شغف القراءة، وتفتح أزهار الحياة

يعرف اليوتيوب (بسبب خوارزمياته الذكية) أني أحب الاستماع للمفكر الراحل (عبدالوهاب المسيري) لذلك فلا يمر يوم إلا ويرمي أمامي أحد الفيديوهات القديمة له من دهاليز اليوتيوب التي لا يعلم وسعها إلا قلة من البشر، والحقيقة أني رغم ممانعتي الشديدة لكل ما يضيع الوقت ويسرق دقائقي الثمنية، إلا أني أستسلم دائماً للمسيري، فأنا أحب أن أستكشف عقلية هذا المفكر الكبير، وعمق نظرته للأشياء.

المسيري مفكر كبير، له كتب منشورة، ولازلت أمني نفسي أني -يوماً ما -سأقرأ بعضها أو معظمها، والرافعي أديب كبير، بدأت قبل أيام بقراءة وحي قلمه وتذوق عذب كلماته، أما تولستوي فما أن بدأت رحلتي في بعض قصصة، حتى انفتحت شهيتي للمزيد، أما رائعة الأديب الكبير (فكتور هوجو) البؤساء، فلقد غمرتني القصة بالدهشة حين شاهدت الفيلم الذي أنتج عنها في 2012، فكيف بين وأنا أقرأ الرواية، أما المفكر الجميل (مصطفى محمود) فقد عشت أجمل الأيام حين كنت أقرأ كتبه الصغيرة التي كانت تمتع عقلي وتداعب فكري قبل سنوات، ولازلت متشوقاً للعودة وإكمال قراءة كتبه، وقبل أيام؛ كتب لنا الدكتور (أيمن الجندي) صاحب القلم الجميل، عن العالم الجليل الشيخ محمد أبو زهرة وعن مؤلفاته الدسمة وكتبه الكثيرة، فاشتهيت أن أغوص في سطور ما كتب، هذا بجانب عشرات العناوين لكتب أضعها في قائمة (القراءة المستقبلية) التي تزيد ولا تنقص.

ما أن أفكر في الكتب، حتى تتفح روحي كزهرة يداعبها الربيع ليرى جمالها الزاهي، وما أن أبدأ بالقراءة، حتى أرى الجمال يدب في خلجات نفسي كقطعة أرض أصابها الماء فاخضوضرت ونمت، إن لي بلكونة أليفة في شقتي الصغيرة، أتسلل إليها كلما اشتاقت نفسي للسياحة داخل عقول البشر، أو كلما شعر عقلي بالجوع وضاقت به تفاهات الحاضر، أستلقي فأنظر إلى السماء والسحب الجوالة، ثم أقرأ فينسل الوقت سريعاً دون أن أشعر، وهو الإنسلال الوحيد الذي لا أشعر معه بالندم.

أحياناً،،، أتمنى لو أن الوقت كله للقراءة، لو أني بعيد في جزيرة نائية في محيط أزرق بعيد كل البعد عن البشر، أعيش عيشة بسيطة، فأغذي جسدي من خير الأرض، وأغذي روحي من جمال الطبيعة، من البحر والسماء، وأغذي عقلي من كومة كتب كبيرة تم اختيارها بعناية من كافة ألوان وأطياف عقول البشر، فأعيش من أجل القراءة، وأقرأ كي أعيش، ياله من حلم جميل.

القراءة تجدد في عروقي حب الحياة، الحياة مع الكتب هي حياة غنية وثرية، بل هي مغامرة أجمل من مغامرة “طرزان”، ذلك الرجل الذي يتنقل بين الأشجار والأحجار، والتي عاجلاً أم آجلاً سيمل منها لتكرارها، أما مغامرة القراءة والكتب، فمن أين سيأتي الملل وأنت تقتحم مع كل كتاب عالماً جديداً، وبعد نهاية كل كتاب تقلع من كوكب لتيمم وجهك شطر كوكب آخر، فكيف لمن يتنقل بين الكواكب أن يمل وهو يحلق في أرجاء هذا الكون السحيق.

وهكذا، مع كل فترة من فترات عمرك القصير، تتفتح لك الحياة أكثر وأكثر حين تستمر في القراءة، لكن في النهاية ليس لك إلا حياة واحدة، حياة قصيرة جداً، كم عساك تقرأ فيها ياترى، وهنا أتذكر ذلك المشهد من فيلم (About Time)، الفيلم الذي تدور فكرته حول خاصية عجيبة في إحدى العائلات، لا يخبرون أحد بها ويتوارثونها أباً عن جد، وهي إمكانية العودة إلى نقطة محددة في الماضي، ما عليك إلا الدخول في مكان مظلم واغماض عينيك ،،، ثم … (بوم) هاقد عدت إلى الماضي، الشاهد في الأمر، أنه حينسأله الإبن أباه كيف كان يستغل هذه الخاصية، فلم يكن جوابه إلا … (الكتب)، لقد كان يعود للماضي ليكسب سنوات أطول من عمره من أجل أن يقرأ أكثر، وخلال عمره الذي طال وطال، كان قد قرأ الكثير والكثير.

تلك قصة خيالية، لكن الواقع هو أن هنالك كتاب يقبع هناك، فوق طاولة أو في رفٍ قديم، أو ربما يمكن الوصول إليه عبر لمسات سريعة في هاتفك الذكي، الواقع (والذي كان كالخيال قبل عشرين سنة) أنه عبر تلك القطعة الصغيرة (الهاتف) يمكنك قراءة عشرات ومئات الكتب وأنت قابع في بلكونتك الصغيرة، أو متكئ على جانبك الأيسر في ديوانك المشمس الهادئ، الواقع أن القراءة متاحة، متاحة للجميع.

أفلام لم أندم على مشاهدتها

يمكن أن أقسم الأفلام التي أشاهدها إلى ثلاثة أصناف، الأول هو الأفلام التي أندم على مشاهدتها وتضييع الوقت فيها، وهي قليلة في الغالب لأني أحرص على اختيار أفلام جيدة، لكن رغم ذلك يقع هذا الأمر بين الفينة والأخرى وأخدع بأفلام وأكتشف أني قد أخذت مقلب فيه.

الصنف الآخر هو الأفلام التي تعجبني جداً، ليس على المستوى الفني فقط، بل الأهم من ذلك على مستوى القصة والرسالة التي يحاول الفيلم إيصالها، وهذه الأفلام أجدني مرغماً أن أكتب عنها وفيها، لذلك ففي الغالب أنشر عنها مقالة في تصنيف مستقل في المدونة أسميته (أفلام تستحث الأقلام)

أما الصنف الثالث فهي أفلام بين بين، هي التي لم أندم على مشاهدتها، وفي ذات الوقت هي أفلام ليست عظيمة (من وجهة نظري) أو لا تحمل رسالة وتأثيراً كبيراً في المشاهدين.

هذا الصنف من الأفلام سأكتبه هنا مع تعريف مختصر لكل فيلم، فهي أفلام جميلة في نهاية المطاف، بعضها يحمل رسائل إيجابية، والبعض الآخر فيه كوميدا طريفة، أو قصة قوية وأداءً مميزاً

5- Imagine That

تشدني دائماً الأفلام التي تُعنى بعلاقة الأب بالأبناء، ولقد شدتني عبارة سمعتها في اعلان الفيلم، حين قيل للبطل: “أنت لديك وظيفتين، أحداهما أن تكون أباً”، وهو فيلم عائلي نظيف شاهدته مع أطفالي، يحكي قصة رجل ناجح مهنياً لكنه فاشل أسرياً، يعيش مع بنته التي طالما تجاهلها ولم يعطيها حقها من الحب والاهتمام، تبدأ القصة حين يكتشف أن لديها بطانية عجيبة تخبرها ببعض الأسرار والأمور المستقبلية، وأنها دائمة الانعزال وتلعب مع صديقاتها المتخيلات، والمضحك أنه -وبسبب بعض الأمور- يصدقها الأب ويبدأ بالتعامل هو كذلك مع تلك الفتيات الخياليات.

الفيلم كوميدي لطيف، والقصة جيدة لكن الأداء والإخراج لم ين قوياً كفاية من وجهة نظري، لكن الرسالة التي ينطوي عليها الفيلم هي رسالة إيجابية ومباشرة، يمكن اختصارها بعبارة (أولادك أهم من نجاحاتك).

4- Liar Liar

فكرة الفيلم جميلة وجديد؛ طفل يتمنى -في عيد ميلاده- أن يتوقف أبوه عن الكذب ليومٍ كامل، فتتحقق الأمنية، والأب هنا هو محامي ناجح يمارس الكذب كما يتنفس، وقد مثل دور البطولة (جم كاري)، والذي كان مناسباً جداً لهذا الدور، لأنه يحتاج لمهارة جسدية وقدرات تعبيرية قوية، الفيلم كوميدي لكنه يحمل رسالة أخلاقية متعلقة بالصدق، وأيضاً هو يوجه رسالة متعلقة الأسرة وعلاقة الأب بأبناءه، وأن النجاح المادي ليس كل شيء أو أهم شيء، ولقد أعجبني مشهد يحمل في طياته بعض العمق الفلسفي. هنالك بعض التحفظات على الفيلم بسبب بعض المشاهد (القليلة).

