الزواج بعد موت الزوج أو الزوجة

إنني بعد التأمل والتفكير، قد استنتجت أشياء كانت غائبة عني، فأنا -مثل غيري- كنت أبادر إلى الاعتقاد بأن الشخص الذي يتزوج مباشرة بعد موت زوجته الأولى، أنه قليل الوفاء ضعيف الحب لزوجته السابقه، وهذا للأسف تفكير طفولي سطحي، بل قد يكون زواجه السريع من أكبر الدلالات على حبه ووفائه لحبيبته الأولى، وسأوضح هذا الأمر عبر تحليل منطقي بعد قليل، لكن أولاً دعوني أقف معكم عند هذا النص من سيرة نبينا العطرة (صلى الله عليه وسلم):

كانت خديجة رضي الله عنها من أحب خلق الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان رحيلها مصاحبًا لرحيل عمه أبو طالب، فأشفق الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بقائه وحيدًا فأرسلوا إليه الصحابية الجليلة خولة بنت حكيم زوجة عثمان بن مظعون تقترح عليه الزواج مجددًا فدار بينهما الحوار التالي:

فقالت: يا رسول الله، ألا تتزوَّج؟
فقال: “ومَنْ؟”
قالت: إنْ شئتَ بكرًا، وإنْ شئتَ ثيِّبًا.
فقال: “ومَنِ الْبِكْرُ وَمَنِ الثَّيِّبُ؟”
قالت: أمَّا البكر فابنة أحبِّ خلق الله إليك، عائشة رضي الله عنها، وأما الثيِّب فسودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك.
قال: “فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ”.

نكتفي بهذا القدر مما ذكر في كتاب ابن كثير، فما يهمنا هو قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة من الزواج ولم تجف بعدُ دموع قلبه على خديجه (رضي الله عنها)، فكيف نجمع بين فكرة (الحب والوفاء) و (سرعة الزواج)، حيث قد ذكر في بعض المصادر أن رسول الله قد تزوج بعد شهر أو أشهر قليلة من وفاة السيدة خديجة، ونحن نعلم شدة حب رسول الله لأمنا خديجة ودورها البارز في حياته، فقد كانت السند والصديق، كانت تملأ عليه حياته فترك رحيلها فجوة عميقة في قلب وحياة رسول الله.

ننتقل الآن إلى التحليل المنطقي، ويمكن البدء بهذه العبارة:

قد يكون اعراض الرجل/المرأة عن الزواج بعد وفاة الشريك دليلاً على ضعف حبه له، والعكس صحيح، قد يكون سرعة زواج الرجل/المرأة بعد وفاة الشريك دليلاً على قوة الحب والتعلق، لماذ وكيف هذا؟

عندما يكون حب طرف لشريكه ضعيفاً، فإن حياته لا تتغير كثيرًا برحيله، يمكن أن يستمر أشهر أو سنوات منشغلاً بتجارته أو عمله أو حياته، لأن حياته لم تتغير عن السابق، بمعنى: وجود زوجته في حياته مثل عدمه، الفرق بسيط والفجوة صغيرة يمكن للأيام أن تردمها ببساطة.

لكن، وكما هو الحال مع رسول الله بعد موت خديجة، حين يكون الرجل شديد الحب لزوجته، فرحيلها عنه يترك فجوة كبيرة في حياته، يظن أن الأيام كفيلة بردم تلك الفجوة لكن يظهر له العكس، فالفجوة تظل عميقة يوم بعد يوم شهر بعد آخر، وقد تؤثر هذه الفجوة سلبًا على مسيرة حياته فلا يصبح ذلك الإنسان الذي يرضاه عن نفسه ويرضى الله عنه، فما دام قد مد الله في عمره فهذا يعني أن عليه دورًا يجب أن يكمله، وكيف يكمل دوره وعمود أساسي قد اختفى فأصبحت الأيام ثقيلة على كاهلة، وحينها يكون الحل الأفضل هو تركيب عمود آخر كي لا ينهدم بناء الحياة وكي يستمر نهر العطاء.

كما ذكرت سابقًا، الرجل الذي لم تمثل له زوجته عمودًا أساسيًا في حياته، حين تكون مجرد حائط في الفناء الخلفي، حينها لا تتأثر حياته برحيل زوجته، لأن الحائط الخلفي ليس من أساسيات أو أعمده المنزل، وحياته تعود لطبيعتها بعد أيام أو أسابيع من رحيل الزوجة.

الزوجة سكنٌ كما ذكر الله سبحانه في كتابه (ليسكن إليها)، ومن المجحف أن نختزل الزواج في جانب الجسد فقط، بل الجانب النفسي والروحي أهم وأقوى، وربما كان الهدف من الزواج هو لإشباع الرغائب، لكن أيضًا يمكن أن يكون من أجل ردم جزء من الفجوة العميقة التي تركها شريك الحياة حين قضى الله عليه بالمغادرة باكرًا، ولنا في رسول الله أسوة حسنة.

