صديقي الذي أخذ دوري في الطابور

سأحكي لكم قصة عجيبة شغلت تفكيري في الأيام الماضية، فكنت كلما أتذكرها أقول (فعلاً فعلاً) فما قصة هذه الــ (فعلاً)، أعيروني انتباهكم رعاكم الله، لأن العبرة منها مهمة.

سأذكر لكم أولاً موقف بسيط حدث قبل شهر، وستعرفون لاحقاً علاقته بالموضوع.

حين تسجل ابنك في المدرسة لأول سنة، فيجب عليك أن تتقدم إلى الإدارة التعليمية وتجري بعض الختومات وتسلم بعض الأوراق، وبداية كل سنة دراسية يحدث زحام في مكتب الوافدين في هذه الإدارة، لذلك نقوم بتنظيم أنفسنا، من يصل أولاً يسجل اسمه في ورقه وكلما وصل آخر سجل اسمه ثم ندخل بالدور إلى المكتب، وعادة ما يبكر المراجعون صباحاً لأخذ رقم متقدم، وهذا ما فعلته أنا، حيث وصلت هناك الساعة السابعة صباحاً في حين أن العمل في الإدارة يبدأ من الثامنة والنصف، لكن رغم تبكيري، كان هنالك اثنين قبلي، سجلت إسمي وانتظرنا جميعاً، ثم بعد ساعة ونصف، أدخلت الموظفة أول مراجع، ثم توقفت لتنجز بعض الأعمال المكتبية، وتأخرت كثيراً بينما نحن في الخارج ننتظر على أحر من الجمر، فهنالك من هو مرتبط بعمله ومن له مصالح أخرى ومن ومن ومن ….الخ

كان الدور علي، وكنت أقف خلف الباب مباشرة أنتظر إشارة الانطلاق، لكن فجأة ظهر رجل من حيث لا ندري واندفع داخلاً إلى المكتب، نويت أن أدافع عن حقي في الطابور بكلمات لطيفة لكنه لم يدع لي فرصة للتحدث، لم ينظر إلي أو يعير أحداً اهتمامه، حاول قلبي التماس العذر، فقد بدا وهو يلبس الثوب أنه جديد في هذه البلد، ولم يتعود الالتزام بالطوابير والنظام، لكن عقلي لم يطاوعني، وليس هذا بسبب أخذه لحقي في الطابور، فلن يضر من انتظر ساعات أن ينتظر دقائق إضافية، لكن أكثر ما غاضني هو التصرف نفسه، حين لم يحترم الآخرين الواقفين والجالسين.

المهم، هو موقف عابر من مواقف هذه الحياة، لم أكن لأذكره هنا لولا ما حدث قبل يومين.

اتصل بي قبل أمس أحد اليمنيين الذين أعرفهم، وطلب مني أن أحضر كي نساعد أحد اليمنيين الآخرين في إنجاز أمر من الأمور، لن أدخلكم في تفاصيل هذا الأمر كي لا أضيع وقتكم الثمين، لكن الشاهد هو أني حين وصلت وتعرفت على هذا الشخص، بدأنا نتجاذب أطراف الحديث، لم يكن وجهه غريباً علي، لقد رأيته سابقاً لكني لم أتذكر أين.

حكى لي هذا الأخ (صديق صديقي) عن أشياء كثيرة، ومما حكى لي أنه قد تعود أن لا يلتزم بالطوابير، دائماً يأتي مباشرة وينطلق صوب الباب دون أن ينظر إلى أحد، وأنه يتبع استراتيجية (التغاضي والتطنيش)، يصيح الناس ويعترضون فيتظاهر بعدم سماعهم أو عدم فهمهم، لقد تعود أن يُدخِل كلماتهم من أذن ويخرجها من الأذن الاخرى، فمهما يقولون من كلام فلن يضره الكلام بشيء، هو مجرد كلام، المهم أنه ينجز عمله بسرعة وبدون انتظار، ثم حكى لي بعض الشواهد، فقد قضى معاملة في المكان الفلاني بسرعة، وقد أنجز أوراقاً في المصلحة الفلانية في آخر الدوام دون انتظار، وقد وقد …الخ

ثم حكى لي أنه أنجز معاملة أولادة في الإدارة التعليمية دون أن ينتظر أي طابور، لقد أتى متأخراً ودخل مباشرة وفعل كما يفعل كل مرة، وفي هذه اللحظة، وأنا أنظر إلى وجهه، تذكرته يقيناً، وعرفت أنه الشخص الذي أكل حقي في الطابور، حين دخل قبلي وأثار حنقي وغيضي، فابتسمت وأخبرته بهدوء أنني كنت هناك وأنني الشخص الذي كنت واقفاً عند الباب.

لم تنتهي القصة هنا، وليست هذه هي العبرة.

المهم، انقضت أكثر من ساعة ولم يتم إنجاز ذلك الأمر الذي اجتمعنا من أجله، وهو أمر بسيط يتم إنجازه بالعادة في عشر دقائق، لكن كان هنالك (عرقلة) أو إعاقة من شخص آخر، ثم اتفقنا أن نلتقي في اليوم التالي (يوم أمس) لإتمام إنجاز ذلك الأمر (البسيط والسريع) وقد ذهبت في العصر إلى هناك، ثم حاولنا إنجاز الأمر، فظهرت مشكلة أخرى لم تكن في الحسبان، مشكلة بسيطة أعاقت إنجاز الأمر، ثم مر الوقت حتى انتهى الدوام وأغلق المكتب أبوابه دون أن يتم إنجاز الأمر، ورحلت وأنا منزعج، ثم تأملت في نفسي أثناء عودتي وقلت:

سبحان الله، هذا الأمر البسيط الذي لا يستغرق سوى بضع دقائق، كيف أنه قد تعثر في اليوم الأول، ثم اليوم الثاني كذلك، أكيد أن هنالك سر، ثم مباشرة لمعت الفكرة في رأسي، وعرفت ماهي الحكمة والدرس الذي ربما لم يفهمه هذا الأخ الفاضل، الرسالة التي وجهتها الأقدار إليه، لكنه لم يكلف نفسه لفتحها وقراءتها، فهو كما ذكرنا، يستخدم أسلوب التغافل والتطنيش، فغفل عن هذه الرسالة -كما كان يغفل عن أصوات المراجعين والمنتظرين الذين أخذ حقهم في الطابور-، وكأن الأقدار توجه له ولي وللجميع رسالة مفادها:

“يا أيها الإنسان المسكين، يا من يتحايل في الطوابير ليكسب من وقته ساعة أو ساعتين، هاأنت ذا تتأخر يوم ويومين، ولو جلست مع نفسك وتذكرت سجل حياتك، ثم تأملت كم مرة تعرقلت وتعثرت، كم مرة سعيت في طريق ثم فشلت، كم مرة ظهرت لك المشاكل من تحت التراب وأنت لا تدري ما هي الأسباب، إن الأسباب واضحة لكنك لا تراها، إنه القضاء العادل، تتحايل على عباد الله في أمور بسيطة، فتتحايل عليك الأقدار وتؤدي بك إلى عراقيل كبيرة.”

أريد أن أوجه رسالة لطيفة إلى هذا الأخ الكريم، الذي جمعتني الأقدار به صدفه، وقد لا نجتمع مرة أخرى، فقد رأيت أنه من واجبي أن أقدم النصح، وأن أستخرج الفائدة والعبرة من هذا الموقف لنتعض جميعاً ونستفيد.

أخي الكريم، حين عاتبتك على هذا الأمر قبل يومين، بررت لي موقفك بـ(أن الوضع ما يمشي إلا هكذا) وأن (هكذا هي الحياة وهذا هو الواقع).

لا يا أخي هذا ليس مبرر، نحن في اختبار في هذه الدنيا، لقد خلق الله الحياة والموت أساساً (لينظر أينا أحسن عملا) وتأمل أول سورة الملك وستجد الكلام واضحاً، لا تقل لي: هنالك من يتعامل بالوساطة وهنالك من يقدم الرشوة وهناك وهناك، أنت مكلف بنفسك يا أخي، الله يريد منك أنت أن (تحسن عملا) في كل شيء صغير أو كبير، سواءً كان في طابور في مصلحة حكومية أو في قضية أخرى كبيرة.

أريد أن ألفت انتباهك إلى نقطة: أن هذا الأمر (الحقير في نظرك) هو عظيم وخطير، لأنه متعلق بالعدل، والعدل أمر مهم جداً جداً، يكفي أن تقرأ في سورة الحديد قول الله (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الله يقول أنه أرسل الرسل من أجل أن يقوم الناس بالقسط، وكأن العدل والقسط هو الغاية والهدف من إرسال الرسل والكتب السماوية، أن تكون مقسطاً وعادلاً ولو على نفسك وعلى مصلحتك.

تخيل معي: لو أن موظفاً حكومياً أخذ إذناً بالتأخر مدة ساعتين في الصباح كي يذهب لإتمام أوراق ابنه في الإدارة، وقد وصل مبكراً جداً وانتظر مع البقية حتى يصل دوره، ثم أصبح الوقت المتبقى هو ما يكفي بالكاد ليتم معاملته ويعود إلى عمله قبل انقضاء وقت الإذن، فأتيت أنت ودخلت مباشرة وتجاهلت الكلام والصياح، فتمكنت عبر مهاراتك الذكية أو عبر كلامك المعسول، أو حتى عبر فلوسك التي تدسها خلسة في يد الموظف، تمكنت من الدخول قبل الجميع، فسببت في تأخر الآخرين ربع ساعة كاملة، ثم أتى دور هذا الموظف وانتهى وعاد إلى عمله لكنه كان قد تأخر ربع ساعة (هي التي سرقتها أنت من وقته)، ثم وصل وكان المدير غاضباً، فعاقبه بخصم قسط من راتبه.

