على هامش فلم Soul

كثيرون هم من يوهبون فرصة ثانية، أقصد في الحياة الواقعية وليس في الخيال السينمائي، أولئك هم من يخوضون تجربة الاقتراب من الموت، من تتوقف قلوبهم لدقائق وهم في غرفة الإنعاش مثلاً، ثم تعود من جديد، وهم حين يعودون يروون لنا أشياء غريبة، ليست أحلاماً، فهنالك شواهد تدل على حضورهم أثناء غيابهم، بل كانوا في عالمٍ آخر، ليس هناك ولا هنا، بل بين بين.

ينطلق فلم Soul من هذه النقطة، ويبدأ الحدث الأبرز بعد الدقيقة العاشرة، حيث ينتقل البطل لذلك العالم الوسطي، ثم يتشبث بالحياة بكل طاقته لأن لديه حلم يريد تحقيقه، وهدف سعى إليه طويلاً ثم حين أتت الفرصة، أتاه الموت كذلك.

تعليق السعادة بقادمٍ آت

كان الدرس الذي تلقاه جو -بطل الفلم-، هو عندما حقق أمنيته أخيراً، ظل طوال عمره ينتظر تلك اللحظة، وحين وصل إليها، تأمل في نفسه وفي داخله فلم يجد ما كان يتوقع، كان يعتقد أن ذلك الهدف البعيد والمرمى العنيد سيقلب حياته فيذوق طعم السعادة أخيراً، لكن ظنه قد خاب.

هكذا هو الإنسان، وهكذا هي الرغبات والأحلام، هي جميلة جذابه حين تكون بعيدة عنا، لكن ما أن نصل إليها، إلا ويتلاشا بريقها ويخفت لمعانها، لقد باتت أمراً عادياً من روتينيات الحياة المملة، إن النجاح يصبح أحياناً سجناً إن لم نتأقلم معه، والتأقلم يبدأ من اللحظة الأولى، من مكانك وأنت بعيد عن حلمك، من موضعك وأنت تسعى لهدفك.

إن السعادة لا ترتبط بتحقيق أحلامك في الحياة، السعادة لها علاقة بنمط الحياة ذاته، تعاملك مع مفردات حياتك المتقلبة، السعادة تتعلق بقدرتك على تطوير روتين يومي يبهجك من واقعك الحالي وليس من الواقع المتأمَل، وهذا ما ألمح إليه الفلم حين كانت تلك الروح الجديدة تذوق طعم الحياة لأول مرة، فقد كانت أبسط الأشياء تبهجها؛ أصوات أطفال، حفيف أشجار، وحتى قضمة من بيتزا في لحظة جوع.

ولعلي اذكر لكم خاطرة خطرت لي، أو لنقل؛ لحظة سعادة اجتاحت قلبي، حين اشتريت بعض الخبز الذي استلمته حاراً طازجاً، وقد كنت في جوع شديد لحظتها، فتناولت قضمة من ذلك الرغيف الساخن، فكان في فمي أشهى من ألف طبقٍ وطبق، لأنه أتى في وقته، أتى فور خروجه فدخل معدة متشوقة إليه، وحينها غمرتني السعادة النابعة من تلك القضمة الصغيرة، سعادة مجانية يحصل عليها الفقير قبل الغني.

إن السعادة هي هنا وهنا فحسب، في وضعك الحالي وروتينك اليومي، اسعى لتحقيق أحلامك لكن لا تعلق عليها سعادتك، من ينجح في نيل السعادة الآن سيسعد عند نيل النجاح غداً.

التوازن بين اليوم والغد

التوازن مطلوب في جميع أجزاء حياتنا، وهو مطلوبٌ كذلك في التأقلم بين الحاضر والمستقبل، ما بين واقعك وأحلامك، فليس الهدف أن يعيش الإنسان بلا هدف، بلا أحلام وآمال، بلا طموحات يسعى إليها، فالآمال -سواءً تحولت إلى أهداف أم لم تتحول- هي ما تجعل الإنسان يقوم من فراش ويخرج ويعمل وينجز، هي ما تجعل الحياة تتحرك وإلا أسنت وتوقفت، ونحن لم نأتِ إلى هذه الحياة كي نتوقف، لقد أتينا ضمن عجلة تدور، وأفلاك تموج.

وليس المطلوب أن تعمينا تلك الآمال فتشغل عقولنا بالتفكير بها على الدوام، وتُشغِل أنفسنا بتعليق السعادة بها، فحينها نحن نحرم أنفسها من الاستمتاع بعطايا ربنا ومدده المتواصل، نحرمها من تذوق طعم السعادة والرضى والطمأنينة، نؤجل كل ذلك إلى تلك اللحظة التي قد تأتي أو لا تأتي، وحتى إن أتت نحن لاندري هل تجلب لنا معها السعادة المؤجلة!

إن التوازن هو المطلوب، أن نكون طموحين جداً، لكن أيضاً سُعداء جداً بما نحن عليه وبالواقع الذي نعيش فيه، أن نسمح للأحلام أن تحلق أحياناً في عقولنا، وأن نسمح للعقل أن ينشغل أحياناً للتفكير فيها وتحويلها إلى أهداف، أهداف صالحة لنا ولغيرنا، وبهذا نحن نضمن أن نستمر في العمل، في السعي لتحقيق تلك الأحلام، لكن يجب التنبيه إلى أن السعي كذلك يجب أن يتوافق مع قيمنا الداخلية وفلسفتنا الشخصية، حتى نمضي لتحقيق تلك الأحلام ونحن سُعداء، فنعيش السعادة في الطريق وفي الرحلة قبل الوصول والظفر، فإن وصلنا فإن سعادة مضاعفة، وإن لم نصل فقد نلنا حظنا منها.

ثم يأتي السؤال الأهم؛ لماذا؟

لماذا أقوم بذلك، لماذا أسعى لهذا؟ هل لكسب المال فقط؟ هل لأني شغوف به فقط؟ وماذا إن كان شغفي في طريق يضر بالآخرين مثلاً، لقد سعى بعض المجرمين لشغفهم فكانت عاقبتهم سوداء هنا وربما هناك أيضاً، إذاً لا يمكن الاستغناء عن الدليل الإرشادي الذي أتى من المصمم الخارجي، لا بديل عن الدين الذي يعطينا إجابات عن الأسئلة الكبرى، الذي يعيد توجيه بوصلتنا فنعرف أين نمضي وماذا نختار حين نحتار.

إن الغايات كثيرة، لكن الإنسان مهما طال به الزمان، فسيأتي عليه زمان ويدور في رأسه هذا السؤال (ما المعنى من كل هذا) والسؤال يقترب كلما اقترب هو من ساعة الرحيل، كلما رق جلده وهش عظمه، كلما أيقن بضعفه وبقلة حيلته، بعد أن مراحل كثيرة وبعد أن عاش تجارب وذاق مشاعر، منها مشاعر الظفر بالفوز والنجاح وتحقق الآمال والأمنيات، حينها سيقول: ثم ماذا بعد.

الأذكياء سلكوا طريق الأتقياء، أعلونها مبكراً (رب أوزعني أن أشكر نعمتك)، فكان الشكر حاضراً في أعمالهم وأهدافهم، وهم بذلك يسيرون على خطى حبيبهم لما سُؤل “لماذا” تفعل وتتعب، فقال ( أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أكُونَ عبْداً شكُوراً؟) إن سؤال (لماذا) الكبير، جوابه في كلمة تختزن خلفها معانيَ كثيرة، كلمة من ثلاثة أحرف فقط، شينٌ وكافُ وراء.