كثيرون هم من يوهبون فرصة ثانية، أقصد في الحياة الواقعية وليس في الخيال السينمائي، أولئك هم من يخوضون تجربة الاقتراب من الموت، من تتوقف قلوبهم لدقائق وهم في غرفة الإنعاش مثلاً، ثم تعود من جديد، وهم حين يعودون يروون لنا أشياء غريبة، ليست أحلاماً، فهنالك شواهد تدل على حضورهم أثناء غيابهم، بل كانوا في عالمٍ آخر، ليس هناك ولا هنا، بل بين بين.
ينطلق فلم Soul من هذه النقطة، ويبدأ الحدث الأبرز بعد الدقيقة العاشرة، حيث ينتقل البطل لذلك العالم الوسطي، ثم يتشبث بالحياة بكل طاقته لأن لديه حلم يريد تحقيقه، وهدف سعى إليه طويلاً ثم حين أتت الفرصة، أتاه الموت كذلك.
ملاحظة: لا يوجد حرق لأجزاء الفيلم في هذه المراجعة، الحرق، وكل الحرق، موجود في مقالة أخرى يمكنك الذهاب إليها بمجرد نقرك على هذا الرابط.
بعد كل فلم تشاهده، تحصل على مجموعة أفكار/معلومات/قهقهات، وأيضاً مشاعر وأحسايس، ومن المشاعر التي تطغى عليك أثناء مشاهدة هذا الفيلم هو “الشعور بالبرد” 😅 (يذكرني بنفس شعور البرد الذي حصلت عليه من مشاهدة فيلم The Revenant)، وأيضاً الشعور بالغرابة الغموض وبعض الرعب.
الفيلم يدعى (I’m Thinking of Ending Things) وهي العبارة التي ستضل تدور في رأس بطلة الفليم مراراً وتكراراً، وستضل تدور في رأسك أنت كذلك محاولاً أن تجد لها مبرراً أو تفسيراً، بل أنك ستضل تبحث عن تفسير ومغزى للفلم بأكمله، وعندما تصل لنهاية الفلم، حينها قد تلعن الساعة التي قررت فيها مشاهدة هذا الفيلم الغريب، أو قد تقرر -مثلي- الغوص في بعض صفحات الانترنت باحثاً عن تفسيرات وفك للشفرات.
بعد قراءة بعض مراجعات الفيلم في موقع IMDB، وجدت له تفسيرات من أشخاص قد قرأوا الرواية الأصلية التي بني عليها الفيلم، وهي رواية من تأليف شخص يدعى (Iain Reid)، وحين عدت للفيلم من جديد وشاهدت بعض أجزاءه، فهمت كثيراً مما يصعب فهمه (أنقر هنا لقراءة المقالة التي تشرح وتفك طلاسم هذا الفيلم).
برأيي أن المخرج (تشارلي كوفمان) لم يفلح في إيصال الفكرة الأساسية أو إيضاح الحبكة كما ينبغي، أعرف أن هذا ديدنه في أفلامه، أن يلفها بالغموض ويلغمها بالرموز، لكنه قد تمادى أكثر في هذا الفلم، حتى أصبح من العسير جداً فهم الحبكة الرئيسية دون الاستعانة بمرشدين ممن قرأوا الرواية، ومن العسير كذلك الاستمتاع به من المشاهدة الأولى، هو مما يتطلب مشاهدته مرتين على الأقل لفهم حبكته وألغازه.
لكن ورغم ذلك، يعد الفيلم رائعاً في جانب الإخراج والتمثيل، الفيلم رغم أنه لا يعدوا عن ثلاثة مشاهد رئيسية تمتد على مدى ساعتين كاملتين إلا أن الأداء التمثيلي كان مميزاً وصادقاً جداً، بناء الشخصية مقنع، المعالجة الدرامية قوية أيضاً، يمكن أن نعتبر الفلم تحفة فنية غير مفهومة المغزى، مثل لوحات بعض الفنانين التجريديين.
لكن، وبرغم أن الحبكة الرئيسية قد غابت وسط سيل الترميزات، إلا أن هنالك رسائل مفتوحة يحاول الفيلم أن يوصلها للمشاهد، وأعني بكلمة (مفتوحة) أنه لا يقدم إجابات بقدر ما يطرح أسئلة، مثل سؤال الشيخوخة والتقدم في العمر، لماذا نميل لإهمال الكبار في السن وعدم إشراكهم معنا في الحياة، أو سؤال: هل فعلاً سوف يتحسن الوضع، هل من المنطقي أن نظل تشبث بالأمل، أو سؤال: ما فائدة الإنجازات في نهاية المطاف، ألن نموت جميعاً ونصبح نحن والتراب شيئاً واحداً، وغيرها من الأسئلة.
أعود وأقول أن الأداء الحواري والتمثيلي كان قوياً، فالفلم أصلاً مرتكز على هذا الجانب، أكثر من نصفه يدور داخل سيارة أثناء رحلة وسط الثلوج العاصفة، لذلك، فأن تشاهد مثل هذا الفيلم الطويل دون أن يكبس عليك الملل كبسته القاضية، فهذا بحد ذاته إنجاز يشكر صانعوا الفلم.
أيضاً هنالك الكثير من الرموز والألغاز التي يمكن أن تستمتع وأنت تفك طلاسمها، وهذا لن يحدث إلا في المشاهدة الثانية بعد أن تفهم حبكة الفلم الرئيسية، والتي ما أن تفهمها حتى تبدأ بحل لغز الفيلم كلعبة بازل تركب أجزاءها هنا وهناك، فيتضح لك المغزى من وراء مشهد أو السبب من قول جملة أو الفائدة من إيراد لقطة، فيضيف هذا متعة إلى المتعة الأولى، وهذا نقطة تحسب لهذه النوعية من الأفلام بشكل عام، ولأفلام (تشارلز كوفمان) على وجه الخصوص.
هذا شرح وتفسير لفلم (I’m thinking of ending things)، إن كنت تنوي مشاهدته فالأفضل أن تشاهده أولاً ثم تقرأ هذه المقالة لأن فيها حرقاً لكل أجزاءه تقريباً.