أرأيت، كيف يمكن لهذا الفعل الصغير أن يُحدِث هذا الأثر الكبير، فهل تكون بهذا قد أكلت بعض ماله وتسببت في ظلمه، قف مع نفسك وتأمل، واقرأ ما يسمونه بــ (تأثير الفراشة) كي تعلم أن هذا ممكنٌ وقوعه.

المهم، كانت هذه كلماتي التي اعتلجت في صدري، أطلقتها لمن أراد أن يعتبر من هذا الموقف البسيط، فقد جعلني الله شاهداً على بعض أقداره وحكمته، وإني لأتعجب وأستمر في التعجب، وأقول في نفسي (فعلاً فعلاً) حين أتأمل هذا الموقف: تجازوني شخص في الطابور وأخذ حقوق الرجال والنساء الواقفين، ثم إذا بي أقابله بعد شهر وأشهد كيف تعرقلت في وجهه معاملة بسيطة، معاملة ينجزها الناس في ربع ساعة، فأخذت منه ثلاثة أيامٍ كاملة.

تحديث/ ثم التقيت به في اليوم الثالث لإكمال المعاملة، ويا للعجب كيف ظهرت عرقلة جديدة من تحت التراب، حاولنا وذهبنا وعدنا وترجينا الموظفين لكن دون جدوى، ثم في آخر الوقت، بعد أن كدنا نستسلم لليأس، همست في أذنه ونحن ننتظر، وقلت: دعنا نتوب أنا وأنت في سرنا ونستغفر الله بصدق علّ الله يقضي حاجتك وننهي هذا الأمر الذي طال وأرهق أعصابنا، فتبنا إليه واستغفرناه، فانفرجت الكربة، وانحلت المسألة، وتم الأمر على خير ما يرام، فلله الحمد والمنة، كم نتعلم من دروس في هذه الحياة، وكم يربينا عبر المشاكل والمصائب، ونسأله تعالى أن يبصر قلوبنا لعيوب أخلاقنا، وأن يهدي عقولنا لمعرفة رسائله إلينا، إنه عظيم كريم.

مراجعة وتلخيص لكتاب: صور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي

كنت أسمع عن الشيخ علي الطنطاوي ولم أكن قد قرأت لها كتاباً كاملاً، إلى أن قررت أن أقتحم سور مؤلفاته وأدخل عتبة باب عقله، ولقد كان دخولاً مباركاً، لأنه كان من باب كتاب (صور وخواطر) فهو الكتاب الذي تشعر معه بالقرب من هذه الشخصية، فهي مقالات مختارة تقترب بك تارة وتوصلك إلى أعماق نفسه، وتبتعد بك تارة أخرى فتجول بك عبر أحداث أصبحت اليوم تاريخاً مضى.

لقد أحببت الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- بسبب هذا الكتاب، وأحسست أثناء قراءته بالقرب منه، فكأني صديق أسامره أو قريب أسمع منه بعض تفاصيل حياته، وأعتقد أن أي قارئ لهذا الكتاب سوف يشعر بنفس الشعور، لأن الشيخ في هذا الكتاب يشارك القارئ بعض تجاربه في الحياة، بل يغوص أكثر ليشارك معنا بعض حواراته مع نفسه وأفكاره التي تجول في خاطره، وتجد وأنت تقرأ الكتاب نوعاً من الصدق والصراحة، فهو حديث لا يقوله عادة كاتب في كتاب، بل يفضي به شخصٌ إلى صديقه المقرب.

الكتاب مكون من مقالات منفصلة، متوسطة في الحجم، والشيخ علي الطنطاوي هو أديب قبل أن يكون مفكر إسلامي أو داعية أوشيخ، لذلك فأنت تشعر بحلاوة وأنت تقرأ كتاباته، أيضاً هنالك قوة في الصياغة وجزاله في استخدام اللغة، لكن مع سهولة وسلاسلة، يمكن للقارئ العادي أن يقرأ بسرعة دون أن توقفه صعوبة الكلمات (إلا نادراً).

المقالات هي مما تم نشره في المجلات التي كان يكتب فيها الشيخ، وبعضها مما كان موجهاً للإذاعة، وأخرى بدون تحديد، والكثير من هذه المقالات قد حددت السنة التي نشرت فيها، فهنالك مقالات قد نشرت في الثلاثينيات (من القرن الماضي) وهنالك مقالات نشرت في الستينيات، وهذا يدل على أن الكتاب قد احتوى بعضاً من أبرز المقالات التي كتبها الشيخ على مدى ثلاثين عاماً.

يستفتح الكتاب بمقالة (عام جديد) وفيها موعظة مؤثرة عن الحياة التي تنقضي سنونها عاماً بعد عام، وتأتي مقالة (تسعة قروش) التي يحاول فيها الكاتب تحويل المشاعر إلى كلمات، وأنّا له ذلك، فيتحدث عن موقف صغير حدث له مع أطفال في الحارة، ثم كيف غمرته السعادة التي اشتراها بتسعة قروش فقط، أما مقالة (القبر التائه) فهي قطعة أدبية راقية، وليست تحكي عن الموت كما قد يدل اسمها، بل عن الحب وعن حال العشاق، فالقبر التائه إنما هو لأحد قتلى الحب الذي يقف عند صخرة في أحد شواطئ بيروت، ويبدو أن الشيخ علي قد كتب المقالة وهو في لبنان أثناء عمله فيها، وهذه المقالة ليست الوحيدة عن الحب، إنما له مقالة أخرى أتت متأخرة في الكتاب ومتأخرة في حياته أيضاً، هي مقالة (عن الحب) وقد تميزت الثانية عن الأولى بفلسفتها، والأولى عن الثانية بأدبيتها.

في الكتاب عدة مقالات تغوص بنا في عمق نفس الشيخ الطنطاوي، فهي -كما هو عنوان الكتاب- عبارة عن خواطر، لكن طبعاً ليست كأي خواطر، بل خواطر أديب ومفكر، من أمثلة ذلك مقالة (في الليل) وكذلك (بيني وبين نفسي) و (يوم مع الشيطان)، وأيضاً مقالة تعكس بعض صراعات المؤلف الداخلية وخلجات نفسه الدفينة، باسم (بين الطبيعة والله) يتحدث فيها عن أحلامه التي ما تحققت، وعن آماله التي طالت، ويبدو أن كتابتها قد كان في وقت ضبابي صعب بالنسبة للمؤلف، وهي مقالة تجمع بين مصارحة النفس وتفلسف العقل، وتعتبر من المقالات الطويلة نسبياً في الكتاب، والحقيقة أنها مما أعجبني لأنها قربتني من الكاتب أكثر.

ويعود بنا الشيخ عبر مركب ذكرياته إلى زمنه الماضي، فيتذكر أحداثاً ويبدع أدباً، كما في (زورق الأحلام) وكذلك مقالة (رقم مكسور) والتي من خلالها نتعرف على بعض أحداث الماضي، وخاصة نهاية الحكم العثماني لسوريا، وهو في (وقفة على طلل) يبكي على الأطلال ويقف عند الذكريات، ذكريات دراسته وصباه في شوارع دمش العتيقة. وهنالك مقالة لطيفة بعنوان (وحي الصورة) حيث يجد صورة له وهو صغير فيجري حواراً افتراضياً مع نسخته القديمة.

من المقالات الجميلة (كتاب تعزية)، وهي عبارة عن رد على امرأة ماتت ابنتها ثم بعثت للشيخ برسالة تبث فيها بعض أحزانها، فرد عليها بكلام جميل بليغ من أروع ما تسمع في أدب التعزية ومواساة من فقدوا أحبابهم، وقد كتب في هذه المقالة فقرة تكتب بماء الذهب، ينبغي لكل كاتب أو مؤلف أن يتخذها شعاراً له، قال رحمه الله:

“إن كتابك على عامية ألفاظه، وعلى أنه ليس فيه كلمة صحيحة، لا في رسمها ولا في إعرابها، أنه على هذا كله- قطعة فنية، قليل أمثالها.
إنك استطعت أن تستنزلي به الدمع، من عيون طائفة من أعلام الأدب، وكم من الشعراء الذين يرثون، فلا يستقطرون قطرة من دمع قارئ أو سامع، لأنهم ما بكوا لما نظموا.
ذلك ليعلم طلاب الأدب، أن الذي يخرج من القلب هو الذي يقع في القلب، وأن من يمتلكه المعنى الذي يكتب فيه، هو الذي يمتلك به الذين يقرأونه، أما الذي ينحت الألفاظ من أعماق القاموس بالمعول، ليكومها على الورق بالمجرفة، فهو (عامل) في إصلاح الطرق وليس صائغاً لجواهر الكلام.
ولست أدعو إلى العامية، ولا إلى نبذ البلاغة، وإهمال القواعد، معاذ الله، ولكن أدعو إلى امتلاء النفس بالفكرة قبل تحريك القلم على القرطاس.”