كان ذلك تحليلاً لإثبات أن الزواج السريع قد يكون دليلاً لشدة الحب، فماذا عن الوفاء؟

خذوا هذه العبارة التي قد تكون صادمة للبعض (عديم الوفاء هو الذي يتزوج على زوجته في حياتها رغمًا عنها، وصاحب الوفاء هو الذي يتزوج بالثانية بعد موتها)، تلك كانت العبارة، وإليكم التوضيح.

معظم النساء لا ترضى أن تشاركها امرأة أخرى في زوجها، وقد يقدم بعض الرجال على الزواج رغمًا عن الأولى، فيحطم بذلك قلبها، وهذا الأمر -حتى وإن كانت للزوج أسبابه المنطقية- هو أكبر مظهر لقلة الوفاء، فكيف تضرب بمشاعر زوجتك عرض الحائط وهي التي شاركتك حلو الأيام ومرها، هي التي تركت بيتها وحياتها السابقة ورضيت معك بحياة جديدة وعشت معها سنوات طويلة، كيف وكيف وكيف؟

لكن ماذا عن الزواج بعد موت الزوجة، هل الأمر مشابه أم مختلف، إنه في حقيقة الأمر هو مختلف أشد الاختلاف، فالإنسان حين يخرج من الحياة الدنيا هو يخرج من كل شيء إلا عمله، هو يخرج من جسده ومن ماله، وكذلك يخرج من شراكاته السابقة.

أرأيت حين يكون الإنسان شريكًا في تجارة مع شخص آخر، ثم يموت هذا الشخص، هل يستمر شريكًا في هذه التجارة؟ لا، بل إن الشراكة تنتقل مباشرة إلى الورثة، وكذلك هو الحال في الزوج، فعندما يتزوج الرجل بعد رحيل زوجته لا يكون قد أدخل عليها شريكة، لأنها لم تعد تمتلك شيء من حطام الدنيا، ولا حتى زوجها، لذلك فليس في هذا خيانة أو قلة وفاء، بل قد يكون هو الوفاء بعينه، كيف ذلك؟

تموت النفس ويبلى الجسد وتستمر الروح في عالم البرزخ تراقب المشهد من بعيد، إن كانت صالحة فهي في نعيم ورضوان من ربنا الكريم، تتخلص تلك الروح من ثقل الجسد ومن درن النفس، تعلو في سماء العالم العلوي بعد أن تخلصت من كل الطبائع والصفات الأرضية، فلا يبقى إلا الحب، يبقى الحب الخالص تجاه كل المخلوقات وخاصة أحبابها الذين عاشت معهم وبينهم، تراهم من بعيد فتسعد كلما سعدوا وتتمنى لهم الخير والوصول بسلام إلى حيث وصلت، إلى رحمة الله ورضوانه، وكل خطوة تؤدي بهم إلى سعادة الدنيا والآخرة تفرحها، والعكس صحيح.

كم تتألم تلك الروح حين ترى أحبابها يمضون الأيام والاشهر في حزن وغم، هي لا تحب أن ننساها لكنها تحب أن نتذكرها بدون حزن أو ألم، نتذكرها ببهجة وسعادة مثل الطفل الذي يخبروه باقتراب الإجازة ولقاء الأصدقاء، هل يحزن ذلك الطفل أم يفرح، بل يفرح لأن هنالك متعة وخير قادم في انتظاره، وهذا ما يجب أن نكون عليه، أن يصبح تذكّر الأحباب دافعاً للبهجة محفزًا للعمل الصالح.

أنا متأكد من نقطة، وأظن في أخرى، أما الأكيدة فهي أن الروح تفرح حين يقرر شريكها أن يتزوج من بعدها، لأن هذا يساهم في تخفيف معاناته النفسية، وهذا يفرحها ويسعدها، وأما ما أظنه صحيحًا، فهو أن تلك الروح -التي رحلت وتركت شريك حياتها يعاني ألم الوحدة- قد ساهمت في إقناع الزوج بالزواج دون أن يشعر، أو ساهمت في الاختيار دون أن يدري، لا تسألوني كيف فعالم الأرواح له طُرُقه وأدواته، لكن هنالك شواهد وحكايات تؤكد هذا الظن.

إذن، فأنت تَفَي حين تُخرِج نفسك من دائرة الحزن، أنت تفي حين تستمر في رحلة العطاء والإحسان، أنت تفي حين تُري الله من نفسك خيرًا، وتُري من رحل إلى عالم البرزخ أنك تبلي حسنا، وتُري المؤمنين والمؤمنين والمؤمنات (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)

ويبقى الشيء المهم، أن يُحسِن الزوج/الزوجة الاختيار، حتى تكون هذه الخطوة فعلًا مخففة للألم والحزن، فيسعد هو في الأرض، وتسعَد هي في السماء.