يبدأ الفيلم بعدة لقطات من داخل البيت الريفي، وهو نفس المنزل الذي قام (جايك) بأخذ حبيبته إليه لزيارة أبويه، فيما بعد، ستشاهد الرجل العجوز وهو يعيش داخل المنزل بمفرده (الذي يعمل في التنظيف داخل المدرسة الثانوية)، والذي سيتضح لك فيما بعد أنه نفسه (جايك)،
لكنه يعيش بمفرده داخل المنزل بعد أن أصبح مسناً، فهل يعني أنه لم يتزوج تلك الفتاة حين كان شاباً؟ الجواب هو أنه لم يقابلها أصلاً، أو لنقل: أنه قابلها في ذلك البار لكنه لم يتجرأ بمفاتحتها، وبذلك تصبح تلك الرحلة في السيارة وكل المشاهد التي جمعته بهذه الفتاة ليست سوى مشاهد تدور في مخيلة (جايك)، أي أن هذا الأمر لم يحدث على أرض الواقع، ولعلك تتذكر الحوار الذي دار على طاولة العشاء، حين طلب الأبوين من الفتاة أن تشرح لهم كيف تم اللقاء بينهما، فشرحت حتى وصلت إلى مرحلة سكتت فيه وسكت الجميع في استغراب، بمعنى أن ما دار على أرض الواقع كان حتى تلك النقطة فقط، وأنه لم يحدثها (لأنه لم يكن لديه الجرأة بسبب شخصيته الخجوله) وبالتالي لم تقع تلك العلاقة على أرض الواقع، لكن ما تم بعد ذلك كان في مخيلة جايك فقط، بدليل أن الفتاة حين توقفت عن الكلام ورمقت جايك، أومأ لها جايك بأن تكمل الحديث، في إشارة رمزية إلى أن الحكاية بعد تلك النقطة هي من تلفيق (جايك).
إذاً اتضح الأمر: الحكاية كلها لم تحدث، لم تصبح تلك الفتاة حبيبة جايك، ولم يقم بعمل رحلة إلى منزل أبويه الريفي، ولم يحدث أي شيء من ذلك على أرض الواقع، كله يدور في مخيلة (جايك)، لكن هل هي مخيلة جايك الشاب أم العجوز، الجواب: العجوز، وأحد الرمزيات التي تدل على ذلك، مشهد القبلة، حين حاول تقبيل حبيبته داخل السيارة فإذا بلقطة سريعة لرجل عجوز وهو يراقب من فتحة صغيرة، ففزع جايك وثار غضبه، والرمزية هنا أن جايك (العجوز) هو الذي كان يراقب، لأنه هو مبتدع القصة ومختلق الأحداث من أساسه، وكل هذا يدور داخل عقله، لذلك فهو يراقب ويعرف كل التفاصيل.
وهنالك تفسير آخر لشخصية الفتاة، تلك الفتاة التي اختلف اسمها أكثر من مرة داخل الفيلم، بمعنى أنها ليست سوى شخصية وهمية من نسج خيال (جايك) وأن جايك يرى فيها نفسه، أي أنها هو وهو هي، ولذلك دلائل كثيرة، مثلاً حين رأت صورته المعلقة على الحائط وهو صغير، حسبت أن الصورة لها وهي صغيرة، وهذا يدل على تماهي الشخصيتين وكونهما شخصاً واحداً:
دليل آخر فيه تفسير شامل لشخصية (جايك) وهو القصيدة التي كتبتها الفتاة وألقتها داخل السيارة أثناء رحلة الذهاب، لقد وصفت حالة (جايك) وحياته البائسة، فبعد أن أكملت سرد القصيدة، قال لها (كأنكِ كتبتها عني).
من التلميحات أيضاً: حين نزلت الفتاة إلى المرآب ورأت لوحات جايك، والتي كانت لوحاتها هي نفسها، وهذا يدل أيضاً على أن الفتاة وجايك والرجل العجوز (عامل النظافة) ماهم إلا شخص واحد.
يتحدث البعض أن مغزى الجملة (والتي هي عنوان الفيلم) أنها عبارة تدور في رأس الرجل العجوز (الذي يتخيل كل تلك الأحداث) وأنه يعني أنه يريد أن ينهي حياته (ينتحر) والمشهد الأخير حين أحس بضيق شديد داخل السيارة، ثم بارتياح، كانت تلك لحظة موته، ثم يقدم لنا المخرج ذلك الخنزير على شكل رسم متحرك وهو يتقدم جايك داخل ممر المدرسة.
قد يكون هنالك تفسير آخر، قد يكون المخرج (والذي هو كاتب السيناريو أيضاً) قد قام بتعديل بسيط في سير القصة ونهايتها، لأن الحوار الأخير الذي دار بين الخنزير وجايك العجوز لا يوحي بأن جايك قد قرر الانتحار، ففي نهاية الحوار قال له الخنزير (لنلبسك ثياباً)، بعدها ظهر جايك وهو يعتلي المنصة ويقدم خطاباً للجمهور، الخطاب الذي يتم فيه تكريم جايك في نهاية المطاف والاعتراف بحياته وإنجازاته.
فهل كان المقصود بجملة (لنلبسك ثياباً) أي تلك الثياب التي تقدم بها إلى المنصة وألقى بها الخطاب (ربما)، أو أن المقصود هي ثياب أخرى (ثياب ما بعد الموت)، وبالتالي تكون تلك الخطبة هي مما أدخله المخرج إلى سياق الفيلم ليعطي احتمالاً آخراً ومساراً مختلفاً، لأن تلك الفتاة كانت من بين الحضور في تلك الخطبة، والمعنى هنا أنه لو كانت الخيارات قد اختلفت وقُدر لجايك أن يحب تلك الفتاة ويتزوجها، ربما كانت هذه هي نهايته، نهاية عظيمة بتتويج كبير بعد أن أمضى حياة مزهرة، وهنا يذكرنا هذا المشهد بفيلم (Mr. Nobody) والذي تدور فكرته حول الخيارات والقرارات التي يتخذها الإنسان في حياته وتشكل بذلك قدره.
وهنالك إشارة واضحة من خلال تلك الخطبة التي ألقاها جايك، إلى أن الحب والاقتران بزوجته تلك كان السبب في نجاحه كله (لو أنه قام بذلك في شبابه)، لقد كان كله من أجلها وبسببها.
يبقى أن نفسر الرقصة الاستعراضية قبل نهاية الفلم، وأقرب تفسير في اعتقادي أنه تعبير عن أن جايك كان قد اقترب كثيراً (وربما عدة مرات) من أن يجد شريكة حياته، لكن شخصيته الأخرى (الخجولة والانعزالية) كانت تتعارك معه دائماً وتهزمه (في نهاية المطاف)
ونرى أن الشخص الذي تهجم عليه قبل أن يتم زواجه من تلك الفتاة وحال بينه وبينها هو شخص يرتدي نفس القميص الذي وجدته الفتاة داخل مغسلة الملابس في قبو المنزل الريفي، وهو كذلك نفس القميص الذي يرتديه جايك العجوز (عامل النظافه) بمعنى أن الشخصية الخجولة الانعزالية هي التي انتصرت في نهاية المطاف (قامت بقتل الشاب المفعهم بالحياة في نهاية مشهد الرقصة) وبالتالي حكم على حياته بأن تكون تلك الحياة البائسة الموشحة بالوحدة.
أحد الرسائل المبطنة في الفلم، أن جايك لم يتمتع بشخصية شجاعه، كان الجبن أحد أسباب تشكل حياته على ذلك النحو، فنرى مثلاً الأم وهي تتحدث إلى الفتاة وتأمرها بأخذ الرداء إلى الغسالة في القبو، وهي بذلك توجه حديثها لجايك نفسه (لأن شخصية الفتاة هي شخصية جايك) تقول لها (واجهي المخاطر) في إشارة إلى أن جايك كان يخاف من ذلك القبو، وهو ما بدى عليه أول مرة حين سألته الفتاة عن ذلك القبو، بدى عليه الرعب والخوف من ذلك المكان، إنه الخوف الذي لزمه منذ الصغر فشكل حياته على ذلك النحو.