هنالك مقالات هي رسالات يوجهها إلى شخص أو لشريحة من الناس، مثل رسالته إلى تلميذه وأخيه الذي يحبه في الله، والذي حصل على منحة دراسية للدراسة في باريس، وقد عنونها بـ (إلى أخي النازح في باريز)، كذلك رسالتين لأبناء وبنات المسلمين، واحدة للشباب والثانية للبنات، فأما التي للشباب (يا ابني) فقد كانت رداً لرسالة شاب في السابعة عشر يشتكي فيها من مشكلة الشهوة والغريزة، فيجيب عليه بكلام رائع، وأعطاه فيها حلولاً عملية، وأما الثانية (يا ابنتي) فقد انتشرت في حينه انتشاراً واسعاً، وفيها يوجه كلاماً أدبياً راقياً إلى بنات المسلمين، ينصح بلغة أبوية حميمية رقيقة، وقد قال في مطلعها:

يا ابنتي؛ أنا رجل يمشي إلى الخمسين، قد فارق الشباب وودع أحلامه وأوهامه، ثم إني سحت في البلدان، ولقيت الناس وخبرت الدنيا، فاسمعي مني كلمة صحيحة صريحة من سني وتجاربي، لم تسمعيها من غيري. لقد كتبنا ونادينا ندعو إلى تقويم الأخلاق، ومحو الفساد وقهر الشهوات حتى كلت منا الأقلام، وملت الألسنة، وما صنعنا شيئاً، ولا أزلنا منكراً، بل إن المنكرات لتزداد، والفساد ينتشر، والسفور والحسور والتكشف تقوى شرته، وتتسع دائرته، ويمتد من بلد إلى بلد، حتى لم يبق بلد إسلامي (فيما أحسب) في نجوة منه، حتى الشام التي كانت فيها الملاءة السابغة، وفيها الغلو في حفظ الأعراض، وستر العورات، قد خرج نساؤها سافرات حاسرات، كاشفات السواعد والنحور.

والصراحة أن غصة قد علقت في حلقي حين قرأت هذه العبارة: ( لقد كتبنا ونادينا ندعو إلى تقويم الأخلاق، ومحو الفساد وقهر الشهوات حتى كلت منا الأقلام، وملت الألسنة، وما صنعنا شيئاً، ولا أزلنا منكراً) لأني أدركت أن الشيخ وأمثاله قد وُجِدوا في زمن صعب، كانوا يحاربون في معركة الأخلاق والعفة بدون معونة أو سند، متسلحين بأدوات قديمة يواجهون تياراً عارماً في ظروف احتلال وتغيرات دولية كبيرة، وانسياح ثقافي ودوامات فكرية عاتية، وتذكرت مأساة كل مصلح وداعية، تذكرت كل مجدد يريد لأمته الرفعة والعلياء فيعمل بدون كلل فلا يكون نتيجة عمله إلى مزيداً من تدهور، فتكاد تذهب نفسه حسرات، وهذا يقودنا إلى تذكر حياة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، المصلح الأول والداعية الأعظم، قال تعالى: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات).

هنالك أيضاً مقالات ذات طابع أدبي صرف، منها (حلم في نجد) التي تجد فيها الكثير من أبيات الشعر في حب نجد، وقد رتبها بأسلوب أدبي ذو طابع قصصي، وما دمنا نتحدث عن القصص، فلا يمكن أن نتجاهل قصتين يتحدث فيهما الشيخ عن أعرابي قح كان قد تعرف عليه أثناء سفره، ولم يكن قد دخل المدن ولا تلوث بحداثتها، ثم يحكي ما حصل له عندما دخل الحمام البخاري (التركي)، وهذا كان عنوان مقالة (أعرابي في حمام)، وفي قصة أخرى يحكي ماذا حصل له حين دخل السينما، وهما قصتين طريفتين من وحي خيال الكتاب كما يبدو، ثم أتبع ذلك بمقالة (الأعرابي والشعر) والتي كنت قد صدقتها في البداية، ثم صرح أنها من وحي خياله، وفيها يطوف المؤلف بالشعر والأدب وينقد ويحلل.

هنالك مقالات فكرية، فيها رأي المؤلف حول بعض القضايا والأفكار، منها مقالة (لا أؤمن بالإنسان) التي كتبها رداً على كتاب بعنوان (اومن بالإنسان) للاستاذ عبدالمنعم خلاف، وقد حملني هذا على أن أبحث عن الكتاب الأصلي، فوجدته في الانترنت بنسخة قديمة، ثم وجدت للمؤلف مقالة بنفس العنوان في مجلة الرسالة القديمة. وكذا مقالة جميلة في تبيان موضوع القَدَر بعنوان (حكمة القدمر).

من مقالات الرأي والفكر أيضاً، والتي يظهر فيها الأسلوب النقدي والهجومي للشيخ، مقالة (نداء إلى أدباء مصر)، حيث يتحدث فيها عن جبران خليل جبران وعن الكتاب الذي ألفه (ميخائيل نعيمه) وفيه سيرة جبران الذاتية، وفي المقالة انتقادات قوية موجهة إلى مؤلفات جبران، وقد قاده الموضوع إلى التحدث عن مسألة الفن وعلاقتها بالقيم والأخلاق والفضيلة. وهنالك مقالة مشابهة بعنوان (نحن المذنبون) يعرب فيها المؤلف عن انتقاداته وآرائه بعد أن قرأ ترجمة (اللورد بيرون)، وهو ينتقد السماح بنشر الكتب التي تنشر الفسوق والرذائل، وقد تحدث أيضاً عن أحد كتب توفيق الحكيم وعنه شخصياً في موضع النقد.

أفضل المقالات التي أعجبتني

هنالك مقالات برزت وتمزيت، منها مقالة (شهيد العيد) الذي يحتوي على حبكة قصصية جميلة في نهايتها، ومقالة (اعرف نفسك) التي هي غوص في أعماق النفس بلغة أدبية فلسفية راقية، أما مقالة (مجانين) فقد ذكر فيها المؤلف بعض الأخبار والنوادر العجيبة لأناس مشاهير وشخصيات لها وزنها في المجتمع، وسرد قصص ومواقف محرجة حدثت لهم، ثم يتساءل: ماهو الجنون ومن هو المجنون؟

أما مقالة (أنا والإذاعة) فهي أكثر مقالة لطيفة طريفة، لا يمكن إلا أن تبتسم وأنت تقرأها إن لم ترغمك فقراتها على الضحك، يتحدث عن نفسه وكأنه يدخل الإذاعة لأول مرة، وما يشاهد من غرائب وعجائب، ثم يختمها بطرفة تعبر عن روحه الخفيفة.

وقد أعجبني أيضاً ما كتبه عن الحب، وخاصة المقالة الأخيرة المعنونة بـ (في الحب)، ففيها كلاماً بليغاً وفلفسة عميقة.

أما المقالة التي حازت على المركز الأول من وجهة نظري، والتي تركت أثراً قوياً في أعماق نفسي، فقد كانت (مرثية غراي) وقد ترجمها بكلماته من الأدب الانجليزي، قال عنها (تعد هذه المرثية من أبلغ المراثي في الشعر الانكليزي، قرأها علي صديقي الاستاذ حيدر الركابي فنقلتها إلى العربية كما فهمتها) وقد بحثت عن هذه المرثية فوجدت أصلها ووجدت ترجمة لها في أحد كتب الدكتور عبدالوهاب المسيري، ثم اكتشفت أن الشاعرة نازك الملائكة قد ترجمتها شعراً، بل أن هنالك شعرٌ آخر يترجم هذه المقطوعة، وحسب ما عرفت أن الشيخ الطنطاوي هو أول من نقلها إلى العربية (كما ذكره حفيدة مجاهد)، وأن مجلة الرسالة قد نشرت عن ترجمة الشاعر في أحد أعدادها القديمة سنة 1936م

وهكذا نكون قد اتممنا -بحمد الله- عرض هذا الكتاب عرضاً مجملاً وتخليصاً مقتضباً، وتم تعريف كل مقالة وعن ماذا تحكي، وفي الأعلى عناوين أغلب المقالات، ودليلاً موضوعياً يستفيد منه كل من يريد مقالة بعينها، أو موضوع محدداً، فلله الحمد أولاً وأخيراً، وله الفضل دائماً وأبداً.

عمر الحمدي / 14 أكتوبر 2020

البهجة المفعمة، والرسائل الإيجابية، في فلم ماري بوبنز

هو أحد روائع السينما المبهجة، وأحد إنتاجات ديزني المميزة، فيلم غنائي يحمل في طياته الكثير من المعاني الجميلة والرسائل الإيجابية، يستمتع به الصغير والكبير، إنه فيلم (ماري بوبنز) أو (Mary Poppins) الذي أنتج عام 1964، وأعيد إنتاجه بتحوير قليل في القصة عام 2018 تحت عنوان (Mary Poppins Returns).

عرفت هذا الفيلم عبر فيلم آخر يحكي قصة إنتاجه، إنه فيلم “إنقاذ السيد بانكس” أو (Saving Mr. Banks) الذي أدى بطولته (توم هانكس) وقام بتمثيل شخصية (والت ديزني)، ودارت الأحداث حول محاولة إقناع مؤلفة القصة الأصلية بأن يتم تحويل الكتاب إلى فيلم غنائي، وبعد محاولات عديدة ومفاوضات مديدة، وافقت على إنتاج الفيلم، لكن وفق شروط واتفاقات.

