأن يرمي حمولته على الله، أن يكتب مشكلته في ورقة ثم يرميها في سلة (God) أو (الإله)، بعدها تغير الحال وتحسن المآل، تمكنت الرسوميات من الخروج من بين يديه، تلك الرسوميات ثم أعجب بها طيف من الناس، ونُشرت في صحف ومجلات، ثم أصبح رساماً ناجحاً يعمل في المجال الذي يحبه.

ما أجمل تلك اللحظات التي قرر فيها “جون” أن يسامح الآخرين، وأن يطلب السماح منهم، ما أعظم روح التسامح التي تحلا بها حين ذهب لصديقة الذي تسبب في إعاقته وقال له أنه يسامحه، والأعظم من ذلك حين طلب هو منه أن يسامحه، لكن مم يسامحه وهو من تسبب في مأساته؟ يسامحه على السنوات التي قضاها بعد الحادث دون أن لقاء، فعاش معذباً بألم الضمير، لم يتمكن من الخروج من ألم الذكرى فتمرغ في وحل الشرب والخطيئة، يحاول أن ينهض وفي كل مرة يقع من جديد، فلو أنه تحرر من شعور الذنب ذاك لربما تمكن من التصالح مع نفسه وتغيرت حياته، هكذا فكر فيها “جون” طلب من صديقه أن يسامحه لأنه تركه كل هذه السنوات مقيداً بأغلال الندم والذكرى الأليمة، وهو الذي كان بإمكانه أن يحرره من أغلاله ويريح من عذابه، إن هذا المعنى العميق لجدير بأن يستوقفنا كثيراً وأن نتعلم منه أكثر.

ما لم يعجبني في الفيلم هو حشر موضوع الشذوذ فيه، وتسويقه على أنه أمر عادي، وهو الأمر الذي -للأسف- أصبح ملاحظاً في الكثير من الأفلام الأمريكية الحديثة.

أخيراً: هنالك فيديو وثائقي في اليوتيوب فيه مقابلة مع “جون” نفسه قبل أن يموت، وفيه مختصر قصته وعرض لبعض أعماله الرسومية الثابتة والمتحركة، وهنالك فيلم رسوم متحركة بصوته يعرض مختصر قصته مع الشرب والإدمان.

التقييم الأخلاقي: الفلم مقيم في imdb على أنه متوسط في ما يخص الجنس والتعري، هنالك 2 أو 3 مشاهد قصيرة غير لائقة، أيضاً يحتوي على إيحاءات جنسية في اللغة وفي بعض الرسوميات، هنالك مشاهد لشرب الخمر لكنه يقدمه على أنه أمر سلبي ومشين. لا يحتوي على مشاهد عنف.

روابط