من المشاهد التي تفسر جانباً من فلسلفة الفلم (والمخرج والكاتب)، مشهد جاي العجوز وهو يمشي بعد الخنزير بعد أن فارق الحياة، حيث يقول الخنزير:
“لا بأس بالأمر حين تكف عن الرثاء لنفسك لأنك مجرد خنزير، أو أسوأ من ذلك، خنزير مملوء بالديدان، هناك من يجب أن يكون خنزيراً مليئاً بالديدان، صحيح؟ فلعله أنت، إنها مسألة حظ، تتقبل قدرك تستغل معطيات الحياة بأفضل طريقة ممكنة، تمضي قدماً، لا تقلق حيال أي شيء، هنالك طيبة في القلوب في هذا العالم، يجب عليك البحث عنها، كل شيء متشابه حين تمعن النظر، بصفتك عالم فيزياء، أنت تعرف ذلك، أنت، أنا، الأفكار، جميعنا شيء واحد”
كانت تلك بعض التفسيرات، وهنالك أمور أخرى غير مفهومة في الفيلم (بالنسبة لي على الأقل) من أهمها تلك الرسالة الصوتية التي وصلت إلى تلفون الفتاة وهي في قبو المنزل، والتي كانت بصوت جايك نفسه، فقد احتوت على التالي:
“هنالك سؤال واحد يحتاج إلى إجابة، أنا خائف، اشعر بأنني مجنون، لست واعياً. الافتراضات صحيحة، أشعر بخوفي يزداد. حان وقت الإجابة الآن، سؤال واحد فقط، سؤال واحد فقط يحتاج إلى إجابة”
هو فيلم مبني على قصة حقيقية، لكنها ليست كالقصص الأخرى، لم تحدث في شوارع لندن أو في شواطئ كلفورنيا، لم تَدُر أحداثها في المنازل الفارهة ومع أشخاص لا يمكنهم الاستغناء عن الهاتف والانترنت، إنها قصة حدثت في إحدى القرى الإفريقية، بين أناس يعتبرون الماء هو الشيء الأساسي الذي به تقوم الحياة، وينظرون إلى الكهرباء كنوع من أنواع الترف الذي يحلمون به، ويتمنونه.
هو فيلم يشعرك بحجم النعم المحيطة بك، بحجم المعناة التي تحيط بأناس غيرك يعيشون في بقعة أخرى من هذا الكوكب، كما أنه فيلم يرسل رسائل إيجابية عديدة، يعطيك طاقة للعمل واستغلال ما بين يديك من فرص لصنع شيء، أو حل مشكلة، أو تحقيق حلم.
لنقل أنه دورة عملية لتعلم (المثابرة) أو كيف تتحقق (الأحلام).
فلم نظيف ليس به ما يخدش الحياء (تقريباً)، وهذا أمر طبيعي لمن لديه رسالة يود أن يشاركها مع العالم، فيرغب أن تصل صافية لمن تصل إليه، وهو يهدف بذلك أن تصل للصغار قبل الكبار، كي يتعلموا بعض الصفات التي تساعدهم لمواجهة الحياة بما فيها من أعباء.
المخرج هنا هو أحد أبطال الفيلم، وهو كذلك كاتب السيناريو، إسمه (تشوتل إيجوفور)، أما الفيلم فيسمى (The Boy Who Harnessed the Wind) أو بالعربي (الصبي الذي سخَّرَ الرياح)، يحكي قصة (وليام كامكوامبا) الذي تمكن من توليد الكهرباء عبر الطاقة الشمسية.
هنالك لقاء قديم مع الشاب الصغير بعد عدة سنوات من هذه الاختراع الذي قام به، نُشِر عبر منصة TED، لقد كانت قصة ملهمة حققت له بعض الشهرة آنذاك، ولم يكن سبب الشهرة حجم الاختراع وقوة الإنجاز، فهو شيء بسيط تافه مقارنة بما هو موجود اليوم من إنجازات تكنولوجية، لكن الفرق أن هذا الاختراع قد ولد في قرية فقيرة ليس فيها أدنى مقومات الحياة العصرية، وقام به طفل بعمر خمسة عشر عاماً، قام به في بيئة ليس فيها كهرباء أو انترنت، لم يكن هنالك مصادر للمعرفة غير مكتبة صغيرة كان من الصعب دخوله إليها، ولم تخصص له ميزانية ضخمة لتمويل مشروعه، بل أنه لم يجد الوقت الكافي لتحقيق حلمه بسبب أعباء الحياة القاسية.
تميز الفيلم في جميع الجوانب تقريباً، فالقصة ملهمة، والإخراج مميز، والتمثيل قوي وصادق (الكاتب والمخرج تولى تأدية أحد الأدوار الرئيسية في الفلم)، وبذلك يكون قد نجح في الجميع بين الهدفين، أن يقدم رسالة إيجابية مؤثرة، وأن يصنع قطعة فنية راقية.
يمكن أن نكتب صفحات عديدة حول الرسائل الإيجابية التي ينطوي عليها هذا الفلم، منها:
هذا الفلم هو مثال واضح وتطبيق صارخ لمقولة (الحاجة هي أم الاختراع).
لا يأس مع الحياة، لا يأس وهنالك عقل يفكر، لا يأس وهنالك يدان تعملان فتحولان الأفكار إلى منتجات وآلات، وقبل هذا كله: لا يأس وهنالك ربٌ يدبر.
يمكنك أن تصنع الكثير بما لديك من إمكانيات قليلة، ومصادر شحيحة.
هذه القدرة على الوصول للمعلومة ليست أمراً يستهان به، هنالك أقوام ليس لديهم انترنت ويصعب عليهم الحصول على كتاب يُقرأ أو محاضرة تُسمع.
أهمية تشجيع ودعم الأطفال الصغار وعدم تقييد عقولهم حين تفكر، أو أيديهم حين تبدع.
ويبقى الماء هو أساس الحياة، والزراعة هي أساس الحضارة.
أما الرسالة الأخيرة التي خرجت بها شخصياً من هذا الفلم، هو أن الفن يمكن أن يكون وسيلة عظيمة للبناء والنماء، وأن السينما هي أداة مهمة لغرس الأفكار الإيجابية، والقيم الأخلاقية.
أخيراً: هذا الفيلم نصفع به أفلام (مارفل) وغيرها من غثاء السينما التي تُكرَّس لأجلها الأموال الطائلة والجهود الضخمة، وفي النهاية لا تكاد تجد قصة محبوكة، أو أداءً مؤثراً، ليس سوى بهرجة الألوان، وزيف المؤثرات، فالربح بالنسبة لهم هو الهدف الأول والأخير.