الفيلم كان مميزاً، فقد عكس في طياته بعض حياة كاتبة القصة ومعاناتها ومعاناة أبيها في الجانب المالي، ثم أتت قصة “ماري بوبنز” التي ألفتها لتكون انعكاساً لبعض أجزاء حياتها، لكن مع الكثير من الخيال، الخيال الذي يجعل النهاية سعيدة، والأحداثها شيقة.

نعود لفلم “ماري بوبنز

القصة -بدون حرق- تدور حول أسرة يعمل ربها في أحد البنوك المشهورة، ويحمل شخصية صارمة منضبطة، يتعامل في المنزل مع أسرته كما يتعامل في البنك مع موظفيه، لكن تدخل إلى حياتهم مربية لأولادهم تغير الأوضاع وتقلب الأحوال، فهي تحاول إصلاح الأمور وإعادتها إلى نصابها، بينما الأب ينظر إليها بأنها قد أتت لتفسد عليه أبناءه وتشيع الفوضى في منزله.

الفيلم من النوع الموسيقي، فالكثير من الحوارات هي ملحنة ومسجوعة، وكذلك هو فيلم خيالي، ليس خيالا علمياً لكن خيال من نوع (فانتازيا)، خيال يناسب الأطفال ولا يؤذي عقولهم.

الفيلم -رغم احتوائه على الكثير من الأغاني والرقص المحتشم- يحمل بعض الرسائل الإيجابية المهمة، وأهم رسالة يوصلها إلينا، وهي الفكرة الأساسية من الفيلم، هي طريقة تعامل الإنسان مع الحياة ومع المادة على وجه الخصوص، وأن هنالك قيم أرفع وأهم من المال والمكانة والنجاح الوظيفي، ومن تلك القيم “الأسرة”.

لقد عرفنا عبر الفيلم الذي ذكرته لكم بداية هذه المقالة، أن الكتابة كانت تعاني من مشاكل في هذا الموضوع، موضوع المال، وأن أباها قد غرس في عقلها فكرة احتقار المال، لذلك فقد أتت هذه القصة لتغذي هذه الفكرة وتبلور قناعات الكاتبة في إطار درامي.

يبدو أن والت ديزني قد وضع لمسته الخاصة على القصة، فقام بتلقيح الدراما المشبعة والرسالة الثقيلة بالكثير من المرح والبهجة، فظهر لنا هذا الفيلم حاملاً كلا الميزتين: ذو رسالة قيمة، وذو طابع مبهج.

من الرسائل الإيجابية التي يمكن للمشاهد أن يستكشفها في طيات الفيلم

  • القليل من المرح يجعل من تأديه الأعمال وتسيير الحياة أمراً ممتعاً، أشبه باللعبة
  • ليست السعادة في كثرة المال، قد يكون عامل مدخنة بسيط أسعد بكثير من مالك بنك كبير
  • تكمن السعادة في الأشياء البسيطة التي لا تكلف الكثير، في تأمل الغروب من علو، أو في الاستماع لعصافير تزقزق قرب النافذة، أو في ممارسة الهوايات المفضلة.
  • يحتاج الطفل أن يعيش طفولته، لا يجب أن تكون حياته مقيدة وصارمه ومليئة بالأعباء الثقيلة.
  • القليل من الضحك قد يجعلك تحلق عالياً، إن لم يكن بجسدك فبقلبك
  • غداً يكبر أطفالك، وتفوت على نفسك فرصة إسعادهم قبل أن يتمكنوا من إسعاد أنفسهم.

فيلم “عودة ماري بوبنز”

يمكن اعتبار فلم “Mary Poppins Returns” -والذي أنتج في 2018- أنه مكمل للأول، حيث تعود ماري بوبنز من جديد إلى نفس المنزل، لكن هذه المرة بعد أن كبر الأطفال وأصبح الولد منهم أباً لديه أطفال، أتت من جديد لتعتني بالأطفال الجديد، وقصة هذا الفيلم مشابهة لقصة الفيلم الأصلي، مع بعض التحويرات في القصة، والكثير من التغييرات في الأداء والغناء.

رغم حداثة الإنتاج، وإحكام الخدع والمؤثرات، إلا أن الفيلم الأصلي كان أقوى -من وجهة نظري على الأقل- وخاصة في الأداء والتمثيل.

لقد خلقت مؤلفة القصة شخصية “ماري بوبنز” على أنها المرأة التي تأتي لتصلح الوضع وتعيد الأمور إلى نصابها، وقد عكست بذلك شخصية خالتها أو عمتها التي كانت تفعل في حياتهم نفس الشيء، تأتي وقد حلت الفوضى في المنزل وتحاول أن تنظم وتضبط وتصلح، وهكذا، فإن في حياة كلٍ منا “ماري بوبنز” خاصة به، قريب أو صديق، ذكر كان أو أنثى، شخصية تحاول الإصلاح ما استطاعت في أي مكان تحل فيه، وتحاول بث روح الاطمئنان ونشر البسمة في أي قلب سكنت به، وما أجمل أن تكون أنت أو أنا تلك الشخصية، فنكون البلسم الذي يشفي الجراح، والدواء الذي يداوي الأوجاع.

ملاحظات:

  • هنا مقالة جيدة -في البي بي سي- عن فيلم “إنقاذ السيد بانك” وعن ملفة القصة الرئيسية
  • الفيلم هو فيلم عائلي، ليس فيه مقاطع خادشة للحياء، يحتوي على مشاهد راقصة لكنها دون إسفاف.

من شرفتي الصغيرة

مربعة الجدران، مفتوحة على السماء، تسمح لمن يستلقي في أحضانها بمشاهدة السحب الصغيرة وهي تداعب القمر، هي الشرفة (البلكونة) الصغيرة التي تسمح للشمس بالمكوث فيها ساعات عديدة كل يوم، على عكس أختها الكبرى، والتي لا تسمح للشمس إلا بساعة من نهار، تطل في خجل وما تلبث أن تغرب قبل غروبها.

هائنذا أستلقي بعد أن نام الجميع، وبعد أن أطفئت الأنوار في الداخل، لم يبقى إلى نور السماء الذي لا يكاد يضيء شيئا من هذه العتمة، وأشعة ساطعة تخرج من شاشة الحاسوب الذي أطقطق على أزراره محاولاً صياغة هذه الكلمات، مادٌ لأرجلي التي لا تستطيع التمدد في هذا المربع الصغير، متكئ على وسادتي التي أصبحت نزيلة دائمة في هذا المكان الحي، وكأني بها وهي تشكرني صباح مساء أن بوأتها هذه المنزلة السامية واخترت لها مكان إقامة في الهواء الطلق.

صوت طفل يبكي، همهمات أمٍ مع أولادها، رجل يمشي فيحدث ضجيجاً بقدميه، باب يغلق، صوت شاحنة مزعجة تمر في الشارع القريب، أصوات خفيفة متداخلة تندمج مع سكون الليل المهيب لتصنع لوحة فنية تراها جميع الحواس، العين والأذن مع الأنف الذي يستنشق نسيم الهواء البارد في ليلة صيفية هادئة.

إنها لحظات الهدوء والانسجام التام، الغياب في بحار النسيان دون أن يعكر مزاجك تفكير أو تذكير، الغوص في اللاشيء والحديث بدون كلام، إنه صمت العقل الذي يرهقك كل ساعة بألف فكرة وفكرة، لكنه حين يأتي هنا يصمت مذهولاً من قوة الشعور، إنه بسمة القلب وانبساط الروح، إنه النعيم الذي لا يعادله نعيمٌ دنيوي، نعيمٌ سهل المنال، لا يكلف الكثير، فالسماء متاحة بالمجان، والليل يعطي الجميع دون جدال، أما نسمات الهواء فهي تدخل كل دار دون استئذان.

من شرفتي الصغيرة أحدثكم، معذرة، بل أنا صامت لا أتحدث، إنما أحاول ترجمة الكلام، رغم أني مترجمٌ سيء، أحاول نقل حديث الروح وهمسات المشاعر، أحاول يائساً تحويل الشعور إلى كلمات، ولا يتم ذلك إلا بالمرور بقنطرة العقل، وقد أزعجته حقاً، هذا العقل المسكين، فهو لا يريد العمل في هذه الأثناء، فهي فترته الذهبية كي يهدأ ويستريح، يصيح في قائلاً، ألا دع الكتابة واتركني جانباً، دع اللحظة تغمرنا بجلالها، دع السكينة تبهجنا بجمالها، دع الليل يسكب علينا من خشوعه الغامر.

أيها العقل اللبيب، أستميحك عذراً وأطلب منك طمعاً أن تأذن لي بإزعاجك شيئاً يسيراً في بعض حين، أن أخرجك من حالتك السرمدية إلى مهارتك الذكية، كي نكتب بعض السطور الألمعية، في بعض الليالي التي نجلس فيها هاهنا، في هذه الشرفة الصغيرة، كي أدون بعض الأخبار، وأوثق بعض الأفكار، فكما ترى، لم يبقى إلا القليل قبل أن نرحل، وفيك الكثير مما يود أن يظهر، دون بعض ما فيك كلما غمرك حضور الليل الجليل.