3- The Call Of The Wild

عائلي/دراما/مغامرة – إنتاج 2020 – تقييم 6.8

فيلم عائلي جميل، يحكي قصة كلب وفي تأخذه الأقدار بعيداً عن منزله الذي تربى فيه والمليئ بواسئل الراحة والترفيه فترميه في ظروف قاسية وتمر به أحداث صعبة، لكنه كلب مميز، قوي وذكي، ينتهي به المطاف ككلب مزالج ثلجية، تمر أحداث كثيرة وسط الثلوج والجليد، يتعرف على أشخاص حتى يلبي -أخيراً- نداء الطبيعة

الفيلم جميل وفيه قصة درامية جيدة، يحمل رسالة مفادها “يوماً ما سنعود جميعاً للمنزل الذي ننتمي إليه” وهو الواضح من عنوان الفيلم (نداء البرية) كما أنه يحتوي على لحظات تثار فيها المشاعر وتستدعى إليها العواطف، الفيلم خالي تماماً من أي مشاهدة خادشة أو غير لائقة، وقد شاهدته مع الأولاد وقضينا وقتاً ممتعاً معه.

2- Arlington Road

دراما/جريمة/تشويق – إنتاج 1999- تقييم 7.2

الفيلم تمكن من إيصال رسالته بقوة، الفكرة والإخراج قوي، والرسالة تتعلق بالعمليات الإرهابية (لحسن الحظ لم يكن الأمر يتعلق بالإسلام والمسلمين) النهاية صادمة والحكبة الدرامية قوية، أيضاً أداء الأدوار قوي وخاصة من قبل الممثلين الرئيسيين.

الفكرة تدور حول رجل يبدأ بالشك في جيرانه الجدد بعد أن يكتشف أشياء غريبة عنهم، يدخل الشك في قلبه على أنهم ربما يدبرون لأمر ما، يبدأ بالبحث، يكتشف أشياء، وتحدث أشياء، ثم تؤول الأمور إلى نهاية غير متوقعة. (يمكن اعتبراه من الأفلام التي تحس في نهايتها أنك كنت مخدوعاً وتضطر إلى اعادة مشاهدة الفيلم من جديد لتفهم الأحداث).

1- Game Night

كوميديا/أكشن – إنتاج 2018 – تقييم 6.9

فيلم كوميدي لطيف، فكرة الفيلم أن هنالك زوجين يحبان الألعاب الجماعية كثيراً، ويشترك معهم أصدقاءهم في اللعب، وفي أحد الأيام يدعوه أخوه الأكبر إلى اللعب في منزله، لكن هذه المرة بطريقة أخرى فيها إثارة ومغامرة، لكن الأمور تخرج عن السيطرة وتنقلب اللعبة إلى حقيقة، حيث يفترض أن تكون هنالك تمثيلية بعملية اختطاف لكن يصادف أن يكون هنالك خاطفين حقيقيين يصلون قبل المزيفين، فتحدث معركة ويتم اختطاف الأخ أمام الأصدقاء وهم يضنون أن هذا هو أحد أجزاء اللعبة، ثم تدور أحداث كثيرة ومغامرات مثيرة.

النص مكتوب بشكل جيد، فيه كوميدا أصيلة، والفكرة ذاتها جديدة (حسب علمي)، هنالك (توستات) عديدة في القصة، كذلك الأداء والتمثيل جيد جداً.

أنا أنقرض … وأنت كذلك

تأمل فيني ونظر إلى جسدي النحيل وقال: جسمك ينحل يا أبتي
أجبته: إني أنقرض يا بني

– لا تقل هذا

– فعلاً، أنا أنقرض، وأنت كذلك، وكل إنسان في هذه الحياة، كل يوم يمر يأخذ من أعمارنا شيئاً يسيراً، نحن ننقرض بفعل الزمن، مع كل إشراقة صباح نقترب أكثر نحو نهايتنا المحتومة، إن لم أكن في سبيل الانقراض الجسدي، فأنا في سبيل الانقراض العمري.

كان ذلك حواراً عابراً، لكن ما ليس بعابر، ما يبقى في الذهن على الدوام، يقرع طبلة الوعي كل ما صفى لي فكر أو تاه عقلي في تأمل، هو ذلك الشعور بأن العمر يتفلت من بين يدي، هو أنني قد اقتربت من سن الأربعين، أن أحلامي الكثيرة وأهدافي العديدة لاتزال قابعة في صالة الانتظار، لا تدري متى يأتي دورها،،، أو هل يأتي أصلاً.

الحياة مركب عظيم، مركب في بحر الزمان والمكان يقودك في رحلة عظيمة، رحلة تكوين إنسان وتشكيل وعي ونضوج روح، وخلال هذه الرحلة أنت مطالب بالعمل، العمل الصالح تحديداً، مع الإيمان طبعاً، لذلك، فبقدر الإمكان … اعمل، أنجز كلما سنحت الفرصة، أكمل عملك كي تنتقل سريعاً للعمل التالي، للمشروع التالي، للفكرة التالية، استغل وقتك واستثمره بشكل أفضل، أيامك معدودة، حياتك محدودة، مركبك يمر وسط بحر الزمكان لا يتوقف أبداً، كانت بدايتك قبل سنوات عديدة، وقد وصلت إلى ما وصلت إليه واكتسبت ما اكتسبه، سخر ما معك من موارد (صحة + وقت + خبرة + مال) في العمل أكثر والإنجاز أفضل، استمر وسابق رحلة انقراضك.

نعم أنا أنقرض، وأنت وهو وهي وكلنا نسير في رحلة الانقراض هذه، صحيح أن جسمي قد نحل ووزني قد خف، كذلك هو عمري قد قصر ووقتي قد صغر، وليس المهم هنا هو انقراض الجسد، ما دمت في صحة جيدة، المهم هنا هو عمرك الذي ينقرض شيئاً فشيئاً، زمانك الذي يقل تدريجياً مع كل مساء وصباح، كن على وعي بذلك، ولا تضيع وقتك الثمين.

اعمل ثم اعمل ثم اعمل
(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)

ملحمة درامية قلّ نظيرها، مراجعة لفلم البؤساء (Les Misérables) – انتاج 2012

حقق هذا الفليم نجاحاً عالمياً باهراً، لكن أكبر نجاحه -بالنسبة لي- أنه جعلني أندمج وأتأثر ثم أبكي بطريقة لم تحدث من قبل مع أي فيلم آخر.

من الطريف أنني لم أكتشف أن اسم هذا الفيلم بالعربي هو (البؤساء) وأنه الفيلم الذي جسد أحد أهم الروايات الملحمية المشهورة للكاتب “فيكتور هوجو” والتي أمني نفسي دائماً بقراءتها في أحد الأيام، حتى أتى اليوم الذي شاهدت فيه الفيلم قبل أن أقرأ الرواية الأصلية.

كنت أسمع عن الرواية وأنها عظيمة وأنها وأنها… لكن لم أتوقف أن تكون عظيمة إلى تلك الدرجة، لم أتوقع أن تجسد كل تلك القيم الراقية وأن تحتوي على كل تلك الأحداث المفعمة بعبق الحياة والمخضبة بعرق الإنسان ودمه وكدحه، لم أكن أعلم أنها قادرة على أن تخترق وعيك إلى أعمق جزء فيه لتثير تساؤلات وتجيب على أخرى، وأنها قادرة على إثارة مشاعرك وتعكير صفو هدوئك عبر دمجك مع أحداثها إلى هذه الدرجة.

لن أتحدث عن القصة، فهي مما يجب قراءته، والكتابة عنه بشكل منفصل، لكني سأتحدث هنا عن الفيلم، عن هذه التحفة الفنية الفريدة.

يبدأ الفيلم بمشهد مهيب ولحن يرج سماء فرنسا آن ذاك (في بداية القرن الثامن عشر) تسمع تلك الكلمات التي تخرج في لحن يغنيه أؤلئك المسجونين المضطهدين، فتعتقد أنها مجرد أغنية قصيرة في بداية الفلم، لكن ما تلبث أن تكتشف أن هذا هو النمط السائد على مدى الفلم بأكمله، كل الحوارات تقريباً تؤدى بطريقة غنائية، كلمات قوية وألحان تتنوع بين الحزن والفرح والحماس، فتضيف إثارة فوق الإثارة، وتدمجك مع الأحداث بأكثر مما أنت مندمج.

أول موقف أخلاقي مؤثر حدث بعد عشر دقائق تقريباً من بداية الفيلم، وهو عندما يتذوق بطل الفيلم (جُن فالجُن) طعم الرحمة والإحسان الذي يمس فؤاده ويعصف بأفكاره ليقرر بعد ذلك أن يتغير جذرياً، فبعد أن كره العالم الذي لم يجد منه إلا الألم والقسوة، هاهو يتغير بسبب موقف عظيم من قس كنيسة التقاه بالصدفة في أحد الشوارع الضيقة، فدخل بذلك في معترك نفسي ثم اتخذ قراراً مصيرياً، وكل ذلك كان بسبب أخلاق رجل تجاه رجل آخر لم تربطه به أي علاقة أو مصلحة سوى رابط الإنسانية.

