البهجة المفعمة، والرسائل الإيجابية، في فلم ماري بوبنز

هو أحد روائع السينما المبهجة، وأحد إنتاجات ديزني المميزة، فيلم غنائي يحمل في طياته الكثير من المعاني الجميلة والرسائل الإيجابية، يستمتع به الصغير والكبير، إنه فيلم (ماري بوبنز) أو (Mary Poppins) الذي أنتج عام 1964، وأعيد إنتاجه بتحوير قليل في القصة عام 2018 تحت عنوان (Mary Poppins Returns).

عرفت هذا الفيلم عبر فيلم آخر يحكي قصة إنتاجه، إنه فيلم “إنقاذ السيد بانكس” أو (Saving Mr. Banks) الذي أدى بطولته (توم هانكس) وقام بتمثيل شخصية (والت ديزني)، ودارت الأحداث حول محاولة إقناع مؤلفة القصة الأصلية بأن يتم تحويل الكتاب إلى فيلم غنائي، وبعد محاولات عديدة ومفاوضات مديدة، وافقت على إنتاج الفيلم، لكن وفق شروط واتفاقات.

الفيلم كان مميزاً، فقد عكس في طياته بعض حياة كاتبة القصة ومعاناتها ومعاناة أبيها في الجانب المالي، ثم أتت قصة “ماري بوبنز” التي ألفتها لتكون انعكاساً لبعض أجزاء حياتها، لكن مع الكثير من الخيال، الخيال الذي يجعل النهاية سعيدة، والأحداثها شيقة.

نعود لفلم “ماري بوبنز

القصة -بدون حرق- تدور حول أسرة يعمل ربها في أحد البنوك المشهورة، ويحمل شخصية صارمة منضبطة، يتعامل في المنزل مع أسرته كما يتعامل في البنك مع موظفيه، لكن تدخل إلى حياتهم مربية لأولادهم تغير الأوضاع وتقلب الأحوال، فهي تحاول إصلاح الأمور وإعادتها إلى نصابها، بينما الأب ينظر إليها بأنها قد أتت لتفسد عليه أبناءه وتشيع الفوضى في منزله.

الفيلم من النوع الموسيقي، فالكثير من الحوارات هي ملحنة ومسجوعة، وكذلك هو فيلم خيالي، ليس خيالا علمياً لكن خيال من نوع (فانتازيا)، خيال يناسب الأطفال ولا يؤذي عقولهم.

الفيلم -رغم احتوائه على الكثير من الأغاني والرقص المحتشم- يحمل بعض الرسائل الإيجابية المهمة، وأهم رسالة يوصلها إلينا، وهي الفكرة الأساسية من الفيلم، هي طريقة تعامل الإنسان مع الحياة ومع المادة على وجه الخصوص، وأن هنالك قيم أرفع وأهم من المال والمكانة والنجاح الوظيفي، ومن تلك القيم “الأسرة”.

لقد عرفنا عبر الفيلم الذي ذكرته لكم بداية هذه المقالة، أن الكتابة كانت تعاني من مشاكل في هذا الموضوع، موضوع المال، وأن أباها قد غرس في عقلها فكرة احتقار المال، لذلك فقد أتت هذه القصة لتغذي هذه الفكرة وتبلور قناعات الكاتبة في إطار درامي.

يبدو أن والت ديزني قد وضع لمسته الخاصة على القصة، فقام بتلقيح الدراما المشبعة والرسالة الثقيلة بالكثير من المرح والبهجة، فظهر لنا هذا الفيلم حاملاً كلا الميزتين: ذو رسالة قيمة، وذو طابع مبهج.

من الرسائل الإيجابية التي يمكن للمشاهد أن يستكشفها في طيات الفيلم

  • القليل من المرح يجعل من تأديه الأعمال وتسيير الحياة أمراً ممتعاً، أشبه باللعبة
  • ليست السعادة في كثرة المال، قد يكون عامل مدخنة بسيط أسعد بكثير من مالك بنك كبير
  • تكمن السعادة في الأشياء البسيطة التي لا تكلف الكثير، في تأمل الغروب من علو، أو في الاستماع لعصافير تزقزق قرب النافذة، أو في ممارسة الهوايات المفضلة.
  • يحتاج الطفل أن يعيش طفولته، لا يجب أن تكون حياته مقيدة وصارمه ومليئة بالأعباء الثقيلة.
  • القليل من الضحك قد يجعلك تحلق عالياً، إن لم يكن بجسدك فبقلبك
  • غداً يكبر أطفالك، وتفوت على نفسك فرصة إسعادهم قبل أن يتمكنوا من إسعاد أنفسهم.

فيلم “عودة ماري بوبنز”

يمكن اعتبار فلم “Mary Poppins Returns” -والذي أنتج في 2018- أنه مكمل للأول، حيث تعود ماري بوبنز من جديد إلى نفس المنزل، لكن هذه المرة بعد أن كبر الأطفال وأصبح الولد منهم أباً لديه أطفال، أتت من جديد لتعتني بالأطفال الجديد، وقصة هذا الفيلم مشابهة لقصة الفيلم الأصلي، مع بعض التحويرات في القصة، والكثير من التغييرات في الأداء والغناء.