وافق العقل بعد هنيهات من تفكير، سيتعاون معي لأكتب بعض اليوميات والخواطر، ويودع في هذه المقالات ما يلح من حكم المواقف ومنوعات المآثر.

كان معكم عمر، من شرفته الصغيرة، دمتم في خير، وإلى اللقاء

شغف القراءة، وتفتح أزهار الحياة

يعرف اليوتيوب (بسبب خوارزمياته الذكية) أني أحب الاستماع للمفكر الراحل (عبدالوهاب المسيري) لذلك فلا يمر يوم إلا ويرمي أمامي أحد الفيديوهات القديمة له من دهاليز اليوتيوب التي لا يعلم وسعها إلا قلة من البشر، والحقيقة أني رغم ممانعتي الشديدة لكل ما يضيع الوقت ويسرق دقائقي الثمنية، إلا أني أستسلم دائماً للمسيري، فأنا أحب أن أستكشف عقلية هذا المفكر الكبير، وعمق نظرته للأشياء.

المسيري مفكر كبير، له كتب منشورة، ولازلت أمني نفسي أني -يوماً ما -سأقرأ بعضها أو معظمها، والرافعي أديب كبير، بدأت قبل أيام بقراءة وحي قلمه وتذوق عذب كلماته، أما تولستوي فما أن بدأت رحلتي في بعض قصصة، حتى انفتحت شهيتي للمزيد، أما رائعة الأديب الكبير (فكتور هوجو) البؤساء، فلقد غمرتني القصة بالدهشة حين شاهدت الفيلم الذي أنتج عنها في 2012، فكيف بين وأنا أقرأ الرواية، أما المفكر الجميل (مصطفى محمود) فقد عشت أجمل الأيام حين كنت أقرأ كتبه الصغيرة التي كانت تمتع عقلي وتداعب فكري قبل سنوات، ولازلت متشوقاً للعودة وإكمال قراءة كتبه، وقبل أيام؛ كتب لنا الدكتور (أيمن الجندي) صاحب القلم الجميل، عن العالم الجليل الشيخ محمد أبو زهرة وعن مؤلفاته الدسمة وكتبه الكثيرة، فاشتهيت أن أغوص في سطور ما كتب، هذا بجانب عشرات العناوين لكتب أضعها في قائمة (القراءة المستقبلية) التي تزيد ولا تنقص.

ما أن أفكر في الكتب، حتى تتفح روحي كزهرة يداعبها الربيع ليرى جمالها الزاهي، وما أن أبدأ بالقراءة، حتى أرى الجمال يدب في خلجات نفسي كقطعة أرض أصابها الماء فاخضوضرت ونمت، إن لي بلكونة أليفة في شقتي الصغيرة، أتسلل إليها كلما اشتاقت نفسي للسياحة داخل عقول البشر، أو كلما شعر عقلي بالجوع وضاقت به تفاهات الحاضر، أستلقي فأنظر إلى السماء والسحب الجوالة، ثم أقرأ فينسل الوقت سريعاً دون أن أشعر، وهو الإنسلال الوحيد الذي لا أشعر معه بالندم.

أحياناً،،، أتمنى لو أن الوقت كله للقراءة، لو أني بعيد في جزيرة نائية في محيط أزرق بعيد كل البعد عن البشر، أعيش عيشة بسيطة، فأغذي جسدي من خير الأرض، وأغذي روحي من جمال الطبيعة، من البحر والسماء، وأغذي عقلي من كومة كتب كبيرة تم اختيارها بعناية من كافة ألوان وأطياف عقول البشر، فأعيش من أجل القراءة، وأقرأ كي أعيش، ياله من حلم جميل.

القراءة تجدد في عروقي حب الحياة، الحياة مع الكتب هي حياة غنية وثرية، بل هي مغامرة أجمل من مغامرة “طرزان”، ذلك الرجل الذي يتنقل بين الأشجار والأحجار، والتي عاجلاً أم آجلاً سيمل منها لتكرارها، أما مغامرة القراءة والكتب، فمن أين سيأتي الملل وأنت تقتحم مع كل كتاب عالماً جديداً، وبعد نهاية كل كتاب تقلع من كوكب لتيمم وجهك شطر كوكب آخر، فكيف لمن يتنقل بين الكواكب أن يمل وهو يحلق في أرجاء هذا الكون السحيق.

وهكذا، مع كل فترة من فترات عمرك القصير، تتفتح لك الحياة أكثر وأكثر حين تستمر في القراءة، لكن في النهاية ليس لك إلا حياة واحدة، حياة قصيرة جداً، كم عساك تقرأ فيها ياترى، وهنا أتذكر ذلك المشهد من فيلم (About Time)، الفيلم الذي تدور فكرته حول خاصية عجيبة في إحدى العائلات، لا يخبرون أحد بها ويتوارثونها أباً عن جد، وهي إمكانية العودة إلى نقطة محددة في الماضي، ما عليك إلا الدخول في مكان مظلم واغماض عينيك ،،، ثم … (بوم) هاقد عدت إلى الماضي، الشاهد في الأمر، أنه حينسأله الإبن أباه كيف كان يستغل هذه الخاصية، فلم يكن جوابه إلا … (الكتب)، لقد كان يعود للماضي ليكسب سنوات أطول من عمره من أجل أن يقرأ أكثر، وخلال عمره الذي طال وطال، كان قد قرأ الكثير والكثير.

تلك قصة خيالية، لكن الواقع هو أن هنالك كتاب يقبع هناك، فوق طاولة أو في رفٍ قديم، أو ربما يمكن الوصول إليه عبر لمسات سريعة في هاتفك الذكي، الواقع (والذي كان كالخيال قبل عشرين سنة) أنه عبر تلك القطعة الصغيرة (الهاتف) يمكنك قراءة عشرات ومئات الكتب وأنت قابع في بلكونتك الصغيرة، أو متكئ على جانبك الأيسر في ديوانك المشمس الهادئ، الواقع أن القراءة متاحة، متاحة للجميع.

أفلام لم أندم على مشاهدتها

يمكن أن أقسم الأفلام التي أشاهدها إلى ثلاثة أصناف، الأول هو الأفلام التي أندم على مشاهدتها وتضييع الوقت فيها، وهي قليلة في الغالب لأني أحرص على اختيار أفلام جيدة، لكن رغم ذلك يقع هذا الأمر بين الفينة والأخرى وأخدع بأفلام وأكتشف أني قد أخذت مقلب فيه.

الصنف الآخر هو الأفلام التي تعجبني جداً، ليس على المستوى الفني فقط، بل الأهم من ذلك على مستوى القصة والرسالة التي يحاول الفيلم إيصالها، وهذه الأفلام أجدني مرغماً أن أكتب عنها وفيها، لذلك ففي الغالب أنشر عنها مقالة في تصنيف مستقل في المدونة أسميته (أفلام تستحث الأقلام)

أما الصنف الثالث فهي أفلام بين بين، هي التي لم أندم على مشاهدتها، وفي ذات الوقت هي أفلام ليست عظيمة (من وجهة نظري) أو لا تحمل رسالة وتأثيراً كبيراً في المشاهدين.

هذا الصنف من الأفلام سأكتبه هنا مع تعريف مختصر لكل فيلم، فهي أفلام جميلة في نهاية المطاف، بعضها يحمل رسائل إيجابية، والبعض الآخر فيه كوميدا طريفة، أو قصة قوية وأداءً مميزاً

5- Imagine That

تشدني دائماً الأفلام التي تُعنى بعلاقة الأب بالأبناء، ولقد شدتني عبارة سمعتها في اعلان الفيلم، حين قيل للبطل: “أنت لديك وظيفتين، أحداهما أن تكون أباً”، وهو فيلم عائلي نظيف شاهدته مع أطفالي، يحكي قصة رجل ناجح مهنياً لكنه فاشل أسرياً، يعيش مع بنته التي طالما تجاهلها ولم يعطيها حقها من الحب والاهتمام، تبدأ القصة حين يكتشف أن لديها بطانية عجيبة تخبرها ببعض الأسرار والأمور المستقبلية، وأنها دائمة الانعزال وتلعب مع صديقاتها المتخيلات، والمضحك أنه -وبسبب بعض الأمور- يصدقها الأب ويبدأ بالتعامل هو كذلك مع تلك الفتيات الخياليات.

الفيلم كوميدي لطيف، والقصة جيدة لكن الأداء والإخراج لم ين قوياً كفاية من وجهة نظري، لكن الرسالة التي ينطوي عليها الفيلم هي رسالة إيجابية ومباشرة، يمكن اختصارها بعبارة (أولادك أهم من نجاحاتك).

4- Liar Liar

فكرة الفيلم جميلة وجديد؛ طفل يتمنى -في عيد ميلاده- أن يتوقف أبوه عن الكذب ليومٍ كامل، فتتحقق الأمنية، والأب هنا هو محامي ناجح يمارس الكذب كما يتنفس، وقد مثل دور البطولة (جم كاري)، والذي كان مناسباً جداً لهذا الدور، لأنه يحتاج لمهارة جسدية وقدرات تعبيرية قوية، الفيلم كوميدي لكنه يحمل رسالة أخلاقية متعلقة بالصدق، وأيضاً هو يوجه رسالة متعلقة الأسرة وعلاقة الأب بأبناءه، وأن النجاح المادي ليس كل شيء أو أهم شيء، ولقد أعجبني مشهد يحمل في طياته بعض العمق الفلسفي. هنالك بعض التحفظات على الفيلم بسبب بعض المشاهد (القليلة).