هو أحد روائع السينما المبهجة، وأحد إنتاجات ديزني المميزة، فيلم غنائي يحمل في طياته الكثير من المعاني الجميلة والرسائل الإيجابية، يستمتع به الصغير والكبير، إنه فيلم (ماري بوبنز) أو (Mary Poppins) الذي أنتج عام 1964، وأعيد إنتاجه بتحوير قليل في القصة عام 2018 تحت عنوان (Mary Poppins Returns).
عرفت هذا الفيلم عبر فيلم آخر يحكي قصة إنتاجه، إنه فيلم “إنقاذ السيد بانكس” أو (Saving Mr. Banks) الذي أدى بطولته (توم هانكس) وقام بتمثيل شخصية (والت ديزني)، ودارت الأحداث حول محاولة إقناع مؤلفة القصة الأصلية بأن يتم تحويل الكتاب إلى فيلم غنائي، وبعد محاولات عديدة ومفاوضات مديدة، وافقت على إنتاج الفيلم، لكن وفق شروط واتفاقات.
الفيلم كان مميزاً، فقد عكس في طياته بعض حياة كاتبة القصة ومعاناتها ومعاناة أبيها في الجانب المالي، ثم أتت قصة “ماري بوبنز” التي ألفتها لتكون انعكاساً لبعض أجزاء حياتها، لكن مع الكثير من الخيال، الخيال الذي يجعل النهاية سعيدة، والأحداثها شيقة.
القصة -بدون حرق- تدور حول أسرة يعمل ربها في أحد البنوك المشهورة، ويحمل شخصية صارمة منضبطة، يتعامل في المنزل مع أسرته كما يتعامل في البنك مع موظفيه، لكن تدخل إلى حياتهم مربية لأولادهم تغير الأوضاع وتقلب الأحوال، فهي تحاول إصلاح الأمور وإعادتها إلى نصابها، بينما الأب ينظر إليها بأنها قد أتت لتفسد عليه أبناءه وتشيع الفوضى في منزله.
الفيلم من النوع الموسيقي، فالكثير من الحوارات هي ملحنة ومسجوعة، وكذلك هو فيلم خيالي، ليس خيالا علمياً لكن خيال من نوع (فانتازيا)، خيال يناسب الأطفال ولا يؤذي عقولهم.
الفيلم -رغم احتوائه على الكثير من الأغاني والرقص المحتشم- يحمل بعض الرسائل الإيجابية المهمة، وأهم رسالة يوصلها إلينا، وهي الفكرة الأساسية من الفيلم، هي طريقة تعامل الإنسان مع الحياة ومع المادة على وجه الخصوص، وأن هنالك قيم أرفع وأهم من المال والمكانة والنجاح الوظيفي، ومن تلك القيم “الأسرة”.
لقد عرفنا عبر الفيلم الذي ذكرته لكم بداية هذه المقالة، أن الكتابة كانت تعاني من مشاكل في هذا الموضوع، موضوع المال، وأن أباها قد غرس في عقلها فكرة احتقار المال، لذلك فقد أتت هذه القصة لتغذي هذه الفكرة وتبلور قناعات الكاتبة في إطار درامي.
يبدو أن والت ديزني قد وضع لمسته الخاصة على القصة، فقام بتلقيح الدراما المشبعة والرسالة الثقيلة بالكثير من المرح والبهجة، فظهر لنا هذا الفيلم حاملاً كلا الميزتين: ذو رسالة قيمة، وذو طابع مبهج.
من الرسائل الإيجابية التي يمكن للمشاهد أن يستكشفها في طيات الفيلم
القليل من المرح يجعل من تأديه الأعمال وتسيير الحياة أمراً ممتعاً، أشبه باللعبة
ليست السعادة في كثرة المال، قد يكون عامل مدخنة بسيط أسعد بكثير من مالك بنك كبير
تكمن السعادة في الأشياء البسيطة التي لا تكلف الكثير، في تأمل الغروب من علو، أو في الاستماع لعصافير تزقزق قرب النافذة، أو في ممارسة الهوايات المفضلة.
يحتاج الطفل أن يعيش طفولته، لا يجب أن تكون حياته مقيدة وصارمه ومليئة بالأعباء الثقيلة.
القليل من الضحك قد يجعلك تحلق عالياً، إن لم يكن بجسدك فبقلبك
غداً يكبر أطفالك، وتفوت على نفسك فرصة إسعادهم قبل أن يتمكنوا من إسعاد أنفسهم.
فيلم “عودة ماري بوبنز”
يمكن اعتبار فلم “Mary Poppins Returns” -والذي أنتج في 2018- أنه مكمل للأول، حيث تعود ماري بوبنز من جديد إلى نفس المنزل، لكن هذه المرة بعد أن كبر الأطفال وأصبح الولد منهم أباً لديه أطفال، أتت من جديد لتعتني بالأطفال الجديد، وقصة هذا الفيلم مشابهة لقصة الفيلم الأصلي، مع بعض التحويرات في القصة، والكثير من التغييرات في الأداء والغناء.
رغم حداثة الإنتاج، وإحكام الخدع والمؤثرات، إلا أن الفيلم الأصلي كان أقوى -من وجهة نظري على الأقل- وخاصة في الأداء والتمثيل.
لقد خلقت مؤلفة القصة شخصية “ماري بوبنز” على أنها المرأة التي تأتي لتصلح الوضع وتعيد الأمور إلى نصابها، وقد عكست بذلك شخصية خالتها أو عمتها التي كانت تفعل في حياتهم نفس الشيء، تأتي وقد حلت الفوضى في المنزل وتحاول أن تنظم وتضبط وتصلح، وهكذا، فإن في حياة كلٍ منا “ماري بوبنز” خاصة به، قريب أو صديق، ذكر كان أو أنثى، شخصية تحاول الإصلاح ما استطاعت في أي مكان تحل فيه، وتحاول بث روح الاطمئنان ونشر البسمة في أي قلب سكنت به، وما أجمل أن تكون أنت أو أنا تلك الشخصية، فنكون البلسم الذي يشفي الجراح، والدواء الذي يداوي الأوجاع.
ملاحظات:
هنا مقالة جيدة -في البي بي سي- عن فيلم “إنقاذ السيد بانك” وعن ملفة القصة الرئيسية
الفيلم هو فيلم عائلي، ليس فيه مقاطع خادشة للحياء، يحتوي على مشاهد راقصة لكنها دون إسفاف.
يمكن أن أقسم الأفلام التي أشاهدها إلى ثلاثة أصناف، الأول هو الأفلام التي أندم على مشاهدتها وتضييع الوقت فيها، وهي قليلة في الغالب لأني أحرص على اختيار أفلام جيدة، لكن رغم ذلك يقع هذا الأمر بين الفينة والأخرى وأخدع بأفلام وأكتشف أني قد أخذت مقلب فيه.
الصنف الآخر هو الأفلام التي تعجبني جداً، ليس على المستوى الفني فقط، بل الأهم من ذلك على مستوى القصة والرسالة التي يحاول الفيلم إيصالها، وهذه الأفلام أجدني مرغماً أن أكتب عنها وفيها، لذلك ففي الغالب أنشر عنها مقالة في تصنيف مستقل في المدونة أسميته (أفلام تستحث الأقلام)
أما الصنف الثالث فهي أفلام بين بين، هي التي لم أندم على مشاهدتها، وفي ذات الوقت هي أفلام ليست عظيمة (من وجهة نظري) أو لا تحمل رسالة وتأثيراً كبيراً في المشاهدين.