هنالك عدة قيم وأخلاقيات يطرحها الفيلم (أو القصة)، ويمكن أن أتذكر بعضاً منها:

العفو عند المقدرة، القيام بالعدل ولو على النفس، حب الآخر والإحسان إليه، الوقوف أمام الظلم بشجاعة، التضحية بالنفس من أجل العدل والحرية، العدل يأتي وإن تأخر، ارتباط الحياة بما بعدها وأن الحكاية لم تنتهي بعد.

النقطة الأخيرة هي التي اعجبتني كثيراً في الفيلم (والقصة) وهي تصوير الحياة كأنها مرحلة وفصول من كتاب لم ينتهي بعد، أن الآخرة هو الجزء المكمل لقصة الحياة، فلقد أظهر الفيلم هذه الجزئية بطريقة مثيرة في نهاية الفيلم على وجه الخصوص، وهو المشهد المهيب الذي استثار حفيظة مشاعري وأغرق عيناي بالدموع.

الفيلم فيه تنوع عجيب من الاحداث التي تستثير مختلف المشاعر الإنسانية فيك، فمرة تغضب ومرة تعطِف، ومرة تفرح وأخرى تحزن، وأحياناً تشمئز، لكنه ينجح في نهاية المطاف أن يعيد التوازن إليك والإرتياح بنهاية سعيدة مغلفة بغطاء من الحزن، وهي الخلطة المثالية لإثارة حفيظة عينيك.

الأداء والإخراج كان عظيماً، يكفي أنه فيلم يسير وفق سيمفونية غنائية من أوله إلى آخره، والذي يعني أن يكون أداء الصوت والغناء بمعزل عن الصورة، لكن إجادة التمثيل أحال بين أن ترى اختلافات أو تصنعاً، بل كان اندماج الممثلين مثيراً ومشاعرهم ودموعهم قوية وصادقة.

في نهاية المطاف، لقد كان فلماً ممتعاً، مؤثراً، مجوداً بعناية، قطعة فنية يندر أن تجد مثيلها، مأخوذ من رواية نالت شرف العبور بين الأجيال، فلا تزال تتداول وتقرأ، وهاهو عمل فني عظيم قد بني على أسوار مجدها، ملايين الأشخاص قد شاهدوه وتعلموا منه أو تأثروا به، وليس تأثير هذه النوعية من الأفلام مما يستهان به.

من أقوى المشاهد والأغاني التي قيلت في الفيلم -من وجهة نظري- هما:

المشهد الأول (مشهد العزة والشجاعة) هو بداية اندلاع الثورة، الأغنية بعنوان “Do You Hear the People Sing”

هذه الأغنية تم غنائها بعدة لغات على المسرح (شاهد الفيديو)

والمشهد الثاني (مشهد الحزن والفقد) هو الأغنية التي مطلعها “Empty Chairs at Empty Tables”

رحلة في كتاب: هذه رسالات القرآن، فمن يتلقاها، لفريد الأنصاري

يتحدث الشيخ الدكتور فريد الأنصاري في آخر عمره عن القرآن، بعث لنا بكلمات من آخر ما كتب، كتبها وقلبه ممتلئ بحب القرآن، فخلف لنا كلمات مضيئة، محبوكة بقالب أدبي، متقدة بجذوة إيمان، مُخرجة من قلبٍ صادق، يريد لأمته الرفعة والعلياء.

يحضرني الآن مقطعاً شاهدته قبل عدة أسابيع للشيخ أبي إسحاق الحويني، يقول فيه بحرقة وألم (ياليتني أعطيت القرآن عمري)، وهو الشيخ الذي أفنى عمره في الحديث وعلومه، وهو بكلامه هذا لا يندم على مسيرته في خدمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يتمنى أنه اهتم بالقرآن أكثر، بل أعطاه كل عمره.

لقد أحسن الشيخ فهد الكندري حين سمى برنامجه الرمضاني السابق (بالقرآن اهتديت) فالقرآن فعلاً يهدي، القرآن يحمي، القرآن يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة، وهو الوحيد القادر على إنقاذك، إسعادك، إحيائك (أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ).

هذا النور هو الذي أضاء قلب (جيفري لانج) حين اهتدى بالقرآن، وليس غير القرآن، حين صادفه أمامه ذاتي يوم، فقعد يجوب في رحابه ويتجول في آفاقه، فقرأه من الغلاف إلى الغلاف بدافع الفضول، فلم يصل إلى نهاية الرحلة حتى كان قلبه قد وصل إلى بداية الهادية، نعم، لقد كان ميتاً فأحياه الله، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، فكتب إلى الناس كتاباً تلو الآخر، يحكي تجربته ويحاول إظهار بعض النور الذي بزغ في صدره.

عودة إلى الكتاب

يتكون الكتاب من خمس رسائل، أربعٌ منها عن القرآن، والخامسة عن الإخلاص، ففي رسالته الأولى يتحدث عن مفهوم (التداول الاجتماعي للقرآن الكريم) ويضع لهذا المفهوم تعريفاً جميلاً يقول فيه (هو الانخراط العملي في تصريف آيات الكتاب في السلوك البشري العام، تلاوة وتزكية وتعلماً، وتعريض تربة النفس لأمطار القرآن، وفتح حدائقها المُشعثة لمقارضه ومقاصه) يتحدث أيضاً في هذه الرسالة عن مشكلة (الانشغال حول القرآن وليس بالقرآن وفي القرآن) وهو باختصار الانشغال بالحقل النظري عن العملي، فالواجب أن يعيش المرئ بالقرآن، فيقول في هذا السياق:

(إن الذي لا يكابد منزلة الإخلاص، ولا يجاهد نفسه على حصنها المنيع، ولا يتخلق بمقام توحيد الله في كل شيء رغباً ورهباً، لا يمكن أن يعتبر حافظاً لسورة الإخلاص، وإن الذي لا يذوق طعم الإيمان عند الدخول في حمى (المعوذتين)، لا يكون قد اكتسب سورتي الفلق والناس، ثم إن الذي لا تلتهب مواجيده بأشواق التهجد لا يكون من أهل سورة المزمل).

أما في (مجالس القرآن)، وهو عنوان الرسالة الثانية، فيخاطب الشيخ فريد معاشر الشباب، من حملوا على عاتقهم تلقي رسالات القرآن، يوصيهم بإنارة شعلة القرآن في قلوبهم، بإحياء آياته في حياتهم، حتى ما إذا تحدثوا إلى الآخرين وصافحوهم، شعروا بحرارة الإيمان في أيديهم، ولا يتم ذلك إلا بالمجاهدة والمكابدة، حتى يشتعل النور في القلب، ثم يقول الشيخ معلناً (أن اللغة عاجزة عن وصف ذلك النور) ويجب أن يذوق القلب بنفسه حتى يعيش النور في واقعه، ويستضيء به كل من حوله.

ثم يورد كلاماً بديعاً عن حمل كتاب الله، فيقول (أيها الأحبة المكابدون، إن حمال هذه الحقائق الإيمانية في الأمة اليوم هم القليل، وإن الحامل لجمرة واحدة من جمر آية واحدة، يكتوي بلهيبها، ويستهدي بنورها، لأنفع لنفسه وللناس -بإذن الله- من مئات الحفاظ للقرآن كاملاً، الذين استظهروه من غير شعور منهم بحرارته، ولا معاناة للهيبه، ولا مشاهدة لجماله وجلاله. فلا يحقرن نفسه صاحبُ الآية والآيتين، إذا كان حقاً ممن قبض على جمرهنّ بيد غير مرتعشة، وارتقى بقراءتهن إلى منازل الثريا، نجماً ينير شبراً من الأرض في ظلمات هذا العصر العصيب).

أما الرسالة الثالثة، فقد كانت الأشد حرارة، والأسطع ابتهاجاً، وقد ضرب لحال القرآن بيننا كمثل النيزك الذي يهبط من السماء، إلا أن الفرق الشاسع أن النيزك ينزل حاراً ثم ما يلبث أن يبرد لهيبه، ومع الأيام يصبحاً حجراً كأحجار الأرض، أما كلام الله، فهو القادم إلينا من خارج واقعنا وعالمنا، هو الشهاب المنير، الذي أنار وينير وسينر حتى آخر الزمان، والمطلوب منا أن لا نتعامل معه كنصوص متعلقة بزمانٍ غابر، بل على أنه وحي، صلة أبدية للأرض بالسماء.