3- The Call Of The Wild

عائلي/دراما/مغامرة – إنتاج 2020 – تقييم 6.8

فيلم عائلي جميل، يحكي قصة كلب وفي تأخذه الأقدار بعيداً عن منزله الذي تربى فيه والمليئ بواسئل الراحة والترفيه فترميه في ظروف قاسية وتمر به أحداث صعبة، لكنه كلب مميز، قوي وذكي، ينتهي به المطاف ككلب مزالج ثلجية، تمر أحداث كثيرة وسط الثلوج والجليد، يتعرف على أشخاص حتى يلبي -أخيراً- نداء الطبيعة

الفيلم جميل وفيه قصة درامية جيدة، يحمل رسالة مفادها “يوماً ما سنعود جميعاً للمنزل الذي ننتمي إليه” وهو الواضح من عنوان الفيلم (نداء البرية) كما أنه يحتوي على لحظات تثار فيها المشاعر وتستدعى إليها العواطف، الفيلم خالي تماماً من أي مشاهدة خادشة أو غير لائقة، وقد شاهدته مع الأولاد وقضينا وقتاً ممتعاً معه.

2- Arlington Road

دراما/جريمة/تشويق – إنتاج 1999- تقييم 7.2

الفيلم تمكن من إيصال رسالته بقوة، الفكرة والإخراج قوي، والرسالة تتعلق بالعمليات الإرهابية (لحسن الحظ لم يكن الأمر يتعلق بالإسلام والمسلمين) النهاية صادمة والحكبة الدرامية قوية، أيضاً أداء الأدوار قوي وخاصة من قبل الممثلين الرئيسيين.

الفكرة تدور حول رجل يبدأ بالشك في جيرانه الجدد بعد أن يكتشف أشياء غريبة عنهم، يدخل الشك في قلبه على أنهم ربما يدبرون لأمر ما، يبدأ بالبحث، يكتشف أشياء، وتحدث أشياء، ثم تؤول الأمور إلى نهاية غير متوقعة. (يمكن اعتبراه من الأفلام التي تحس في نهايتها أنك كنت مخدوعاً وتضطر إلى اعادة مشاهدة الفيلم من جديد لتفهم الأحداث).

1- Game Night

كوميديا/أكشن – إنتاج 2018 – تقييم 6.9

فيلم كوميدي لطيف، فكرة الفيلم أن هنالك زوجين يحبان الألعاب الجماعية كثيراً، ويشترك معهم أصدقاءهم في اللعب، وفي أحد الأيام يدعوه أخوه الأكبر إلى اللعب في منزله، لكن هذه المرة بطريقة أخرى فيها إثارة ومغامرة، لكن الأمور تخرج عن السيطرة وتنقلب اللعبة إلى حقيقة، حيث يفترض أن تكون هنالك تمثيلية بعملية اختطاف لكن يصادف أن يكون هنالك خاطفين حقيقيين يصلون قبل المزيفين، فتحدث معركة ويتم اختطاف الأخ أمام الأصدقاء وهم يضنون أن هذا هو أحد أجزاء اللعبة، ثم تدور أحداث كثيرة ومغامرات مثيرة.

النص مكتوب بشكل جيد، فيه كوميدا أصيلة، والفكرة ذاتها جديدة (حسب علمي)، هنالك (توستات) عديدة في القصة، كذلك الأداء والتمثيل جيد جداً.

أنا أنقرض … وأنت كذلك

تأمل فيني ونظر إلى جسدي النحيل وقال: جسمك ينحل يا أبتي
أجبته: إني أنقرض يا بني

– لا تقل هذا

– فعلاً، أنا أنقرض، وأنت كذلك، وكل إنسان في هذه الحياة، كل يوم يمر يأخذ من أعمارنا شيئاً يسيراً، نحن ننقرض بفعل الزمن، مع كل إشراقة صباح نقترب أكثر نحو نهايتنا المحتومة، إن لم أكن في سبيل الانقراض الجسدي، فأنا في سبيل الانقراض العمري.

كان ذلك حواراً عابراً، لكن ما ليس بعابر، ما يبقى في الذهن على الدوام، يقرع طبلة الوعي كل ما صفى لي فكر أو تاه عقلي في تأمل، هو ذلك الشعور بأن العمر يتفلت من بين يدي، هو أنني قد اقتربت من سن الأربعين، أن أحلامي الكثيرة وأهدافي العديدة لاتزال قابعة في صالة الانتظار، لا تدري متى يأتي دورها،،، أو هل يأتي أصلاً.

الحياة مركب عظيم، مركب في بحر الزمان والمكان يقودك في رحلة عظيمة، رحلة تكوين إنسان وتشكيل وعي ونضوج روح، وخلال هذه الرحلة أنت مطالب بالعمل، العمل الصالح تحديداً، مع الإيمان طبعاً، لذلك، فبقدر الإمكان … اعمل، أنجز كلما سنحت الفرصة، أكمل عملك كي تنتقل سريعاً للعمل التالي، للمشروع التالي، للفكرة التالية، استغل وقتك واستثمره بشكل أفضل، أيامك معدودة، حياتك محدودة، مركبك يمر وسط بحر الزمكان لا يتوقف أبداً، كانت بدايتك قبل سنوات عديدة، وقد وصلت إلى ما وصلت إليه واكتسبت ما اكتسبه، سخر ما معك من موارد (صحة + وقت + خبرة + مال) في العمل أكثر والإنجاز أفضل، استمر وسابق رحلة انقراضك.

نعم أنا أنقرض، وأنت وهو وهي وكلنا نسير في رحلة الانقراض هذه، صحيح أن جسمي قد نحل ووزني قد خف، كذلك هو عمري قد قصر ووقتي قد صغر، وليس المهم هنا هو انقراض الجسد، ما دمت في صحة جيدة، المهم هنا هو عمرك الذي ينقرض شيئاً فشيئاً، زمانك الذي يقل تدريجياً مع كل مساء وصباح، كن على وعي بذلك، ولا تضيع وقتك الثمين.

اعمل ثم اعمل ثم اعمل
(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)

ملحمة درامية قلّ نظيرها، مراجعة لفلم البؤساء (Les Misérables) – انتاج 2012

حقق هذا الفليم نجاحاً عالمياً باهراً، لكن أكبر نجاحه -بالنسبة لي- أنه جعلني أندمج وأتأثر ثم أبكي بطريقة لم تحدث من قبل مع أي فيلم آخر.

من الطريف أنني لم أكتشف أن اسم هذا الفيلم بالعربي هو (البؤساء) وأنه الفيلم الذي جسد أحد أهم الروايات الملحمية المشهورة للكاتب “فيكتور هوجو” والتي أمني نفسي دائماً بقراءتها في أحد الأيام، حتى أتى اليوم الذي شاهدت فيه الفيلم قبل أن أقرأ الرواية الأصلية.

كنت أسمع عن الرواية وأنها عظيمة وأنها وأنها… لكن لم أتوقف أن تكون عظيمة إلى تلك الدرجة، لم أتوقع أن تجسد كل تلك القيم الراقية وأن تحتوي على كل تلك الأحداث المفعمة بعبق الحياة والمخضبة بعرق الإنسان ودمه وكدحه، لم أكن أعلم أنها قادرة على أن تخترق وعيك إلى أعمق جزء فيه لتثير تساؤلات وتجيب على أخرى، وأنها قادرة على إثارة مشاعرك وتعكير صفو هدوئك عبر دمجك مع أحداثها إلى هذه الدرجة.

لن أتحدث عن القصة، فهي مما يجب قراءته، والكتابة عنه بشكل منفصل، لكني سأتحدث هنا عن الفيلم، عن هذه التحفة الفنية الفريدة.

يبدأ الفيلم بمشهد مهيب ولحن يرج سماء فرنسا آن ذاك (في بداية القرن الثامن عشر) تسمع تلك الكلمات التي تخرج في لحن يغنيه أؤلئك المسجونين المضطهدين، فتعتقد أنها مجرد أغنية قصيرة في بداية الفلم، لكن ما تلبث أن تكتشف أن هذا هو النمط السائد على مدى الفلم بأكمله، كل الحوارات تقريباً تؤدى بطريقة غنائية، كلمات قوية وألحان تتنوع بين الحزن والفرح والحماس، فتضيف إثارة فوق الإثارة، وتدمجك مع الأحداث بأكثر مما أنت مندمج.

أول موقف أخلاقي مؤثر حدث بعد عشر دقائق تقريباً من بداية الفيلم، وهو عندما يتذوق بطل الفيلم (جُن فالجُن) طعم الرحمة والإحسان الذي يمس فؤاده ويعصف بأفكاره ليقرر بعد ذلك أن يتغير جذرياً، فبعد أن كره العالم الذي لم يجد منه إلا الألم والقسوة، هاهو يتغير بسبب موقف عظيم من قس كنيسة التقاه بالصدفة في أحد الشوارع الضيقة، فدخل بذلك في معترك نفسي ثم اتخذ قراراً مصيرياً، وكل ذلك كان بسبب أخلاق رجل تجاه رجل آخر لم تربطه به أي علاقة أو مصلحة سوى رابط الإنسانية.