هذا الصنف من الأفلام سأكتبه هنا مع تعريف مختصر لكل فيلم، فهي أفلام جميلة في نهاية المطاف، بعضها يحمل رسائل إيجابية، والبعض الآخر فيه كوميدا طريفة، أو قصة قوية وأداءً مميزاً
5- Imagine That
تشدني دائماً الأفلام التي تُعنى بعلاقة الأب بالأبناء، ولقد شدتني عبارة سمعتها في اعلان الفيلم، حين قيل للبطل: “أنت لديك وظيفتين، أحداهما أن تكون أباً”، وهو فيلم عائلي نظيف شاهدته مع أطفالي، يحكي قصة رجل ناجح مهنياً لكنه فاشل أسرياً، يعيش مع بنته التي طالما تجاهلها ولم يعطيها حقها من الحب والاهتمام، تبدأ القصة حين يكتشف أن لديها بطانية عجيبة تخبرها ببعض الأسرار والأمور المستقبلية، وأنها دائمة الانعزال وتلعب مع صديقاتها المتخيلات، والمضحك أنه -وبسبب بعض الأمور- يصدقها الأب ويبدأ بالتعامل هو كذلك مع تلك الفتيات الخياليات.
الفيلم كوميدي لطيف، والقصة جيدة لكن الأداء والإخراج لم ين قوياً كفاية من وجهة نظري، لكن الرسالة التي ينطوي عليها الفيلم هي رسالة إيجابية ومباشرة، يمكن اختصارها بعبارة (أولادك أهم من نجاحاتك).
4- Liar Liar
فكرة الفيلم جميلة وجديد؛ طفل يتمنى -في عيد ميلاده- أن يتوقف أبوه عن الكذب ليومٍ كامل، فتتحقق الأمنية، والأب هنا هو محامي ناجح يمارس الكذب كما يتنفس، وقد مثل دور البطولة (جم كاري)، والذي كان مناسباً جداً لهذا الدور، لأنه يحتاج لمهارة جسدية وقدرات تعبيرية قوية، الفيلم كوميدي لكنه يحمل رسالة أخلاقية متعلقة بالصدق، وأيضاً هو يوجه رسالة متعلقة الأسرة وعلاقة الأب بأبناءه، وأن النجاح المادي ليس كل شيء أو أهم شيء، ولقد أعجبني مشهد يحمل في طياته بعض العمق الفلسفي. هنالك بعض التحفظات على الفيلم بسبب بعض المشاهد (القليلة).
3- The Call Of The Wild
عائلي/دراما/مغامرة – إنتاج 2020 – تقييم 6.8
فيلم عائلي جميل، يحكي قصة كلب وفي تأخذه الأقدار بعيداً عن منزله الذي تربى فيه والمليئ بواسئل الراحة والترفيه فترميه في ظروف قاسية وتمر به أحداث صعبة، لكنه كلب مميز، قوي وذكي، ينتهي به المطاف ككلب مزالج ثلجية، تمر أحداث كثيرة وسط الثلوج والجليد، يتعرف على أشخاص حتى يلبي -أخيراً- نداء الطبيعة
الفيلم جميل وفيه قصة درامية جيدة، يحمل رسالة مفادها “يوماً ما سنعود جميعاً للمنزل الذي ننتمي إليه” وهو الواضح من عنوان الفيلم (نداء البرية) كما أنه يحتوي على لحظات تثار فيها المشاعر وتستدعى إليها العواطف، الفيلم خالي تماماً من أي مشاهدة خادشة أو غير لائقة، وقد شاهدته مع الأولاد وقضينا وقتاً ممتعاً معه.
2- Arlington Road
دراما/جريمة/تشويق – إنتاج 1999- تقييم 7.2
الفيلم تمكن من إيصال رسالته بقوة، الفكرة والإخراج قوي، والرسالة تتعلق بالعمليات الإرهابية (لحسن الحظ لم يكن الأمر يتعلق بالإسلام والمسلمين) النهاية صادمة والحكبة الدرامية قوية، أيضاً أداء الأدوار قوي وخاصة من قبل الممثلين الرئيسيين.
الفكرة تدور حول رجل يبدأ بالشك في جيرانه الجدد بعد أن يكتشف أشياء غريبة عنهم، يدخل الشك في قلبه على أنهم ربما يدبرون لأمر ما، يبدأ بالبحث، يكتشف أشياء، وتحدث أشياء، ثم تؤول الأمور إلى نهاية غير متوقعة. (يمكن اعتبراه من الأفلام التي تحس في نهايتها أنك كنت مخدوعاً وتضطر إلى اعادة مشاهدة الفيلم من جديد لتفهم الأحداث).
1- Game Night
كوميديا/أكشن – إنتاج 2018 – تقييم 6.9
فيلم كوميدي لطيف، فكرة الفيلم أن هنالك زوجين يحبان الألعاب الجماعية كثيراً، ويشترك معهم أصدقاءهم في اللعب، وفي أحد الأيام يدعوه أخوه الأكبر إلى اللعب في منزله، لكن هذه المرة بطريقة أخرى فيها إثارة ومغامرة، لكن الأمور تخرج عن السيطرة وتنقلب اللعبة إلى حقيقة، حيث يفترض أن تكون هنالك تمثيلية بعملية اختطاف لكن يصادف أن يكون هنالك خاطفين حقيقيين يصلون قبل المزيفين، فتحدث معركة ويتم اختطاف الأخ أمام الأصدقاء وهم يضنون أن هذا هو أحد أجزاء اللعبة، ثم تدور أحداث كثيرة ومغامرات مثيرة.
النص مكتوب بشكل جيد، فيه كوميدا أصيلة، والفكرة ذاتها جديدة (حسب علمي)، هنالك (توستات) عديدة في القصة، كذلك الأداء والتمثيل جيد جداً.
حقق هذا الفليم نجاحاً عالمياً باهراً، لكن أكبر نجاحه -بالنسبة لي- أنه جعلني أندمج وأتأثر ثم أبكي بطريقة لم تحدث من قبل مع أي فيلم آخر.
من الطريف أنني لم أكتشف أن اسم هذا الفيلم بالعربي هو (البؤساء) وأنه الفيلم الذي جسد أحد أهم الروايات الملحمية المشهورة للكاتب “فيكتور هوجو” والتي أمني نفسي دائماً بقراءتها في أحد الأيام، حتى أتى اليوم الذي شاهدت فيه الفيلم قبل أن أقرأ الرواية الأصلية.