رغم حداثة الإنتاج، وإحكام الخدع والمؤثرات، إلا أن الفيلم الأصلي كان أقوى -من وجهة نظري على الأقل- وخاصة في الأداء والتمثيل.

لقد خلقت مؤلفة القصة شخصية “ماري بوبنز” على أنها المرأة التي تأتي لتصلح الوضع وتعيد الأمور إلى نصابها، وقد عكست بذلك شخصية خالتها أو عمتها التي كانت تفعل في حياتهم نفس الشيء، تأتي وقد حلت الفوضى في المنزل وتحاول أن تنظم وتضبط وتصلح، وهكذا، فإن في حياة كلٍ منا “ماري بوبنز” خاصة به، قريب أو صديق، ذكر كان أو أنثى، شخصية تحاول الإصلاح ما استطاعت في أي مكان تحل فيه، وتحاول بث روح الاطمئنان ونشر البسمة في أي قلب سكنت به، وما أجمل أن تكون أنت أو أنا تلك الشخصية، فنكون البلسم الذي يشفي الجراح، والدواء الذي يداوي الأوجاع.

ملاحظات:

  • هنا مقالة جيدة -في البي بي سي- عن فيلم “إنقاذ السيد بانك” وعن ملفة القصة الرئيسية
  • الفيلم هو فيلم عائلي، ليس فيه مقاطع خادشة للحياء، يحتوي على مشاهد راقصة لكنها دون إسفاف.

اطمئن، فقدماه لن توصلاه بعيداً | Don’t Worry, He Won’t Get Far on Foot

تعجبني الأفلام التي تفتح لي نوافذ أخرى، إما نوافذ معرفية، أو نوافذ لاستكشاف دواخل الإنسان وغرائب طباعة، وهذا الفيلم فعل كلا الأمرين، بل أنه زاد على ذلك بأن جعلني أكثر امتناناً لكوني مسلماً، لهذه الحياة الثرية والتجربة الفريدة التي توفرها لنا هذه الرسالة السماوية التي ضمنت لنا العيش بأرقى درجات السعادة والفلاح.

فأما النافذة الأولى (نافذة المعرفة) فهي معرفتي للشخصية التي دار حولها الفلم، (مبني على قصة حقيقية)، شخص يدعى (John Callahan) أو (جون كالهان)، هو رسام ساخر (تتسم أعماله بالجرأة والوقاحة أحياناً)، مؤلف وكاتب أغاني، تعرض لحادث أفقده القدرة على التحكم في جسمه، فعاش مشلولاً على كرسي متحرك، وقد كتب قصة الفيلم بنفسه (توفي عام 2010 والفيلم من إنتاج 2018)، وعرض جانب من معاناته التي تمثلت أساساً في إدمانه لشرب الخمر.

ها هنا قصة إنسانية محسومة النتائج حول الخمر وآثار شربه، هاهنا دليلٌ واضح على عظمة دين الخالق الذي يعلم ما يصلح الإنسان وما يفسده، فمن يسأل ما الحكمة ولماذا؟ من يضيق ذرعاً بما يعتقد أنها (تقييدات) فرضها عليه الدين، فليشاهد هذا الفيلم ليعلم من خلال التجربة أن هذا الدين يُصلح ويُعلي ويُقيم، يُسعد ويُرشد ويصون.

الفلم يسير بوقع هادئ غير ممل، تميز في إظهار جانب من غرابة الإنسان وعجائبيته، أظهر مدى هشاشته وضعفه، القصة جيدة ومقنعة، أما طريقة الإخراج فقد سارت في غير ترتيب زمني واحد، بل أن هنالك تنقلات بين أزمنة مختلفة، تنقلات يسهل متابعتها وربط خيوطها، وهو ما أضفى جاذبية للفيلم دونما تعقيد.

في النهاية، قد تتفق أو تختلف مع شخصية الفيلم الحقيقية، من الراجح أنك لن يعجبك ما يختزنه من أفكار وما ينتجه من أعمال على أرض الواقع، وخاصة أنه يركز في بعض أعماله على مواضيع مثيرة للجدل والخجل، وقد تعتبر أن الفلم يسوق لهذه الشخصية ويظهرها بشكل حسن، لكن إن نظرت للفلم على أنه قصة إنسانية تركز على الأحداث والنتائج بغض النظر عن الأفكار والآثار، فستكون من معجبي الفيلم -كما أنا- مع الاحتفاظ بحقك في الاختلاف مع تلك الشخصية -كما أنا أيضاً-، تلك الشخصية التي غادرتنا منذ سنوات وانتقلت إلى خالقها، ليحكم كيفما يريد ويعطي رحمته لمن يشاء.

بالنسبة لي: فقد حرك الفلم فيّ مشاعر الامتنان والحمد، الامتنان لأني صحيح البدن حر الحركة، ولأني كذلك صحيح العقل والرؤية، نعمة الله علي التي عصمتني وأبعدتني من تلك المسالك، تفاصيل أقداره الخفية التي رسمت مسار حياتي بهذه الطريقة لا بتلك. أحمد الله على هداية الإسلام، وما أعظمها من هدية.