هنالك عدة قيم وأخلاقيات يطرحها الفيلم (أو القصة)، ويمكن أن أتذكر بعضاً منها:

العفو عند المقدرة، القيام بالعدل ولو على النفس، حب الآخر والإحسان إليه، الوقوف أمام الظلم بشجاعة، التضحية بالنفس من أجل العدل والحرية، العدل يأتي وإن تأخر، ارتباط الحياة بما بعدها وأن الحكاية لم تنتهي بعد.

النقطة الأخيرة هي التي اعجبتني كثيراً في الفيلم (والقصة) وهي تصوير الحياة كأنها مرحلة وفصول من كتاب لم ينتهي بعد، أن الآخرة هو الجزء المكمل لقصة الحياة، فلقد أظهر الفيلم هذه الجزئية بطريقة مثيرة في نهاية الفيلم على وجه الخصوص، وهو المشهد المهيب الذي استثار حفيظة مشاعري وأغرق عيناي بالدموع.

الفيلم فيه تنوع عجيب من الاحداث التي تستثير مختلف المشاعر الإنسانية فيك، فمرة تغضب ومرة تعطِف، ومرة تفرح وأخرى تحزن، وأحياناً تشمئز، لكنه ينجح في نهاية المطاف أن يعيد التوازن إليك والإرتياح بنهاية سعيدة مغلفة بغطاء من الحزن، وهي الخلطة المثالية لإثارة حفيظة عينيك.

الأداء والإخراج كان عظيماً، يكفي أنه فيلم يسير وفق سيمفونية غنائية من أوله إلى آخره، والذي يعني أن يكون أداء الصوت والغناء بمعزل عن الصورة، لكن إجادة التمثيل أحال بين أن ترى اختلافات أو تصنعاً، بل كان اندماج الممثلين مثيراً ومشاعرهم ودموعهم قوية وصادقة.

في نهاية المطاف، لقد كان فلماً ممتعاً، مؤثراً، مجوداً بعناية، قطعة فنية يندر أن تجد مثيلها، مأخوذ من رواية نالت شرف العبور بين الأجيال، فلا تزال تتداول وتقرأ، وهاهو عمل فني عظيم قد بني على أسوار مجدها، ملايين الأشخاص قد شاهدوه وتعلموا منه أو تأثروا به، وليس تأثير هذه النوعية من الأفلام مما يستهان به.

من أقوى المشاهد والأغاني التي قيلت في الفيلم -من وجهة نظري- هما:

المشهد الأول (مشهد العزة والشجاعة) هو بداية اندلاع الثورة، الأغنية بعنوان “Do You Hear the People Sing”

هذه الأغنية تم غنائها بعدة لغات على المسرح (شاهد الفيديو)

والمشهد الثاني (مشهد الحزن والفقد) هو الأغنية التي مطلعها “Empty Chairs at Empty Tables”

رحلة في كتاب: هذه رسالات القرآن، فمن يتلقاها، لفريد الأنصاري

يتحدث الشيخ الدكتور فريد الأنصاري في آخر عمره عن القرآن، بعث لنا بكلمات من آخر ما كتب، كتبها وقلبه ممتلئ بحب القرآن، فخلف لنا كلمات مضيئة، محبوكة بقالب أدبي، متقدة بجذوة إيمان، مُخرجة من قلبٍ صادق، يريد لأمته الرفعة والعلياء.

يحضرني الآن مقطعاً شاهدته قبل عدة أسابيع للشيخ أبي إسحاق الحويني، يقول فيه بحرقة وألم (ياليتني أعطيت القرآن عمري)، وهو الشيخ الذي أفنى عمره في الحديث وعلومه، وهو بكلامه هذا لا يندم على مسيرته في خدمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يتمنى أنه اهتم بالقرآن أكثر، بل أعطاه كل عمره.

لقد أحسن الشيخ فهد الكندري حين سمى برنامجه الرمضاني السابق (بالقرآن اهتديت) فالقرآن فعلاً يهدي، القرآن يحمي، القرآن يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة، وهو الوحيد القادر على إنقاذك، إسعادك، إحيائك (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ).

هذا النور هو الذي أضاء قلب (جيفري لانج) حين اهتدى بالقرآن، وليس غير القرآن، حين صادفه أمامه ذاتي يوم، فقعد يجوب في رحابه ويتجول في آفاقه، فقرأه من الغلاف إلى الغلاف بدافع الفضول، فلم يصل إلى نهاية الرحلة حتى كان قلبه قد وصل إلى بداية الهادية، نعم، لقد كان ميتاً فأحياه الله، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، فكتب إلى الناس كتاباً تلو الآخر، يحكي تجربته ويحاول إظهار بعض النور الذي بزغ في صدره.

عودة إلى الكتاب

يتكون الكتاب من خمس رسائل، أربعٌ منها عن القرآن، والخامسة عن الإخلاص، ففي رسالته الأولى يتحدث عن مفهوم (التداول الاجتماعي للقرآن الكريم) ويضع لهذا المفهوم تعريفاً جميلاً يقول فيه (هو الانخراط العملي في تصريف آيات الكتاب في السلوك البشري العام، تلاوة وتزكية وتعلماً، وتعريض تربة النفس لأمطار القرآن، وفتح حدائقها المُشعثة لمقارضه ومقاصه) يتحدث أيضاً في هذه الرسالة عن مشكلة (الانشغال حول القرآن وليس بالقرآن وفي القرآن) وهو باختصار الانشغال بالحقل النظري عن العملي، فالواجب أن يعيش المرئ بالقرآن، فيقول في هذا السياق:

(إن الذي لا يكابد منزلة الإخلاص، ولا يجاهد نفسه على حصنها المنيع، ولا يتخلق بمقام توحيد الله في كل شيء رغباً ورهباً، لا يمكن أن يعتبر حافظاً لسورة الإخلاص، وإن الذي لا يذوق طعم الإيمان عند الدخول في حمى (المعوذتين)، لا يكون قد اكتسب سورتي الفلق والناس، ثم إن الذي لا تلتهب مواجيده بأشواق التهجد لا يكون من أهل سورة المزمل).

أما في (مجالس القرآن)، وهو عنوان الرسالة الثانية، فيخاطب الشيخ فريد معاشر الشباب، من حملوا على عاتقهم تلقي رسالات القرآن، يوصيهم بإنارة شعلة القرآن في قلوبهم، بإحياء آياته في حياتهم، حتى ما إذا تحدثوا إلى الآخرين وصافحوهم، شعروا بحرارة الإيمان في أيديهم، ولا يتم ذلك إلا بالمجاهدة والمكابدة، حتى يشتعل النور في القلب، ثم يقول الشيخ معلناً (أن اللغة عاجزة عن وصف ذلك النور) ويجب أن يذوق القلب بنفسه حتى يعيش النور في واقعه، ويستضيء به كل من حوله.

ثم يورد كلاماً بديعاً عن حمل كتاب الله، فيقول (أيها الأحبة المكابدون، إن حمال هذه الحقائق الإيمانية في الأمة اليوم هم القليل، وإن الحامل لجمرة واحدة من جمر آية واحدة، يكتوي بلهيبها، ويستهدي بنورها، لأنفع لنفسه وللناس -بإذن الله- من مئات الحفاظ للقرآن كاملاً، الذين استظهروه من غير شعور منهم بحرارته، ولا معاناة للهيبه، ولا مشاهدة لجماله وجلاله. فلا يحقرن نفسه صاحبُ الآية والآيتين، إذا كان حقاً ممن قبض على جمرهنّ بيد غير مرتعشة، وارتقى بقراءتهن إلى منازل الثريا، نجماً ينير شبراً من الأرض في ظلمات هذا العصر العصيب).

أما الرسالة الثالثة، فقد كانت الأشد حرارة، والأسطع ابتهاجاً، وقد ضرب لحال القرآن بيننا كمثل النيزك الذي يهبط من السماء، إلا أن الفرق الشاسع أن النيزك ينزل حاراً ثم ما يلبث أن يبرد لهيبه، ومع الأيام يصبحاً حجراً كأحجار الأرض، أما كلام الله، فهو القادم إلينا من خارج واقعنا وعالمنا، هو الشهاب المنير، الذي أنار وينير وسينر حتى آخر الزمان، والمطلوب منا أن لا نتعامل معه كنصوص متعلقة بزمانٍ غابر، بل على أنه وحي، صلة أبدية للأرض بالسماء.

ويقول في هذه الرسالة (إن ذلك النيزك الناري الواقع من السماء إلى الأرض، ما يزال يحتفظ بأسرار العالم الخارجي الذي قدم منه، إنه فِهرِست مكنون، لو تدبرته لوجدته يكتنز خريطة الكون كله، إنه لم يفقد حرارته ولا طاقته قط، وإنما حجب لهيبه رحمة بالناس، وتيسراً لهم، وتشجيعاً للسائرين في الظلمات على حمل قنديله الوهاج، والقبض عليه بأصابع غير مرتعشة، بل على احتضانه وضمه إلى القلب، نوراً متوهجاً بين الجوانح).