كنت أسمع عن الرواية وأنها عظيمة وأنها وأنها… لكن لم أتوقف أن تكون عظيمة إلى تلك الدرجة، لم أتوقع أن تجسد كل تلك القيم الراقية وأن تحتوي على كل تلك الأحداث المفعمة بعبق الحياة والمخضبة بعرق الإنسان ودمه وكدحه، لم أكن أعلم أنها قادرة على أن تخترق وعيك إلى أعمق جزء فيه لتثير تساؤلات وتجيب على أخرى، وأنها قادرة على إثارة مشاعرك وتعكير صفو هدوئك عبر دمجك مع أحداثها إلى هذه الدرجة.
لن أتحدث عن القصة، فهي مما يجب قراءته، والكتابة عنه بشكل منفصل، لكني سأتحدث هنا عن الفيلم، عن هذه التحفة الفنية الفريدة.
يبدأ الفيلم بمشهد مهيب ولحن يرج سماء فرنسا آن ذاك (في بداية القرن الثامن عشر) تسمع تلك الكلمات التي تخرج في لحن يغنيه أؤلئك المسجونين المضطهدين، فتعتقد أنها مجرد أغنية قصيرة في بداية الفلم، لكن ما تلبث أن تكتشف أن هذا هو النمط السائد على مدى الفلم بأكمله، كل الحوارات تقريباً تؤدى بطريقة غنائية، كلمات قوية وألحان تتنوع بين الحزن والفرح والحماس، فتضيف إثارة فوق الإثارة، وتدمجك مع الأحداث بأكثر مما أنت مندمج.
أول موقف أخلاقي مؤثر حدث بعد عشر دقائق تقريباً من بداية الفيلم، وهو عندما يتذوق بطل الفيلم (جُن فالجُن) طعم الرحمة والإحسان الذي يمس فؤاده ويعصف بأفكاره ليقرر بعد ذلك أن يتغير جذرياً، فبعد أن كره العالم الذي لم يجد منه إلا الألم والقسوة، هاهو يتغير بسبب موقف عظيم من قس كنيسة التقاه بالصدفة في أحد الشوارع الضيقة، فدخل بذلك في معترك نفسي ثم اتخذ قراراً مصيرياً، وكل ذلك كان بسبب أخلاق رجل تجاه رجل آخر لم تربطه به أي علاقة أو مصلحة سوى رابط الإنسانية.
هنالك عدة قيم وأخلاقيات يطرحها الفيلم (أو القصة)، ويمكن أن أتذكر بعضاً منها:
العفو عند المقدرة، القيام بالعدل ولو على النفس، حب الآخر والإحسان إليه، الوقوف أمام الظلم بشجاعة، التضحية بالنفس من أجل العدل والحرية، العدل يأتي وإن تأخر، ارتباط الحياة بما بعدها وأن الحكاية لم تنتهي بعد.
النقطة الأخيرة هي التي اعجبتني كثيراً في الفيلم (والقصة) وهي تصوير الحياة كأنها مرحلة وفصول من كتاب لم ينتهي بعد، أن الآخرة هو الجزء المكمل لقصة الحياة، فلقد أظهر الفيلم هذه الجزئية بطريقة مثيرة في نهاية الفيلم على وجه الخصوص، وهو المشهد المهيب الذي استثار حفيظة مشاعري وأغرق عيناي بالدموع.
الفيلم فيه تنوع عجيب من الاحداث التي تستثير مختلف المشاعر الإنسانية فيك، فمرة تغضب ومرة تعطِف، ومرة تفرح وأخرى تحزن، وأحياناً تشمئز، لكنه ينجح في نهاية المطاف أن يعيد التوازن إليك والإرتياح بنهاية سعيدة مغلفة بغطاء من الحزن، وهي الخلطة المثالية لإثارة حفيظة عينيك.
الأداء والإخراج كان عظيماً، يكفي أنه فيلم يسير وفق سيمفونية غنائية من أوله إلى آخره، والذي يعني أن يكون أداء الصوت والغناء بمعزل عن الصورة، لكن إجادة التمثيل أحال بين أن ترى اختلافات أو تصنعاً، بل كان اندماج الممثلين مثيراً ومشاعرهم ودموعهم قوية وصادقة.
في نهاية المطاف، لقد كان فلماً ممتعاً، مؤثراً، مجوداً بعناية، قطعة فنية يندر أن تجد مثيلها، مأخوذ من رواية نالت شرف العبور بين الأجيال، فلا تزال تتداول وتقرأ، وهاهو عمل فني عظيم قد بني على أسوار مجدها، ملايين الأشخاص قد شاهدوه وتعلموا منه أو تأثروا به، وليس تأثير هذه النوعية من الأفلام مما يستهان به.
من أقوى المشاهد والأغاني التي قيلت في الفيلم -من وجهة نظري- هما:
المشهد الأول (مشهد العزة والشجاعة) هو بداية اندلاع الثورة، الأغنية بعنوان “Do You Hear the People Sing”
هذه الأغنية تم غنائها بعدة لغات على المسرح (شاهد الفيديو)
والمشهد الثاني (مشهد الحزن والفقد) هو الأغنية التي مطلعها “Empty Chairs at Empty Tables”
يعتبر (Knives out) أحد الأفلام المذهلة في حبكتها الدرامية، أو ما يسمى بـ (Plot twist) والتي تترجم على أنها (تغير غير متوقع للأحداث)، بالنسبة لي هو أحد أكثر الأفلام إمتاعاً وإدهاشاً مما شاهدته في السنوات الأخيرة، صحيح أنني لم أخرج منه بأي معنىً عميق أو فائدة معرفية أو فكرية، لكنه يستحق الإعجاب والإشادة.
يبدأ الفيلم بحضور محقق شرطة لأخذ أقوال أفراد أسرة توفي أبوهم قبيل أيام، أما طريقة الوفاة فقد كانت (انتحاراً)، الأب هو كاتب مشهور له روايات منشورة بعشرات اللغات وملايين النسخ، وقد خلف وراءه ثورة طائلة، يظهر في غرفة المقابلات رجل يحسن فن الإنصات ويتضح فيما بعد أنه رجل تحقيقات مشهور تم استئجاره لكشف شيء غامض تفوح رائحته حول القضية.
مسار القصة وعبقرية الإخراج تدفعك للشك بأكثر من طرف بأنه المتسبب في عملية القتل، وكلما اقتربت من حبك نسيج القصة في رأسك تأتي الأحداث لتقلب الطاولة وتعيدك إلى مسار مختلف تماماً، فالفيلم لا يحتوي على (بلوت توست) واحدة، بل عدة (توستات) مركبة واحدة فوق الأخرى.
في جزء مبكر من الفيلم، تكتشف -كمشاهد- السر، لكن تشك أنه قد يكون فعلاً السر، فكيف للنهاية أن تعلن منذ البداية، ثم يتضح أن تشككاتك في محلها، فالأحداث تخبئ المزيد والمزيد.
الفيلم نجح في الجمع بين أمرين؛ نهاية سعيدة، وأحداث غير رتيبة، فأفلام النهايات السعيدة عادة ما تبدو مملة وأحداثها متوقعة، بينما تميل أفلام النهايات الغير سعيدة بأن تعطي (بلوت تويست) قوية، أما هذا الفيلم فقد نجح بأن يخيب توقعاتك وأن يلبي تطلعاتك.
