لحظتك لحظتك

الأوهام تحاصرك، المخاوف تحاول اختطاف قلبك، تحوم حوله لتوقعه في شباكها الخبيثة، وصوتٌ يرن في أرجاء الروح ينادي (لحظتك لحظتك) فتحاول جاهدًا الإنقياد إليه موقنًا أنه حبل النجاة، فتقطع حبال أفكارك التي ما فتئت تتخيل المستقبل وترسم الاحتملات الأسوأ، رسوم ظهرت في جدران القلب مذ وصلتك الأخبار السيئة، أخبار متعلقة برزقك المكتوب في حاضرك المحسوب.

لازال الصوت يرن (لحظتك لحظتك) فتتجاوب معه محاولاً إنقاذ نفسك من بحر الأفكار المتلاطم، ثم تبدأ تفتش أحوالك؛ أنا.. شبعان، الصحة.. تمام، العمل.. جاري، الأهل والأحباب.. في خير، فلماذا الحزن إذن.

يتجاوب هذا الصوت الداخلي مع التفاتتك وكأنه يجازيك على حسن الإنصات، فيشرع في التطمين؛ لا تفكر في الغد القادم فأنت لا تملكه، تملك لحظتك فقط، فلا تفكر في سواها، تملك لحظتك فاستغرق فيها، اقطع حبال الأفكار التي ترميك بالسهام القاتلة، سهام لا تقتل الجسد بل الروح البهيجة فتغدو عليلة، ابنِ أمام الحزن سدًا منيعًا، لا تدعه يتسرب إلى ملكك فيفسده، فلست تملك سوى اللحظة، لحظتك هي مُلكك.

رنينه يقوى، صداه يتعالى.. لحظتك لحظتك.

ثم تبدأ باستراتيجية مجربة لصد العدوان، لقد جربتها مرات عديدة فكانت في النفع أكيدة، إنها استدعاء شريط الذكريات والمرور على ما في الحياة من محطات، إنك هاهنا اليوم تعيش، هل خذلك المَلِكُ يومًا؟ هل تركك تهيم في صحراء العمر تبحث عن كسرة تأكلها أو تُطعِمها؟ كم من محنة ذهبت أدراج الرياح، وكم من فترة عصيبة لم تبقى منها إلا الذكريات، إن من رزقك لن ينساك، ومن أوصلك سيكمل مشواره معك، إن كل شيء في مكانه ويمضي بقدره.

لا تهدأ المعركة بين أفكارك وأفكارك، أهي أفكاري حقًا أم أفكار جهتين متضادتين، كلُ يريد أن يكسبك، هل من يتحدث في عقلي هو عقلي أم أن هنالك ملكًا وشيطانًا يتصارعان، ما قلته آخرًا هو الأرجح، فقد علّمنا ربنا أن نستعيذ به من الشيطان الرجيم، فالشيطان يوسوس ويوحي، يحاول زرع أشواك القنوط في قلبي، قال لي أحد المصابين بالاكتئاب الحاد أن هنالك أفكار سوداوية تفرض نفسها عليه فرضًا، وتهجم عليه سهامها هجومًا كاسحًا يقف أمامها عاجزًا، فمن هو صاحب تلك الأفكار؟

(الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء) إذن هو الشيطان من يخوفني بالمستقبل، من يزرع في قلبي أفكار الشك في الرزق، من يجعلني قلقًا على مصير لقمتي ولقمة أطفالي، إنه الشيطان أعوذ بالله منه، ولقد قررت أن أحتمي بخالقه منه، وكذلك فعلت.

لم أكن قادرًا على حسم المعركة، لكنها حُسمت في ساحة المسجد، وتحديدًا أثناء السجود، لقد انقشعت السحابة السوداء من سماء القلب أخيرًا، له الحمد أن شرع لنا الصلاة، لم يتركنا نواجه ذلك العدو منفردين، لقد أمَدّنا بهذا السلاح الفتاك ضد هذا المعتد الأثيم، هذا الذي أقسم حسدًا أن ينتقم من ذنب لم نتركبه، إنه سلاح الذكر، والصلاة هي أبهى صور الذكر، ألم يقل ربنا (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين) أعوذ بالله من هذا القرين، وأعوذ بالله من زخارف الدنيا التي قد تلهيني عن صلاتي، عن سلاحي، عن قارب نجاتي.

ماذا حدث بعد؟
عاود العدو هجمته في اليوم التالي، حاول أن يثنيني عن بِشري وتفاؤلي، وكان السبب الظاهر خبرًا عابرًا، لكني حين فتشت عرفت السبب الحقيقي، وهو أني قصّرت في صلاتي وتساهلت في أذكاري، فيالي من أحمق، أترك سلاحي والعدو في الثغور يتربص، يبحث عن كل فرجة ينفذ منها إلى قلبي، فلا بد إذن من عودة، لا بد من توبة.