ويقول في هذه الرسالة (إن ذلك النيزك الناري الواقع من السماء إلى الأرض، ما يزال يحتفظ بأسرار العالم الخارجي الذي قدم منه، إنه فِهرِست مكنون، لو تدبرته لوجدته يكتنز خريطة الكون كله، إنه لم يفقد حرارته ولا طاقته قط، وإنما حجب لهيبه رحمة بالناس، وتيسراً لهم، وتشجيعاً للسائرين في الظلمات على حمل قنديله الوهاج، والقبض عليه بأصابع غير مرتعشة، بل على احتضانه وضمه إلى القلب، نوراً متوهجاً بين الجوانح).

في الرسالة الرابعة يتحدث الشيخ فريد عن تدبر القرآن، ويعطي فيه كلاماً مقنعاً، فدافع عن حق التدبر المكفول لكل مسلم، فالتدبر ليس حكراً على العلماء، ويكفي العامي أن يعرف بعض معاني الكلمات الغائبة عنه حتى يتمكن من الغوص في عمق الآية واستخلاص ما يفيده منها وما يثري حياته.

يوضح الشيخ فريد الفرق بين التفسير والتدبر، فالتفسير هو الكشف والبيان، ويكون في الغالب من أجل النشر والإذاعة، فالمفسر يجب أن يكون عالماً كي يبلغ ويساعد غير المتعلم في فهم كتاب الله، أما المتدبر فإن غايته تبليغ نفسه، والتفاعل مع آي القرآن لإصلاح حياته، وكلام الله في المجمل هو كلام يستوعبه قلب الإنسان العادي ذو الحدود الدنيا، ويجد فيه ما يهمه لأن يصلح ويُصلح.

التدبر -من تفعل- هو النظر إلى دبر الشيء، إلى ما تخلفه الآية من آثار في النفس والحياة، هو الخطوة التالية التي تنعقد على عاتق التالي لكتاب الله، أن يقرأ الآية ثم يفكر في الحياة والكون، في التقاطعات بين مجريات حياته وكلام الله الخالد، وقد ذكر الشيخ فريد العديد من الأمثلة لكيف يمكن للإنسان أن يتدبر أبسط الآيات، ليخرج منها بأعظم الفوائد.

إن المفسر أو المطلع على أقوال المفسري، المتعمق لمعاني وسياق الآيات، تحصل له فائدة أكبر عند التدبر، كذلك العالم بأمور الحياة، من طب وجيلوجيا وهندسة وغيرها، سيتمكن من الغوص أعمق في بحار التدبر، لكن حتى الإنسان البسيط ذو العلم المحدود، سيجد من الآيات الكثير مما يغوص فيها بعقله وفكره.

يقول الشيخ فريد (إن المسلم، أي ملسم، إنما عليه أن يصطحب مختصرا صغيرا من كتب التفسير، وذلك فقط حتى يضبط بُوصلة الاتجاه العام لمعنى الآيات، ثم يشرع آنئذ في التدبر للقرآن، ولا حرج، لأن التدبر لكتاب الله لا ينبني عليه حلال ولا حرام، ولا تصدر عنه فتوى ولا قضاء، وإنما هو مسلك روحي يقود القلب إلى التوبة والإنابة، وإلى مجاهدة النفس من أجل الترقي بمراتب العلم بالله)

ثم يورد الشيخ فائدة جميلة حول الفرق بين التدبر والتفكر، فالتدبر هو النظر في آيات الله المسطورة، والتفكر هو النظر في آيات الله المنظورة، في النفس والآفاق، في العالم والإنسان، في قصص البشر وما فيها من عبر، وهاذين الأمرين؛ التدبر والتفكر، يؤولان معا إلى مصطلح قرآني مركزي ثالث، هو (التذكر)، فيقول: (فالتدبر للقرآن يقودك إلى التفكر في الوجود، والتفكر في الوجود يعود بك إلى القرآن، وهما معا في جميع الأحوال يثمران تذكراً للقلب وذكرى).

ويختم الشيخ فريد برسالة أخيرة هي الخامسة في ترتيبها، يتحدث فيها عن الإخلاص، الإخلاص الذي يحتاجه أكثر من غيره؛ من كرس وقته وجهده للدعوة إلى الله والعمل في سبيله، وكم من جهود تُبدد وأوقات تضيع بسبب البعد عن الإخلاص، وكم من مطحنة تطحن الهواء وتفرغ طاقتها النفيسة في غير ذات جدوى، بسبب ضعف الإخلاص، وهو بكلماته تلك، يشدد أكبر تشديد على متابعة القلب ومحاسبته وسؤاله دائماً، لماذا تفعل ما تفعل، ولمن تفعل؟

وهكذا تنتهي كلمات الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله برسالته الأخيرة التي بعثها في منتصف عام 2009، ولم تمضي سوى بضعة أشهر حتى رحل عن عالمنا الدنيوي وانتقل إلى العالم الحقيقي، العالم الذي أتى منه ذلك النيزك الذي حدثنا عنه في كتابه، ونحن، ومع نهاية هذا الكتاب، لا نملك إلا أن نودع روحه التي أودعها لنا في سطور وكلمات، فإلى اللقاء يا شيخنا الفاضل، إلى لقاء قادم في عالم آخر، فإنا نشهد الله أن الأرواح قد تعارفت، وأن القلوب قد تآلفت، ولم يبقى إلا أن نحسن فنفوز، ثم نلقاك هناك، عند الحوض، إن شاء الله، وبرحمته وفضله.

لا تقارن حقيقتك بوهمهم

فوق كتلة إسمنتية تطل على البحر، جلست أنا وصديقي نتذوق حلاوة المنظر، أمسكت الهاتف والتقطت صورة ثم رحنا نتأملها سوية، نظر إليها وقال مفكراً؛ لو أني نشرت هذه الصورة في حسابي في الفيسبوك، لتمنى الناس أن يكونوا مكاني، سيعتقدون أنني أتجول سائحاً في هذه البلاد وأعيش على هرم السعادة، لن يعرفوا أن ما أتى بي إلى هنا ليس سوى المرض، مرض الزوجة الذي ما وجدت له دواءاً في بلدي، فأتيت إلى هنا ألتمس الدواء، قد يعتقد من يشاهد هذه الصورة الجميلة أن قلبي يحلق في أجواء السعادة، بينما الهم يقبع فيه، فما جئت لأبحث عنه عجزت أن أجده، وهائنا أصل لنهاية رحلتي دون أن أجد الدواء، سأعود بالمرض الذي أتيت به، هذا الهم الذي أحمله لن يظهر لهم في الصورة، وعلة التواجد في هذه الأرض لن تكتب على واجهتها، سيشاهدون فيها الوهم وستغيب عنهم الحقيقة.

نعم، إنه الوهم، ما تشاهده عبر الصور -الثابت منها والمتحرك- ليس سوى الوهم، لكن المشكلة أنك تقارن حقيقتك بوهمهم، تقارن حياتك المترنحة ما بين فرح وحزن، وألم ومتعة، بتلك الأوهام التي تبنيها في عقلك كلما شاهدت صورة تنضح منها رائحة السعادة، أو تقارن حياتك بحياة تُعرض عليك عبر مقطع لا يُريك من الجمل إلا أذنه، تتحسر، تتمنى، ثم تسعى وتشقى، وقد كان يعفيك عن هذا كله؛ غض بصرك عن صورة قد تؤذي روحك.

في الغالب؛ الناس السعداء حقاً لا ينشرون صورهم على الشبكة، ليست قاعدة ولكن المنطق يقول؛ أن من يمتلك السعادة بالفعل لن يجد أي دافع لينشر صورته التي تظهر للناس سعادته، بينما العكس صحيح، من هو مدمن لنشر صوره التي تُظهره بأحسن حال وفي أفضل مكان، هو من يفقد السعادة، فهو يتلمسها بين حروف الشاكرين وانبهار المارين، فترتفع كلما زادت عدد اللايكات، وما أن تهبط في دهليز النسيان إلا ويسارع في نشر صورة أخرى ليحصل على جرعته التالية من تلك السعادة الزائفة.

هنالك آية في كتاب الله الكريم تشير إلى هذا المفهوم، يدعوك الله فيها أن تغض بصرك عن حيوات الآخرين وما فيها من تفاصيل، فكل حياة فيها ما فيها، ولا يعلم ما فيها سوى العليم.

(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) {131 طه}.

لا تمدن عينيك …

هذه الآية ينبغي أن تكون قاعدة ذهبية نسير بها في الحياة، وهي أشد أهمية في هذا العصر من أي عصر سابق، فقديماً، حين يفكر المرء أن يمد عينيه، قد يمدها لجاره، لصديقه، لشخص يلقاه في محافل المدينة، إن حالفه الحظ فقد يمد عينيه في اليوم بضع مرات، فهو محصور في مكانه مقيد بزمانه، أما اليوم، فما أسهل مد العين، ما أسهل أن تغوص في الصور وتشاهد ثم تشاهد ثم تشاهد، فإن مليت من الصور الجامدة، فهنالك من الفيديوهات والـ(فلوقات) ما يمتع ناظريك، أشخاص يعرضون لك أفضل أجزاء حياتهم، يصورون ساعات طويلة، ثم عبر برامج المونتاج، يقتنصون الأفضل والأحسن، زهرة الحياة الدنيا، ليهدوها إليك حتى تسلي بها وقتك، وأنت تشاهد في ملل، تتمنى … تتحسر ثم تسعى وتشقى.