هنالك لمسات إخراجية جميلة، وأداء مميز لعدة ممثلين في الفيلم، أهمهم (دانيال كريج) الممثل البريطاني الذي أدى دور (جيمس بوند) في أفلام سابقة، فقد ظهر بلكنته البريطانية وسط الأمريكان فأعطى تنوعاً في المذاق وتنغيماً في الأصوات.
مخرج الفيلم شخص يدعى (رين جونسون) وهو من كتب القصة كذلك، وهذا أحد أسباب تميز هذا الفيلم، أن كاتب القصة والمخرج شخص واحد، فمن كتب القصة سيعرف فعلاً كيف يخرجها بأفضل طريقة.
في نهاية المطاف يمكن اعتبار هذا الفيلم مادة ممتعة نظيفة نسبياً، فهو خالي من المشاهد الخادشة للحياء (تقريباً)، ولا يحتوي إلا على القليل من كلمات الشتم والسباب.
تعجبني الأفلام التي تفتح لي نوافذ أخرى، إما نوافذ معرفية، أو نوافذ لاستكشاف دواخل الإنسان وغرائب طباعة، وهذا الفيلم فعل كلا الأمرين، بل أنه زاد على ذلك بأن جعلني أكثر امتناناً لكوني مسلماً، لهذه الحياة الثرية والتجربة الفريدة التي توفرها لنا هذه الرسالة السماوية التي ضمنت لنا العيش بأرقى درجات السعادة والفلاح.
فأما النافذة الأولى (نافذة المعرفة) فهي معرفتي للشخصية التي دار حولها الفلم، (مبني على قصة حقيقية)، شخص يدعى (John Callahan) أو (جون كالهان)، هو رسام ساخر (تتسم أعماله بالجرأة والوقاحة أحياناً)، مؤلف وكاتب أغاني، تعرض لحادث أفقده القدرة على التحكم في جسمه، فعاش مشلولاً على كرسي متحرك، وقد كتب قصة الفيلم بنفسه (توفي عام 2010 والفيلم من إنتاج 2018)، وعرض جانب من معاناته التي تمثلت أساساً في إدمانه لشرب الخمر.
ها هنا قصة إنسانية محسومة النتائج حول الخمر وآثار شربه، هاهنا دليلٌ واضح على عظمة دين الخالق الذي يعلم ما يصلح الإنسان وما يفسده، فمن يسأل ما الحكمة ولماذا؟ من يضيق ذرعاً بما يعتقد أنها (تقييدات) فرضها عليه الدين، فليشاهد هذا الفيلم ليعلم من خلال التجربة أن هذا الدين يُصلح ويُعلي ويُقيم، يُسعد ويُرشد ويصون.
الفلم يسير بوقع هادئ غير ممل، تميز في إظهار جانب من غرابة الإنسان وعجائبيته، أظهر مدى هشاشته وضعفه، القصة جيدة ومقنعة، أما طريقة الإخراج فقد سارت في غير ترتيب زمني واحد، بل أن هنالك تنقلات بين أزمنة مختلفة، تنقلات يسهل متابعتها وربط خيوطها، وهو ما أضفى جاذبية للفيلم دونما تعقيد.
في النهاية، قد تتفق أو تختلف مع شخصية الفيلم الحقيقية، من الراجح أنك لن يعجبك ما يختزنه من أفكار وما ينتجه من أعمال على أرض الواقع، وخاصة أنه يركز في بعض أعماله على مواضيع مثيرة للجدل والخجل، وقد تعتبر أن الفلم يسوق لهذه الشخصية ويظهرها بشكل حسن، لكن إن نظرت للفلم على أنه قصة إنسانية تركز على الأحداث والنتائج بغض النظر عن الأفكار والآثار، فستكون من معجبي الفيلم -كما أنا- مع الاحتفاظ بحقك في الاختلاف مع تلك الشخصية -كما أنا أيضاً-، تلك الشخصية التي غادرتنا منذ سنوات وانتقلت إلى خالقها، ليحكم كيفما يريد ويعطي رحمته لمن يشاء.
بالنسبة لي: فقد حرك الفلم فيّ مشاعر الامتنان والحمد، الامتنان لأني صحيح البدن حر الحركة، ولأني كذلك صحيح العقل والرؤية، نعمة الله علي التي عصمتني وأبعدتني من تلك المسالك، تفاصيل أقداره الخفية التي رسمت مسار حياتي بهذه الطريقة لا بتلك. أحمد الله على هداية الإسلام، وما أعظمها من هدية.
تنبيه: الفقرات التالية قد تحتوي على حرق لبعض أجزاء الفيلم، تجاوزها حتى فقرة (التقييم الأخلاقي) وعد إلى القراءة بعد المشاهدة إن كنت تنوي ذلك.
أما مسار “جون” بطل الفيلم؛ فقد كان مأساوياً لولا أن تداركه الله برحمته، لكن كيف تجلت رحمته فيه؟ بالحادث الذي أدى به إلى الشلل، نعم كان ذلك الحادث أحد وسائل العلاج وأحد أشكال الرحمة، علاج طعمه مر لكن -وكما يبدو- كان ضرورياً كي يتغير مسار حياته ثم تؤول الأمور إلى تحسن فرصته في الحياة وبعد ذلك النجاح فيها وحسب قنوانيها، صحيح أنه لم يتوقف عن الشرب فور الحادث، بل استمر وساءت حالته أكثر، تمادى في الأمر، حتى أتت تلك اللحظة التي انهار فيها، حين وقف عارياً أمام عجزه، عجزه التام، عجزه من أن يحضر قنينة الخمر من تحت الطاولة، تلك القنينة التي أذلته طوال حياته وعاش عبداً لها وأفقدته متعة الحركة، بل الحياة برمتها.
أعتقد أنه وفي تلك اللحظة الفارقة، حينها لمع نور في قلبه، غرست نبتة في روحة، تجلى الله بلطفه ورحمته عليه، يبدو أنه أحس بالعجز التام، فاقتنع ثم امتنع ولم يشرب بعدها أبداً، لقد كانت نقطة نور من خارج أسوار الحياة، ولقد حاول الفيلم أن يظهرها بعمقها دون أن يقدر، وتحدث عنها جون نفسه في الوثائقي لكنه لم يوفق، فنقطة النور تلك عظيمة جداً لا يمكن لبيان أن يحكيها، ولا لصورة أن ترويها، نقطة النور تلك تظهر دائماً في حيوات الناس بدرجات مختلفة، إنها تجليات نورانية ربانية تغير -في غمضة عين- ما صعب علينا تغييره في أعوام.
من المعاني الجميلة التي عرضها الفيلم وسوق لها، هي الاعتماد على الله، الخروج من الحول والقوة إلى حول الله وقوته، وحين طبق “جون” نصيحة “دوني” بأن يرمي حمولته على الله، أن يكتب مشكلته في ورقة ثم يرميها في سلة (God) أو (الإله)، بعدها تغير الحال وتحسن المآل، تمكنت الرسوميات من الخروج من بين يديه، تلك الرسوميات ثم أعجب بها طيف من الناس، ونُشرت في صحف ومجلات، ثم أصبح رساماً ناجحاً يعمل في المجال الذي يحبه.
