التأدب مع القرآن كما يتأدب الطالب مع مدرسه

حين تجلس أمام الأستاذ تتعلم منه، ثم يحدث أن يتحدث عن شيء أنت تعلمه مسبقاً، وفي الحقيقة أنت تعلم نِتَفاً يسيرة منه، لكن ربما فرحت بما لديك وبادرت بقول (أنا أعرف) أو بدأت تتحدث وتقاطع المدرس وتقول ما لديك من معلومات (قد تكون مغلوطة أو سطحية)، فما ظنك بهذا التصرف؟ إنه قلة أدب، أليس كذلك؟ وما ظنك بالمدرس؟ سيمتعض منك وربما لن يهبك كل ما لديه من علوم ومعارف، سيكلك إلى نفسك وإلى معرفتك السابقة وستكون أنت الخاسر.

كذلك هو تعاملنا مع القرآن الكريم، فالأدب معه أن تدخل عليه وأنت حافي القدمين، صفر المعرفة، تريد أن تتعلم، تقرأه وقد أخليت عقلك من أي معرفة سابقة، وإن كانت مسلمات، تقرأ بتمعن وتواضع وتحاول أن تفهم، فأنت تتلقى الوحي من لدن حكيمٍ عليم، فحاول أن تتلقاه في كل مرة وكأنها أول مرة.

لكن، من المستحيل أن يُفرغ الإنسان عقله من كل معرفة سابقة أو معلوماتٍ راسخة، لكنه حين يحاول ذلك، فهو يتخفف نوعاً ما، هو يوسع في عقله مكاناً فارغاً لمزيد من الفهم، وبالتالي تجد آيات الكتاب الحكيم مجالاً للدخول ومن ثم إحداث الخوارق المعرفية، وأنت حين تفعل ذلك، فأنت تعيد بناء هيكلية المعرفة لديك، أنت تفهم أعمق، تستشهد بما لديك من معارف مكتسبة وتجارب مُعاشه لتفهم كلام الله أكثر، فتجد له زوايا أخرى، وتستنتج منه معادلات جديدة، أنت تحاكم ما لديك بكلام الله الخالد، فتعيد صياغة مفاهيمك أحياناً، وترسخ مفاهيم آخرى أحياناً أُخر.

وليس معنى ذلك أن نستغني عن كلام العلماء وفهم العرفاء، فالعالِم المفسر هو يشرح لك ما استعسر عليك من اللغة، والحديث النبوي هي يعطيك السياق الذي نزلت فيه الآية، أو بعض التفصيلات التي أقرّها النبي المرسل (محمد صلى الله عليه وسلم)، وهذه كلها أدوات تستخدمها في معركتك لصياغة العقل وبناء الفكر عبر آيات الذكر الحكيم.

إن قراءة القرآن بتدبر وتفكر؛ هي عملية مستمرة لصناعة عقل وبناء شخصية، والقرآن دائمُ التجدد بقدر تواضعك له وتأدبك معه، لا يبخل عليك -مع كل دورة جديدة- بأفكار ومفاهيم ودقائق معرفية تساهم في قشع الضباب عن عالمك، وكلما انقشع الضباب كلما رأيت واقعك على حقيقة، ورؤية الحقائق تعطيك فرصة للعيش بطريقة ثرية غنية وترك آثار رفيعة علية.

ما أجمل تلك الدقائق التي تختلي فيها مع كتاب الله، بعيداً عن زحمة الحياة وضوضاء البشر، تُوقف كل الأصوات الخارجية والداخلية (تلك التي تدور داخل عقلك) وتستمع لصوتٍ واحدٍ فقط، صوت القرآن الكريم، كلام الله الذي ينسكب على قلبك كحبات المطر حين تلامس تربة قد أضناها العطش، فأنت بخير -إن شاء الله- ما دمت مستمراً على وردك من القرآن، وما دمت تعيد تشكيل حياتك وأفكارك بناءً على آيات الرحمن.