لا تمدن عينيك …

ليست تلك سوى صور يختفي خلفها ألف ألم، ليست سوى مشاهد يقبع من ورائها ألف هم، لا تمدن عينيك كي تعيش سعيداً راضياً، لا تمدنها كي لا تتلاعب تلك الصور بالرغبة في قلبك، فتميل بك يميناً ويساراً، فساعة تريد هذا، وساعة تريد ذاك، لا تمدنها كي لا تغويك عن مسارك، فتصبح مشتتاً لا تدري ما تريد، لا تطيل النظر كي لا تطول حسرتك على وقتك المهدر.

لا تمدن عينيك، ولا تشغل الناس بمد أعينهم إليك.

حبكة درامية رائعة في فيلم Knives out

يعتبر (Knives out) أحد الأفلام المذهلة في حبكتها الدرامية، أو ما يسمى بـ (Plot twist) والتي تترجم على أنها (تغير غير متوقع للأحداث)، بالنسبة لي هو أحد أكثر الأفلام إمتاعاً وإدهاشاً مما شاهدته في السنوات الأخيرة، صحيح أنني لم أخرج منه بأي معنىً عميق أو فائدة معرفية أو فكرية، لكنه يستحق الإعجاب والإشادة.

يبدأ الفيلم بحضور محقق شرطة لأخذ أقوال أفراد أسرة توفي أبوهم قبيل أيام، أما طريقة الوفاة فقد كانت (انتحاراً)، الأب هو كاتب مشهور له روايات منشورة بعشرات اللغات وملايين النسخ، وقد خلف وراءه ثورة طائلة، يظهر في غرفة المقابلات رجل يحسن فن الإنصات ويتضح فيما بعد أنه رجل تحقيقات مشهور تم استئجاره لكشف شيء غامض تفوح رائحته حول القضية.

مسار القصة وعبقرية الإخراج تدفعك للشك بأكثر من طرف بأنه المتسبب في عملية القتل، وكلما اقتربت من حبك نسيج القصة في رأسك تأتي الأحداث لتقلب الطاولة وتعيدك إلى مسار مختلف تماماً، فالفيلم لا يحتوي على (بلوت توست) واحدة، بل عدة (توستات) مركبة واحدة فوق الأخرى.

في جزء مبكر من الفيلم، تكتشف -كمشاهد- السر، لكن تشك أنه قد يكون فعلاً السر، فكيف للنهاية أن تعلن منذ البداية، ثم يتضح أن تشككاتك في محلها، فالأحداث تخبئ المزيد والمزيد.

الفيلم نجح في الجمع بين أمرين؛ نهاية سعيدة، وأحداث غير رتيبة، فأفلام النهايات السعيدة عادة ما تبدو مملة وأحداثها متوقعة، بينما تميل أفلام النهايات الغير سعيدة بأن تعطي (بلوت تويست) قوية، أما هذا الفيلم فقد نجح بأن يخيب توقعاتك وأن يلبي تطلعاتك.

هنالك لمسات إخراجية جميلة، وأداء مميز لعدة ممثلين في الفيلم، أهمهم (دانيال كريج) الممثل البريطاني الذي أدى دور (جيمس بوند) في أفلام سابقة، فقد ظهر بلكنته البريطانية وسط الأمريكان فأعطى تنوعاً في المذاق وتنغيماً في الأصوات.

مخرج الفيلم شخص يدعى (رين جونسون) وهو من كتب القصة كذلك، وهذا أحد أسباب تميز هذا الفيلم، أن كاتب القصة والمخرج شخص واحد، فمن كتب القصة سيعرف فعلاً كيف يخرجها بأفضل طريقة.

في نهاية المطاف يمكن اعتبار هذا الفيلم مادة ممتعة نظيفة نسبياً، فهو خالي من المشاهد الخادشة للحياء (تقريباً)، ولا يحتوي إلا على القليل من كلمات الشتم والسباب.

خيال ليو تولستوي في عشر قصص قصيرة، مراجعة كتاب: بدائع الخيال

ملاحظة: قدمت مراجعة سريعة للكتاب في فيديو في قناتي، انقر هنا للذهاب إليه

ما إن عرفت أن تلك القصة مذكورة فيه، حتى بادرت بتحميله والبدئ بقراءته، لحسن الحظ كانت مؤسسة هنداوي قد وفرت نسخة رقمية محترمة من هذا الكتاب، إنه كتاب: بدائع الخيال، والذي يحتوي على عشر قصص قصيرة مختارة مما أبدع به الأديب الروسي: ليو تولستوي.

بداية الحكاية كانت قبل عدة أشهر، حين شاهدت خطبة للدكتور عدنان ابراهيم بعنوان (باخوم وصناعة التعاسة) لأكتشف أن “باخوم” هذا هو بطل قصة ألفها الأديب الكبير “تولستوي”، سمعت القصة في نهاية الخطبة (تتوفر في مقطع منفصل بمونتاج جميل) فما كان مني إلا أن أصبت بالدهشة لجمال وعبقرية هذه القصة، والتي -بطريقة غير مباشرة- قد أدخلتني إلى ساحة هذا الأديب الكبير.

بعد عدة أشهر، وعبر منشور صغير في الفيسبوك تبعه سؤال عارض، علمت أن القصة مذكورة في كتاب (بدائع الخيال) وأن مؤسسة هنداوي توفره ضمن أسطول كتبها المجانية، فحملته، ثم بدأت بقراءته، وقد قرأت قصة باخوم التي كان ترتيبها الثالث، بعنوان (كم يحتاج الإنسان من الأرض) فكانت كما سمعت وأجمل.

الكتاب ليس بالكبير،لا تتجاوز صفحاته المئة، وقد أبدع المترجم (عبدالعزيز أمين خانجي) في نقلها إلى العربية، بكلمات سهلة وعبارات رشيقة، كما أن السرد في أصله سلسل وسهل، وهذا كله يدفعك لأن تقرأ بانسيابية فلا تتوقف إلى في السطر الأخير، حين تصل لتلك الحكمة أو الكلمة التي تبقيك شارد التفكير لدقائق متأملاً فيما قرأت.

توحي لك تلك القصص أن كاتبها شخص نبيل يتسم بالورع والتقوى، هنالك توجه قوي لمبادئ الرحمة والتسامح وغيرها من الأخلاق الفاضلة، ولا عجب في هذه السمة السائدة على جو القصص حين تعرف أن هذا الأديب هو من دعاة اللاعنف بكل قوة، ويكفيك أن تقرأ كتابه (ملكوت الله في داخلكم) لتعرف المنبع الأخلاقي الذي انبثقت منه تلك القصص.

ملامح القصص

سأحاول في السطور التالية أن ألخص الجو العام لكل قصة بعبارة قصيرة (دون أن أحرق القصة):

الأولى: بمَ يعيش الناس؟: القصة تجيب عن هذا السؤال، الإجابة تكمن في كلمة واحدة، لا أريد هنا أن أخبرك بها فأحرق عليك الخاتمة الملهمة، لكن يكفي أن أقول لك أنك ستظل تفكر في الأمر كثيراً بعد القراءة، وتتأمل فيما حولك وتثير هذا السؤال في كل مناسبة: بمَ يعيش الناس؟

الثانية: مشرب سورات: اجتمع ثلة من أناس من مشارب مختلفة وأديان متعددة في (مشرب سوارت) في الهند، فثار سؤال فيما بينهم حول (الإله) فبدأ الجميع في التحدث واحداً تلو الآخر، كلٌ وفق دينه ومذهبه، كلٌ يتحدث عن الإله الذي يعبده.

الثالثة: كم هو نصيب الإنسان من الأرض؟: هي قصة الإنسان في كل الأزمان، حين يتحول من القناعة إلى الطمع، حين يسعى دون أن يشبع، هي قصة الجمع والتكاثر، هي قصة تحكي حكمة جليلة وتصل بك إلى نهاية غير متوقعة، من أعجب القصص وأروعها.

الرابعة: ابن العراب: قصة متشعبة أحداثها كثيرة، رحلة يختلط فيها الواقع مع الخيال، عدة حِكَم تتزاحم في خضم سرد متواصل، تستحق أن تُبسَط في رواية كاملة.

الخامسة: مكيدة شيطانية: حين فشل الشيطان في إغواء القروي البسيط، جنح إلى تدبير مكيدة خبيثة، ظاهرها فيه الخير وباطنها في الضياع والخسران، هي قصة بسيطة تخرج منها بأكثر من حكمة، أحدها أن ما قد يكون خيراً لك في الظاهر، قد يكون شراً لك في الباطن.

السادسة: ثلاثة أسئلة: ثلاثة أسئلة تدور في عقل الملك دون أن يجد لها جواباً شافياً، ثم يقرر أن يزور ناسكاً مشهوراً عله يجد الجواب عنده، فتحدث أحداث وتقع أمور، ومن خلالها يعرف الجواب، فيكون جواباً عملياً من واقع تجارب الحياة، وهنا حكمة تخرج بها من القصة: أن الحياة كفيلة بأن تجيبك عن أسئلتك، فلا تستعجل، فقط أكمل الرحلة واستمر في طرح الأسئلة.