في الرسالة الرابعة يتحدث الشيخ فريد عن تدبر القرآن، ويعطي فيه كلاماً مقنعاً، فدافع عن حق التدبر المكفول لكل مسلم، فالتدبر ليس حكراً على العلماء، ويكفي العامي أن يعرف بعض معاني الكلمات الغائبة عنه حتى يتمكن من الغوص في عمق الآية واستخلاص ما يفيده منها وما يثري حياته.

يوضح الشيخ فريد الفرق بين التفسير والتدبر، فالتفسير هو الكشف والبيان، ويكون في الغالب من أجل النشر والإذاعة، فالمفسر يجب أن يكون عالماً كي يبلغ ويساعد غير المتعلم في فهم كتاب الله، أما المتدبر فإن غايته تبليغ نفسه، والتفاعل مع آي القرآن لإصلاح حياته، وكلام الله في المجمل هو كلام يستوعبه قلب الإنسان العادي ذو الحدود الدنيا، ويجد فيه ما يهمه لأن يصلح ويُصلح.

التدبر -من تفعل- هو النظر إلى دبر الشيء، إلى ما تخلفه الآية من آثار في النفس والحياة، هو الخطوة التالية التي تنعقد على عاتق التالي لكتاب الله، أن يقرأ الآية ثم يفكر في الحياة والكون، في التقاطعات بين مجريات حياته وكلام الله الخالد، وقد ذكر الشيخ فريد العديد من الأمثلة لكيف يمكن للإنسان أن يتدبر أبسط الآيات، ليخرج منها بأعظم الفوائد.

إن المفسر أو المطلع على أقوال المفسري، المتعمق لمعاني وسياق الآيات، تحصل له فائدة أكبر عند التدبر، كذلك العالم بأمور الحياة، من طب وجيلوجيا وهندسة وغيرها، سيتمكن من الغوص أعمق في بحار التدبر، لكن حتى الإنسان البسيط ذو العلم المحدود، سيجد من الآيات الكثير مما يغوص فيها بعقله وفكره.

يقول الشيخ فريد (إن المسلم، أي ملسم، إنما عليه أن يصطحب مختصرا صغيرا من كتب التفسير، وذلك فقط حتى يضبط بُوصلة الاتجاه العام لمعنى الآيات، ثم يشرع آنئذ في التدبر للقرآن، ولا حرج، لأن التدبر لكتاب الله لا ينبني عليه حلال ولا حرام، ولا تصدر عنه فتوى ولا قضاء، وإنما هو مسلك روحي يقود القلب إلى التوبة والإنابة، وإلى مجاهدة النفس من أجل الترقي بمراتب العلم بالله)

ثم يورد الشيخ فائدة جميلة حول الفرق بين التدبر والتفكر، فالتدبر هو النظر في آيات الله المسطورة، والتفكر هو النظر في آيات الله المنظورة، في النفس والآفاق، في العالم والإنسان، في قصص البشر وما فيها من عبر، وهاذين الأمرين؛ التدبر والتفكر، يؤولان معا إلى مصطلح قرآني مركزي ثالث، هو (التذكر)، فيقول: (فالتدبر للقرآن يقودك إلى التفكر في الوجود، والتفكر في الوجود يعود بك إلى القرآن، وهما معا في جميع الأحوال يثمران تذكراً للقلب وذكرى).

ويختم الشيخ فريد برسالة أخيرة هي الخامسة في ترتيبها، يتحدث فيها عن الإخلاص، الإخلاص الذي يحتاجه أكثر من غيره؛ من كرس وقته وجهده للدعوة إلى الله والعمل في سبيله، وكم من جهود تُبدد وأوقات تضيع بسبب البعد عن الإخلاص، وكم من مطحنة تطحن الهواء وتفرغ طاقتها النفيسة في غير ذات جدوى، بسبب ضعف الإخلاص، وهو بكلماته تلك، يشدد أكبر تشديد على متابعة القلب ومحاسبته وسؤاله دائماً، لماذا تفعل ما تفعل، ولمن تفعل؟

وهكذا تنتهي كلمات الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله برسالته الأخيرة التي بعثها في منتصف عام 2009، ولم تمضي سوى بضعة أشهر حتى رحل عن عالمنا الدنيوي وانتقل إلى العالم الحقيقي، العالم الذي أتى منه ذلك النيزك الذي حدثنا عنه في كتابه، ونحن، ومع نهاية هذا الكتاب، لا نملك إلا أن نودع روحه التي أودعها لنا في سطور وكلمات، فإلى اللقاء يا شيخنا الفاضل، إلى لقاء قادم في عالم آخر، فإنا نشهد الله أن الأرواح قد تعارفت، وأن القلوب قد تآلفت، ولم يبقى إلا أن نحسن فنفوز، ثم نلقاك هناك، عند الحوض، إن شاء الله، وبرحمته وفضله.

لا تقارن حقيقتك بوهمهم

فوق كتلة إسمنتية تطل على البحر، جلست أنا وصديقي نتذوق حلاوة المنظر، أمسكت الهاتف والتقطت صورة ثم رحنا نتأملها سوية، نظر إليها وقال مفكراً؛ لو أني نشرت هذه الصورة في حسابي في الفيسبوك، لتمنى الناس أن يكونوا مكاني، سيعتقدون أنني أتجول سائحاً في هذه البلاد وأعيش على هرم السعادة، لن يعرفوا أن ما أتى بي إلى هنا ليس سوى المرض، مرض الزوجة الذي ما وجدت له دواءاً في بلدي، فأتيت إلى هنا ألتمس الدواء، قد يعتقد من يشاهد هذه الصورة الجميلة أن قلبي يحلق في أجواء السعادة، بينما الهم يقبع فيه، فما جئت لأبحث عنه عجزت أن أجده، وهائنا أصل لنهاية رحلتي دون أن أجد الدواء، سأعود بالمرض الذي أتيت به، هذا الهم الذي أحمله لن يظهر لهم في الصورة، وعلة التواجد في هذه الأرض لن تكتب على واجهتها، سيشاهدون فيها الوهم وستغيب عنهم الحقيقة.

نعم، إنه الوهم، ما تشاهده عبر الصور -الثابت منها والمتحرك- ليس سوى الوهم، لكن المشكلة أنك تقارن حقيقتك بوهمهم، تقارن حياتك المترنحة ما بين فرح وحزن، وألم ومتعة، بتلك الأوهام التي تبنيها في عقلك كلما شاهدت صورة تنضح منها رائحة السعادة، أو تقارن حياتك بحياة تُعرض عليك عبر مقطع لا يُريك من الجمل إلا أذنه، تتحسر، تتمنى، ثم تسعى وتشقى، وقد كان يعفيك عن هذا كله؛ غض بصرك عن صورة قد تؤذي روحك.

في الغالب؛ الناس السعداء حقاً لا ينشرون صورهم على الشبكة، ليست قاعدة ولكن المنطق يقول؛ أن من يمتلك السعادة بالفعل لن يجد أي دافع لينشر صورته التي تظهر للناس سعادته، بينما العكس صحيح، من هو مدمن لنشر صوره التي تُظهره بأحسن حال وفي أفضل مكان، هو من يفقد السعادة، فهو يتلمسها بين حروف الشاكرين وانبهار المارين، فترتفع كلما زادت عدد اللايكات، وما أن تهبط في دهليز النسيان إلا ويسارع في نشر صورة أخرى ليحصل على جرعته التالية من تلك السعادة الزائفة.

هنالك آية في كتاب الله الكريم تشير إلى هذا المفهوم، يدعوك الله فيها أن تغض بصرك عن حيوات الآخرين وما فيها من تفاصيل، فكل حياة فيها ما فيها، ولا يعلم ما فيها سوى العليم.

(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) {131 طه}.

لا تمدن عينيك …

هذه الآية ينبغي أن تكون قاعدة ذهبية نسير بها في الحياة، وهي أشد أهمية في هذا العصر من أي عصر سابق، فقديماً، حين يفكر المرء أن يمد عينيه، قد يمدها لجاره، لصديقه، لشخص يلقاه في محافل المدينة، إن حالفه الحظ فقد يمد عينيه في اليوم بضع مرات، فهو محصور في مكانه مقيد بزمانه، أما اليوم، فما أسهل مد العين، ما أسهل أن تغوص في الصور وتشاهد ثم تشاهد ثم تشاهد، فإن مليت من الصور الجامدة، فهنالك من الفيديوهات والـ(فلوقات) ما يمتع ناظريك، أشخاص يعرضون لك أفضل أجزاء حياتهم، يصورون ساعات طويلة، ثم عبر برامج المونتاج، يقتنصون الأفضل والأحسن، زهرة الحياة الدنيا، ليهدوها إليك حتى تسلي بها وقتك، وأنت تشاهد في ملل، تتمنى … تتحسر ثم تسعى وتشقى.

لا تمدن عينيك …

ليست تلك سوى صور يختفي خلفها ألف ألم، ليست سوى مشاهد يقبع من ورائها ألف هم، لا تمدن عينيك كي تعيش سعيداً راضياً، لا تمدنها كي لا تتلاعب تلك الصور بالرغبة في قلبك، فتميل بك يميناً ويساراً، فساعة تريد هذا، وساعة تريد ذاك، لا تمدنها كي لا تغويك عن مسارك، فتصبح مشتتاً لا تدري ما تريد، لا تطيل النظر كي لا تطول حسرتك على وقتك المهدر.

لا تمدن عينيك، ولا تشغل الناس بمد أعينهم إليك.