تنبيه: الفقرات التالية قد تحتوي على حرق لبعض أجزاء الفيلم، تجاوزها حتى فقرة (التقييم الأخلاقي) وعد إلى القراءة بعد المشاهدة إن كنت تنوي ذلك.

أما مسار “جون” بطل الفيلم؛ فقد كان مأساوياً لولا أن تداركه الله برحمته، لكن كيف تجلت رحمته فيه؟ بالحادث الذي أدى به إلى الشلل، نعم كان ذلك الحادث أحد وسائل العلاج وأحد أشكال الرحمة، علاج طعمه مر لكن -وكما يبدو- كان ضرورياً كي يتغير مسار حياته ثم تؤول الأمور إلى تحسن فرصته في الحياة وبعد ذلك النجاح فيها وحسب قنوانيها، صحيح أنه لم يتوقف عن الشرب فور الحادث، بل استمر وساءت حالته أكثر، تمادى في الأمر، حتى أتت تلك اللحظة التي انهار فيها، حين وقف عارياً أمام عجزه، عجزه التام، عجزه من أن يحضر قنينة الخمر من تحت الطاولة، تلك القنينة التي أذلته طوال حياته وعاش عبداً لها وأفقدته متعة الحركة، بل الحياة برمتها.

أعتقد أنه وفي تلك اللحظة الفارقة، حينها لمع نور في قلبه، غرست نبتة في روحة، تجلى الله بلطفه ورحمته عليه، يبدو أنه أحس بالعجز التام، فاقتنع ثم امتنع ولم يشرب بعدها أبداً، لقد كانت نقطة نور من خارج أسوار الحياة، ولقد حاول الفيلم أن يظهرها بعمقها دون أن يقدر، وتحدث عنها جون نفسه في الوثائقي لكنه لم يوفق، فنقطة النور تلك عظيمة جداً لا يمكن لبيان أن يحكيها، ولا لصورة أن ترويها، نقطة النور تلك تظهر دائماً في حيوات الناس بدرجات مختلفة، إنها تجليات نورانية ربانية تغير -في غمضة عين- ما صعب علينا تغييره في أعوام.

( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ)

من المعاني الجميلة التي عرضها الفيلم وسوق لها، هي الاعتماد على الله، الخروج من الحول والقوة إلى حول الله وقوته، وحين طبق “جون” نصيحة “دوني” بأن يرمي حمولته على الله، أن يكتب مشكلته في ورقة ثم يرميها في سلة (God) أو (الإله)، بعدها تغير الحال وتحسن المآل، تمكنت الرسوميات من الخروج من بين يديه، تلك الرسوميات ثم أعجب بها طيف من الناس، ونُشرت في صحف ومجلات، ثم أصبح رساماً ناجحاً يعمل في المجال الذي يحبه.

ما أجمل تلك اللحظات التي قرر فيها “جون” أن يسامح الآخرين، وأن يطلب السماح منهم، ما أعظم روح التسامح التي تحلا بها حين ذهب لصديقة الذي تسبب في إعاقته وقال له أنه يسامحه، والأعظم من ذلك حين طلب هو منه أن يسامحه، لكن مم يسامحه وهو من تسبب في مأساته؟ يسامحه على السنوات التي قضاها بعد الحادث دون أن لقاء، فعاش معذباً بألم الضمير، لم يتمكن من الخروج من ألم الذكرى فتمرغ في وحل الشرب والخطيئة، يحاول أن ينهض وفي كل مرة يقع من جديد، فلو أنه تحرر من شعور الذنب ذاك لربما تمكن من التصالح مع نفسه وتغيرت حياته، هكذا فكر فيها “جون” طلب من صديقه أن يسامحه لأنه تركه كل هذه السنوات مقيداً بأغلال الندم والذكرى الأليمة، وهو الذي كان بإمكانه أن يحرره من أغلاله ويريح من عذابه، إن هذا المعنى العميق لجدير بأن يستوقفنا كثيراً وأن نتعلم منه أكثر.

ما لم يعجبني في الفيلم هو حشر موضوع الشذوذ فيه، وتسويقه على أنه أمر عادي، وهو الأمر الذي -للأسف- أصبح ملاحظاً في الكثير من الأفلام الأمريكية الحديثة.

أخيراً: هنالك فيديو وثائقي في اليوتيوب فيه مقابلة مع “جون” نفسه قبل أن يموت، وفيه مختصر قصته وعرض لبعض أعماله الرسومية الثابتة والمتحركة، وهنالك فيلم رسوم متحركة بصوته يعرض مختصر قصته مع الشرب والإدمان.

التقييم الأخلاقي: الفلم مقيم في imdb على أنه متوسط في ما يخص الجنس والتعري، هنالك 2 أو 3 مشاهد قصيرة غير لائقة، أيضاً يحتوي على إيحاءات جنسية في اللغة وفي بعض الرسوميات، هنالك مشاهد لشرب الخمر لكنه يقدمه على أنه أمر سلبي ومشين. لا يحتوي على مشاهد عنف.

روابط