السابعة: إلياس: قصة قصيرة لشخص يدعى “إلياس” يخبرك فيها المؤلف ما هو سر السعادة عبر ما حدث لإلياس.

الثامنة: قمحة في حجم بيض الدجاج: قصة تثير عندك شجون الماضي، وخاصة إن كنت كبيراً في السن، فتتذكر كيف كان العالم وكيف أصبح، وماذا قد تغير وأي شيء قد تبدل.

التاسعة: ثمن باهظ: من القصص العجيبة والطريفة، حكاية دولة صغيرة مواردها قليلة جداً، ثم تحدث جريمة قتل، فتحدث مشكلة، ويحتار الملك ومعاونوه، ثم تؤول الأمور إلى مئالات عجيبة لا تملك معها إلا أن تضحك أو تبتسم. (قمت بإلقاء القصة في فيديو ونشرته في اليوتيوب).

العاشرة: الأسطورة الهندية: العمل والمرض والموت: عبارة عن أسطورة متداولة بين الهنود الحمر، عن الإنسان وكيف تطور المجتمع من البساطة والبدائية إلى التعقيد ثم التباغض والحروب.

روابط:

نظرة شاملة للتصوف ومراحله، وفاحصة للشاعر الصوفي: فريد الدين العطار

مراجعة لكتاب: التصوف وفريد الدين العطار، لعبدالوهات عزام (رابط التحميل)

والحلاج -في رأي العطار- ملوم؛ لأنه لم يلتزم صورة الشريعة؛ هو عند العطار بطل الصوفية، ولكنه سماه لص الطريق؛ لأنه باح بالسر وهو قد خالف الشرع، وبهذا استحق العقاب.

اقتباس من ذات الكتاب

ولازلت أتتبع كتابات أولئك الصوفيين الأوائل، علي أكتشف ذلك السر الدفين، الذي وجدوه ولم يتمكنوا من البوح به، فقد قال الغزالي قبلها ناصحاً تلميذه: اعمل واجتهد حتى تصل، لأن تلك الأمور ذوقية، تلك الأمور لا نقدر على الحديث عنها، يجب عليك أن تجربها بنفسك.

وقالها “جلالها الدين الرومي” قال أن هنالك سر لا يمكن البوح به، سر يعرفه العارفون، وما يكتبوه لنا هو بعض طراطيش الكلام، وفيه بعض التلميح، ومن تلك التلميحات نتلمس بصيص النور علنا نتعرف على بعض ملامح ذلك السر العظيم، بالطبع هو عظيم، لأنه يرتبط بالعظيم، بالملك جل جلاله.

انتقلتُ من الغزالي إلى جلال الدين الرومي ثم تاقت نفسي لقراءة كتاب “منطق الطير” والذي هو عمل أدبي صوفي كتب أصلاً بالفارسية، أما كاتبه فهو “فريد الدين العطار” ثم وجدت كتاب يتحدث عنه وعن كتابه ذاك فقررت أن أقرأه أولاً حتى أدخل على حضرة العطار من باب الوقار، فأعرف أولاً لمن أقرأ، أما هذا الكتاب فهو (التصوف وفريد الدين العطار) للمؤلف: عبدالوهاب عزام المتوفي سنة 1959، وهو مفكر وكاتب وشاعر ترجم الكثير من الأعمال الفارسية إلى اللغة العربية باحترافية عالية، ويكفيه فخراً أنه من نقل إلينا أعمال الشاعر الكبير: محمد إقبال.

أقسام الكتاب

ينقسم إلى أربعة أقسام:

  • التصوف الإسلامي: نشوؤه وتطوره
  • التصوف والأدب
  • فريد الدين العطار
  • تصوف العطار

في الفصل الأول يذكر المؤلف (أصل التصوف) ثم يتحدث عن تطوره في ثنايا الحضارة الإسلامية، وقد ذكر كلاماً جميلاً مرتباً وقسم التصوف إلى مراحل وأطوار، وذكر في ثنايا ذلك بعض الشخصيات التي ظهرت في القرن الهجري الثاني (مثل الحسن البصري والفضيل بن عياض، وسفيان الثوري ومالك بن دينار وغيرهم)، على أنهم من أوائل الصوفية دون أن يكون هذا المصطلح معروفاً في ذاك الزمان، وقد وصفهم الكاتب بأنهم (غلب علي جماعة من هؤلاء الحزن والصمت).

ثم أتى جيل بعدهم، وصفهم الكتاب بأنهم (أعظم زهداً، وأقسى على أنفسهم، وأشد تذليلاً لها)، وقد شاعت تسمية (الصوفية) في أواخر القرن الثاني، ومن أمثلة أولئك (ابراهيم بن أدهم البلخي، وبشر الحافي المتوفي سنة 224هـ) وأيضاً (معروف الكرخي)، وممن ذكرهم في الكتاب (السري السقطي) وهو ما يذكر عنه شدة الورع والانغماس في العبادة والتبتل (انقر هنا لقراءة بعض أقواله وآثاره).

وقد تميز أولئك القوم بالتسليم والتوكل على الله في كل الأمور، وخوف من الله دائم، وسوء ظن بأنفسهم وتحقير لأعمالهم مهام عظمت.

ثم أتى جيل آخر من العباد والزهاد، كان ذلك في القرن الثالث الهجري، وغلب عليهم المعرفة والتأمل والحب الإلهي والفناء، وممن عاشوا في هذا العصر: ذو النون المصري – يحي بن معاذ الرازي – أبو يزيد البسطامي – سهل بن عبدالله التستري – والجنيد البغدادي – أبو عبدالله المحاسبي – الحلاج، ثم أخذ المؤلف بتعريف أربعة من أولئك لتباين طريقتهم.

والجدير بالذكر أن البسطامي من أوائل الصوفيين الذين قالوا كلاماً أنكره عليهم الناس، ولا ندري أصحيح ما ينسب إليه أم غير صحيح، حيث تنسب إليه المقولة: “ما في الجبة إلا الله”، وهي العبارة التي فد تفسر على أنها تعبير عن الفناء أو وحدة الوجود، ويدافع عنه آخرون تارة بأن كثيراً مما نسب إليه ليس حقاً، وتارة بأن الصوفي في بعض الأحيان يغلب على أمره ويدخل في حال يغيب فيها وعيه (حالة السكر) من شدة حبه لله وفناءه فيه.

أما الجنيد البغدادي، فقد كان عالماً عارفاً، كان فقهياً يلبس لباس العلماء، قال عنه المؤلف (كان يمثل أهل الصحو كما يمثل البسطامي أهل السُّكر)

أما الحلاج فهو صوفي عجيب الأطوار، وقد روي عنه كلام انكره علماء بغداد، منه قوله (أنا الحق) فأفتوا بقتله، فصلب، وقد ذكره الدكتور علي جمعة في مقطع حديث وأوضح الإشكال في دقائق قليلة (انقر هنا للمشاهدة)

وهكذا ظهر أولياء الله ومحبيه في كل زمان ومكان، فكان لؤلئك أخبار وأحوال، وانتشرت طرائقهم وتعددت أورادهم.

وقد ظهرت فئة منهم حقروا المظاهر كلها، وانتهى بهم إلى التقليل من شأن التكاليف الدينية الظاهرية، وانفتح بهذا باب لضعاف النفوس فخرجوا من التكاليف وأوهموا أنفسهم أنهم بلغوا المقصود من هذه التكاليف، ووجد بعض من لا يبالون بالتصوف ولا بالدين رخصة إلى ما يريديون.

وهؤلاء ليسوا صوفيين وإنما مدعين، وقد أنكر عليهم هذا الجنيد والقشيري وغيرهم من الصوفيين الحقيقيين، فقال الجنيد (هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا، فإن العارفين بالله تعالى أخذوا الأعمال عن الله تعالى وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها).

التصوف والأدب

ثم تحدث المؤلف عن (التصوف والأدب) في فصل خاص، ذكر فيه بعض أدباء وشعراء الصوفية وبعض أشعارهم، وألمح إلى أن للشاعر والأديب لغته التي قد يستعين فيها بأمور من البلاغة، ومن الشعراء الذين غلب التصوف على أشعارهم ممن ذكرهم المؤلف: ابن الفارض – ابن عربي – غبدالغني النابلسي، وأورد المؤلف نبذة من كتاب (التوهم) للمحاسبي المتوفي سنة 243 هـ، وهو كتاب يحفزك على التخيل أو (التوهم) فتتوهم أنك في يوم القيامة ثم يسهب في التفاصيل والتخيلات.

وذكر المؤلف أيضاً اقتباسات من كتاب (المواقف) للنفري، وهو كتاب يحكي المؤلف فيه -بصورة تخيلية- بعض المواقف بين يدي ربه، وألواناً من الحوار بينه وبين ربه عز وجل، وفي صفحة الكتاب في Goodreads بعض المراجعات والاقتباسات منه.