ما أجمل تلك اللحظات التي قرر فيها “جون” أن يسامح الآخرين، وأن يطلب السماح منهم، ما أعظم روح التسامح التي تحلا بها حين ذهب لصديقة الذي تسبب في إعاقته وقال له أنه يسامحه، والأعظم من ذلك حين طلب هو منه أن يسامحه، لكن مم يسامحه وهو من تسبب في مأساته؟ يسامحه على السنوات التي قضاها بعد الحادث دون أن لقاء، فعاش معذباً بألم الضمير، لم يتمكن من الخروج من ألم الذكرى فتمرغ في وحل الشرب والخطيئة، يحاول أن ينهض وفي كل مرة يقع من جديد، فلو أنه تحرر من شعور الذنب ذاك لربما تمكن من التصالح مع نفسه وتغيرت حياته، هكذا فكر فيها “جون” طلب من صديقه أن يسامحه لأنه تركه كل هذه السنوات مقيداً بأغلال الندم والذكرى الأليمة، وهو الذي كان بإمكانه أن يحرره من أغلاله ويريح من عذابه، إن هذا المعنى العميق لجدير بأن يستوقفنا كثيراً وأن نتعلم منه أكثر.
ما لم يعجبني في الفيلم هو حشر موضوع الشذوذ فيه، وتسويقه على أنه أمر عادي، وهو الأمر الذي -للأسف- أصبح ملاحظاً في الكثير من الأفلام الأمريكية الحديثة.
أخيراً: هنالك فيديو وثائقي في اليوتيوب فيه مقابلة مع “جون” نفسه قبل أن يموت، وفيه مختصر قصته وعرض لبعض أعماله الرسومية الثابتة والمتحركة، وهنالك فيلم رسوم متحركة بصوته يعرض مختصر قصته مع الشرب والإدمان.
التقييم الأخلاقي: الفلم مقيم في imdb على أنه متوسط في ما يخص الجنس والتعري، هنالك 2 أو 3 مشاهد قصيرة غير لائقة، أيضاً يحتوي على إيحاءات جنسية في اللغة وفي بعض الرسوميات، هنالك مشاهد لشرب الخمر لكنه يقدمه على أنه أمر سلبي ومشين. لا يحتوي على مشاهد عنف.
المراجعة التالية لا تحرق قصة الفيلم أو أحداثة البارزة
الفيلم المعنون بـ Stagecoach والذي أنتج سنة 1939، هو أحد أفلام رعاة البقر (الكاوبوي)، ورغم قدم إنتاجه إلا أنني استمتعت به واستثار قلمي حتى أكتب عنه، فبرغم أدوات الاخراج البسيطة والتقنيات القديمة، ورغم انعدام الألوان وضعف جاذبية الصورة، إلا أنه تميز في أهم عنصر لأي فيلم أو عمل سينمائي؛ القصة. فالقصة والحبكة ممتازة بحيث تجعل المشاهد متشوق لمعرفة المزيد وإكمال الفيلم، أضف إلى ذلك أداء بعض الممثلين المميز والذي قد يتفوق على كثير من الأداءات في هذا العصر الحديث: عصر طغيان الصورة على الفكرة.
فكرة الفيلم نابعة من اسمه، فكلمة Stagecoach تعني (عربة الجياد) أو (الحنطور): العربة التي كانت تستخدم قديماً كوسيلة مواصلات وتنقل بين المدن، تلك التي تجرها الخيول، فالفيلم عبارة عن رحلة بواسطة تلك العربة من مدينة إلى أخرى، رحلة تخللتها أحداث ومفاجئات، ورغم تميز القصة، إلا أن أكثر ما أعجبني هو أداء الممثلين في التعبير عن الحالات الإنسانية والمشاعر البشرية التي تدور بين ثنايا الأحداث وتختبئ بين سطور الكلمات.
تميز المخرج بإخفاء بعض المعلومات أو الاكتفاء بالتلميح إليها من بعيد، كي تكتشفها بنفسك أثناء المشاهدة، أضف إلى ذلك الأحداث الغير متوقعة والمفاجئات التي تخالف توقعاتك، وهذه نقطة مهمة لأي قصة أو حبكة.
عربة حملت عدة مسافرين، كلٌ له وجهته وهدفه، أتو من خلفيات مختلفة، جمعتهم الأقدار لمواجهة مشكلة واحدة ومن أجل تحقيق هدف واحد؛ هو الوصول بأمان، فتباينت الآراء واختلفت الطباع، وظهرت المعادن في مواقف الجد والعزم.
يحاول الفيلم معالجة بعض القضايا الاجتماعية بشكل غير مباشر: مثل التميز الطبقي، الفطرة الإنسانية لمساعدة الآخرين والمبادرة من لإسعادهم، صحيح أن تلك القيلم لم يتم معالجتها بشكل عميق، بل بطريقة بسيطة واضحة، لكنها في نفس الوقت كانت أقرب إلى الواقعية وبعيدة عن التصنع والتكلف.
فيما يخص المحتوى، ينتقده البعض ويصفوه كما يصفو مخرجه بأنه عنصري، بأنه يكرس الصورة النمطية للهنود الحمر، سكان القارة الأصليين، بمعنى: يشيطن تلك الفئة من الشعب.
استخدمت كلمة (Apache) أو (أباتشي) في الفيلم على أنه العدو ومصدر الخوف لركاب الحنطور، والذي يتضح فيما بعد أنهم مجموعة من مقاتلي الهنود الحمر، وقد قمت بالبحث بعد الفيلم في الأمر واتضح أن هذه الكلمة تطلق على قبائل من الهنود الحمر ممن استوطنوا جنوب غرب أمريكا، وقد دارت حروب ونزاعات بين تلك القبائل وبين الحكومة من جهة وبين المواطنين الأمريكيين من جهة أخرى (ممن يعتبرونهم الأباتشي محتلين لأرضهم) منذ عام 1849 حتى 1924 (انقر هنا لمزيد من المعلومات).
الفيلم مدته ساعة ونصف تقريباً، وقد حاز على ثناء النقاد وعلى تقييم مرتفع على منصة IMDB (حصل على 7.9 من اصل 10 نجمات)، كما حصل على جازئتين أوسكار: أفضل ممثل في دور مساعد (دور الطبيب) وأفضل موسيقى، أما المخرج فيدعى “جون فورد”، توفي في 1973 وحصل على ست جوائز أوسكار عبر مسيرة حياته، يعتبر – حسب موقع IMDB- أحد أهم مخرجي عصره.
التقييم الأخلاقي: الفيلم نظيف لا يوجد فيه أي مشهد جنسي، لا يوجد تعري ولا حتى قبلات، شرب الخمر موجود بكثرة، الكلام عادي ليس فيه إسفاف.