ثم تحدث المؤلف عن الشعر الصوفي وأبرز رجاله، وقال:

وأما الأدب الفارسي، ويتبعه الأدب التركي والأدب الأردي فقد ترجم فكر الصوفية ووجدانهم بالشعر لا بالنثر.

وبلغ شعراء الفرس في هذه السبيل غاية لم يدركها شعراء أمة أخرى، فأخرجوا المعاني الظاهرة والخفية والدقيقة في صور شتى معجبة مطربة وقد فتح عليهم في هذا فتحًا عظيمًا فكان شعرهم فيضًا تضيق به الأبيات والقوافي والصحف والكتب حتى ليمسك القارئ أحيانًا حائرًا كيف تجلت لهم هذه المعاني، وكيف استطاعوا أن يشققوا المعنى الواحد إلى معانٍ شتى، ثم يخرجوا كل واحد منها في صور كثيرة عجيبة كأنها أزهار المرج ونباته تزدحم في العين ألوانها وأشكالها وماؤها واحد وترابها واحد.

كان أبو سعيد بن أبي الخير الخراساني من رجال القرنين الرابع والخامس (٣٥٧–٤٤٠ﻫ) فارط شعراء الصوفية في الأدب الفارسي فنظم رباعيات كثيرة هي أحسن ما في الشعر الصوفي من رباعيات فيما أعلم، وجاء بعده عبد الله الأنصاري المتوفى سنة ٤٨١ﻫ وله ديوان في الشعر الصوفي، ثم جاء الشاعر الكبير مجد الدين سنائي الغزنوي المتوفى سنة ٥٤٥ فنظم حديقة الحقائق ومنظومات أخر، وتلاه فريد الدين العطار فأكثر وفاض ونظم نحو أربعين منظومة، ثم جاء مولانا جلال الدين الرومي شيخ شعراء الصوفية كلهم فاستولى على الأمد، ونظم الديوان وهو شعر صوفي رقيق بليغ، والمثنوي وهو شعر وفلسفة وأخلاق وتفسير للقرآن والشريعة بأسلوب صوفي، وقد سماه المجبون به القرآن في اللغة الفارسية، وقالوا عن صاحبه: لم يكن نبيًّا، ولكن أوتي كتابًا.

ثم جاء عبد الرحمن الجامي العلم الشاعر المتوفى ٨٩٨ﻫ وهو يعد آخر شعراء الصوفية العظام.

وإلى جانب هؤلاء شعراء كثيرون لهم في التصوف شعر جيد كابن يمين، والعراق صاحب اللمعات، والشيخ محمود الشبستري صاحب المنظومة كلشن راز (حديقة السر) وقسم الأنوار والمغربي، ولا ننسى الشاعر العظيم الذي فاق الشعراء طرًّا بجمال شعره ودقته وإن لم يبلغ في الشعر الصوفي الصريح وفي الفلسفة مبلغ كبار الشعراء؛ وهو حافظ الشيرازي.

ولا يخلو شاعر فارسي من نزعة صوفية تظهر في شعره؛ لشدة ما سيطر شعراء الصوفية على الشعر الفارسي منذ نبغ كبار الشعراء الصوفية إلى يومنا هذا.

وختم المؤلف هذا الفصل بنبذة عن الشعر التركي، والذي سار وتأثر بالشعر الفارسي، ثم ذكر البلاد التركية الشرقية (تركستان) والتي هي الآن (كازاخستان) وهي التي نبغ فيها صوفي عظيم في القرن السادس الهجري، والتي -كما قال- لا تزال طريقته شائعة في تلك البلاد وبلاد أخرى، هو (أحمد اليسوي) وقد نظم باللغة التركية الشرقية (الشاغاتية) ديوان أسماه (ديوان الحكمة).

تمت ترجمة كتاب (ديوان الحكمة) إلى العربية مؤخراً على يد أحد المترجمين التركيين

الفصل الثالث: فريد الدين العطار

في هذا الفصل تعريف للشاعر الصوفي “فريد الدين العطار” المولود سنة 513 هـ، وقد عاش ومات في نيسابور.

وحين تتبعت مكان وتاريخ نيسابور عبر فضاء الانترنت، وجدت أنها حالياً أحد مدن دولة إيران (تسمى حالياً نيشابور)، وقد دخلها المسلمون في السننة 31 هـ، وهنا فيديو مختصر يحكي تاريخها، وهذا فيديو آخر فيه معلومات مختصرة عنها، ولمن أراد التعمق فليقرأ صفحتها في الموسوعة الحرة.

ونيسابور هي أحدى مدن خراسان، وخراسان هذه أحد المعالم الإسلامية البارزة، هي منطقة وساعة شملت عدة مدن ونبغ فيها علماء ومتصوفون وأشخاص تركوا أثراً بعدهم، جزء منها حالياً يقع في إيران، وأجزاء منها في الدول المجاورة، وقد ذكر المؤلف عنها الفقرة التالية:

ولا يتسع المجال هنا لبيان مكانة خراسان في العالم؛ شعوبه، وتجارته، وثقافته؛ إذ كانت موصل إيران وآسيا الغربية وأوربا وأفريقية وآسيا الشرقية والشمالية؛ ولكني أكتفي بالإشارة إلى صلة هذا الإقليم بالتصوف، كثير من الصوفية الأولين عاشوا هم أو آباؤهم في هذه البقعة من الأرض؛ فإبراهيم بن أدهم، وشقيق البلخي، وبشر الحافي، وفضيل بن عياض، وأبو يزيد البسطامي، وحاتم بن علوان الأصم، وأبو حفص الحداد، وأبو عثمان الحيري، والقشيري، والغزالي، وأبو سعيد بن أبي الخير، والعطار، وجلال الدين الرومي؛ كل هؤلاء من هذا الإقليم أصلًا أو منشأ.

الفصل الثالث والرابع فقد تناول فريد الدين العطار بالتعريف والبحث وكذلك تصوفه وآثار تصوفه فيما كتب ووصل إلينا من أشعاره، والعطار كان يكتب الشعر في اللغة الفارسية لكنه حين نقل إلينا نقل نثراً في الغالب، وأشهر عمل له هو (منطق الطير) وقد قدم المؤلف لهذا العمل تعريفاً واختصاراً لمجمل ما قيل في فصوله وأجزاءه.

تناول المؤلف في احد الفصول تعريفاً لفريد الدين العطار ومكان ولادته وبحثاً وتقصياً لتاريخ وفاته، وهو التاريخ الذي لا تتفق عليه المصادر، والعطار لا يُعرف عنه الكثير، وأكثر معرفتنا به هي من خلال ما كتب ووصف به نفسه، لكن المعلوم أن أبوه كان عطاراً، وقد ورث هذه المهنة منه، ولذلك يلقب بالعطار، أما وفاقته فقد كان في المدينة ذاتها (نيشابور) ولديه ضريح هناك يمكن زيارته، أما تاريخ وفاته فمختلف فيه لكن أكثر الروايات تذكر أنه توفي في 627 هـ، ويذكر البعض أنه قتل حين هجم التتار على المدينة في ذات السنة والذي تسبب إلى مقتل معظم سكان المدينة بحسب المصادر.

كان العطار عطاراً يعطي الدواء لمن يحتاجه في دكانه، وقد بدأ التأليف وهو لايزال عطاراً يعمل في الدكان، وكان صوفياً حين كان عاملاً في دنياه، لكن انقطع بعد ذلك وترك حانوته وسافر إلى بلدان وصاحب مشايخ وأولياء.

وسواء أقُتل العطار أم مات فقد فارق عيشة حزينة قلقة وهو يقول: «عاش ولم يرَ وجه الحياة.»
كان صوفيًّا ناسكًا قطع من الدنيا علائقه، وعاش زمنًا طويلًا معتزلًا متعبِّدًا متأملًا ناظمًا عقائده وآراءه وتجاربه، والظاهر أن هجرة العطار، وانقطاعه للتصوف أدى به إلى الفاقة، وكان أعفَّ وأزهدَ من أن يسأل الناس المعونة أو يقبل من أحدهم هبة

للعطار منزلة كبيرة بين الشعراء الصوفيين، ويمكن أن يكون هو وجلال الدين الرومي أشهر شاعران صوفيان كتبا بالفارسية، وقد ذكر المؤلف بعض قول العطار عن نفسه وعن شعره (اعتداده بنفسه) ثم ذكر بعض أقوال الآخرين عنه.

يقال أن العطار بارك جلال الدين الرومي في صغره وأعطاه كتابه حينما مر بنيسابور صبياً في صحبة أبيه وهو في طريقه إلى العراق، ويقال أن الرومي من أتباع العطار يدور حول كوكبه.

وقصارى القول: إن الصوفية والأدباء يكادون يجمعون على أن العطار وجلال الدين الرومي أكبر الصوفية من شعراء الفرس، وإن يكن جلال الدين أبعد ذكرًا وأوضح طريقة.

وأحسن ما قيل في القياس بينهما ما رواه مؤلف «هفت أقليم» أن صوفيًّا كبيرًا سُئل عنهما فقال: إن الرومي بلغ قمة الكمال — كالنسر — في طرفة عين، والثاني بلغ القمة نفسها، ولكن كالنملة بعد سير طويل ودأب لا يفتر.

ثم ختم المؤلف هذا الفصل بذكر مؤلفات فريد الدين العطار، والعطار غزير الكتابة، كتب الكثير وألف الكثير من الشعر الفارسي الصوفي، وقد عدد مؤلف هذا الكتاب 22 كتاباً وذكر أن هنالك كتب أخرى تنسب إليه، لكنه اكتفي بما هو متحقق منه.

تصوف العطار

تصوف العطار واضح لا يمتلئ بالرمزيات كما -مثلاً- في أشعار حافظ الشيرازي، يقول حيناً في أشعاره أنه بلغ وأبلغ كلما في الخاطر، وأحياناً يقول بأن كيف له أن يظهر ما لا يمكن إظاهره، وهو الشائع بين الصوفية في عدم الإفصاح عن كل الأسرار والأمور الذوقية، فكيف للكلام أن يصف ما لا يمكن بلوغه إلا بالذوق؟

العطار يعظم رسول الله والشريعة، ويعلن أن كل أدلته مستمدة من القرآن، وقد عقد فصولاً كثيرة يبين فيها اتفاق الشريعة والحقيقة.

يعترف العطار في بعض أقواله أن العقل باحث ذكي مدقق أحياناً، وأنه يدرك نظام العالم، وأنه هدى إلى الرشد، ولكن لا ينبغي أن يقف الإنسان في مستواه، وعليه أن يسمو إلى مستوى العشق.

يقول العطار: إذا اجتمع العقل والدين والعشق أدرك الذوق كل الأسرار التي يبتغيها الطالب

يذكر المؤلف بعد ذلك رأي العطار في الفلسفة، ثم تصور العطار لله والعالم والإنسان، ويذكر فيها موضوع “وحدة الوجود” والفرق بين تصوفر العطار وبقية الصوفية لهذا المفهوم وتصور الفلاسفة اليونان

العالم عند العطار هو تجلي الله، أو هو كالظل من الشمس، والصورة في المرآة، وقد ضرب في «منطق الطير» مثلًا، ملكًا لم يجرؤ أحد على رؤيته أو لقائه، فأراد أن يمكِّن رعيته من رؤيته فصعد فوق قصره وأمر أن توضع مرآة على الأرض تجلى فيها وجهه فرأته الرعية.

ثم يتحدث المؤلف عن (الله والإنسان) ويذكر كلاماً ممزوجاً بأقوال العطار وغيره من الصوفيين، ويحاول أن يفسر مغالاة بعضهم وقولهم (أنا لله) وهي العبارة التي ذكرت أيضاً في أحد كتب العطار، يتحدث العطار عن الروح وعن النفس وكيف نزلت وكيف تتصل بالعالم. ويعقد المؤلف فصلاً آخر بعنوان (القضاء والقدر) وماهي فلسفته في هذا الخصوص، ولعلنا نكتفي بهذا الاقتباس:

يتحدث المؤلف بعد ذلك عن الطريقة وعن الحال والمقام (في فصل سماه: الطريقة) وذكر قولاً مفيداً للقشيري حول الفرق بين الحال والمقام، ثم يورد بعض أقوال العطار وغيرهم فيما يخص “الهدف” الذي لا يمكن بلوغه، والطريق الذي لا نهاية له:

غاية الطريق التي يسير إليها الصوفي تكاد تكون غاية لا تدرك. يقول: «إنك تسير في طريقه مائة قرن ثم تجد نفسك عند الخطوة الأولى»، وهذا يذكرنا بقول الشيخ سعدي الشيرازي في مقدمة الكلستان: “يا من هو فوق الخيال والقياس والوهم، وفوق كل ما قالوا وسمعنا وقرأنا! انتهى المجلس وبلغ العمر منتهاه ولا نزال كما كنا في أول وصفك”

ويقول العطار: “كيف أمضى قدمًا وكأن مائة وادٍ تلوح في كل نفس؟ لا علامة في هذه الطريق، وإنما علامته الواحدة أن لا علامة فيه”. وفي (مختار نامه) يعقد الشاعر فصلًا بهذا العنوان: «في اليأس والاعتراف بالعجز». وسواء أكانت الغاية مما يدرك أو ما لا يدرك فيجب على السالك أن يفكر فيها ويعمل لها دأبًا.

ملخص كتاب منطق الطير

ويختم المؤلف كتابه بوصف وتخليص لما جاء في كتاب “منطق الطير” فقد ذكر باختصار تلك الوديان السبعة التي تقطعها الطيور في سيرها إلى الملك، ثم يورد بعض أقوال الطوير وكلامهم مما ذكره العطار في ملحمته كما يسميها البعض

بعد أن يتزود السالك بالخلال التي بينها الهدهد، في القسم الأول من منطق الطير، يبدأ رحلته فيقطع الأودية السبعة التي وصفها في القسم الثاني من الكتاب الذي سماه مقامات الطيور، وهي أودية: الطلب، والعشق، والمعرفة، والاستغناء، والتوحيد، والحيرة، والفقر والفناء.

وهي أودية متشابهة بما ملأتها حماسة العطار وغلوه بالهول والحيرة؛ ولكن لكل وادٍ، بجانب الأوصاف العامة، خصائص تميزه من غيره.

وهكذا ينتهي هذا الكتاب الماتع، الذي طاف بأودية التصوف وجال في عقول الأولياء، ثم ختم بالغوص عميقاً في عقل أحد روادهم، إنه العطار، فلله دره، ولله درهم، أولئك الذين تباركت الأرض بهم، فلم يغادروها حتى نثروا فيها بعض أزهارهم، ولازلنا نشتم روائحها الزكية حتى اليوم، ونتعطر برحيق كلماتهم.

انتهيت من قراءة الكتاب في الثالث عشر من شهر أبريل 2020 (عام الكورونا)، وصلى الله وسلم على رسوله الكريم.

لماذا نصلي على رسول الله

لقد حمل الرسالة في قلبه، وتلقينا الوحي من فمه، الوعاء الذي حمل كلام الله، كلام الله العظيم، ذلك النور الذي لا تطفئه الأيام، ولا تخمده الأحداث، فكيف بالوعاء الذي حمل هذا النور الأبدي الخالد، إنه لوعاء عظيم، هو الرسول الكريم، محمد طب القلوب، وحبيب الأرواح.

أرأيت إن أسدى لك أحدهم معروفاً، وخدمك خدمة جليلة تغيرت بها حياتك، كيف تذكره عند غيره، كيف تثني عليه، ولأنك أدنى منه منزلة، فإنك لا تقدر على مكافأته، فلا تملك إلا أن تدعو له كلما ذكرته، فما بالك بمن أسدى لك أعظم معروف، وخدمك أعظم خدمة، الخدمة التي بها اهتديت، هو من بسببه سطع النور في قلبك، فعرفت خالقك وسَعُدَت بذلك حياتك، هو الذي أعطاك نموذجاً بشرياً قابلاً للتطبيق، فخرجت منه بأعظم الأخلاق، فأي خدمة بعدها إن لم تكن هذه أعظم خدمة تلقيتها في حياتك من بشر قط.

حين تشعر بالمن والفضل، حين يمتلئ قلبك امتناناً وعرفاناً، حينها لن تملك إلا أن تدعو له، أن تصلي عليه، وما صلاتنا على الرسول الأكرم إلا دعاء له بالرحمة مع التعظيم (كما قال العلماء)، ورغم مكانته السامية عند خالقه ومُحِبه، إلا أن فضل الله لا حد له، وعطاءه لا نهاية له، لذلك نحن ندعو ونرجو أن يزيد الله في رفعة ومكانة هذا الإنسان العظيم في الدار الآخرة (صلى الله عليه وسلم).

نحن نصلي عليه لأنفسنا ليس له، كي نكون بشراً أسوياء، أن ننمي في قلوبنا مشاعر الامتنان، سلوك الشكر والثناء، فأي إنسان ذاك الذي لا يَشكر، يتلقى الهبات ولا يكلف نفسه أن يذكر، أما الإنسان السوي، فإنه يذكر صاحب الفضل في كل مناسبة وعند كل فرصة، يذكره بالخير ويحدث الناس عن فضله، وفي قلبه هو يدعو له، وعندما يتعلق الأمر برسول الله، فإننا نصلي عليه (صلى الله عليه وسلم).

الصلاة الحقيقة على رسول الله هي تلك التي تخرج من قلب محب، مستشعر بعظمة ذلك الإنسان، بتضحياته ومسيرة حياته، بأخلاقه وعظيم صفاته، أما صلاة اللسان والقلب غفلان، فأي صلاة تلك، وأي قلب ذاك، الصلاة الحقيقية هي التي تشغل العقل بالتفكير، واللسان بالترديد.

يأمرك الإله بهذا فيقول: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ).