يا نوح اهبط بسلام منا وبركات ….

هبط في صمت، لا أدري متى على وجه التحديد نزل الملك ونفخ فيه الروح، فلقد كان مختفيًا عنا سبعة أشهر في ظلماته الثلاث، مر الشهر الأول قبل النفخ، أما الشهر الأخير فلم يكمله، أراد الله أن يخرج مبكرًا ليبدأ مسيرته الأرضية.
.
هنالك، في تلك الغرفة الهادئة، بجانب غرفة العمليات، جلسنا أنا وأخويه نترقب، كنا نتحدث عن الإسم المناسب، وقبل أن نقرر كانت الممرضة قد انطلقت مسرعة إلى غرفة الحضانة، فلحقناها نبغي نظرة خاطفة، ثم اختفت عنا لعشر دقائق ولم نكن نسمع إلا صراخًا خفيفًا، كانت هنالك فرحة تسري في قلوبنا بقدوم هذا الضيف الجديد، لقد وصل بسلامة الله، وتبقى لنا سلامة الأم، ثم سلمها الله وخرجت بخير وعافية، أما نوح فقد أذنوا لي برؤيته سريعًا وترديد الأذان في أذنه، ففعلت ثم عدت إلى الغرفة، وبعد ساعة أو أكثر أتانا وهو نائمٌ في سلام.

(اهبط بسلام…)

هبط إلينا نوحٌ بسلام والحمد لله، كان حمله سهلا وولادته سهلة، وقد مر الأسبوع التالي من الولادة بسلام وسكينه، لم يكن نوحٌ مزعجًا أو كثير المطالب، جسمه نحيل وحجمه صغير، لا يصر كثيرًا على طعامه، يقوم بتقليب شفتيه يمينًا ويسارًا كلما أحس بالجوع، يحاول الصبر على الغازات كلما أزعجته معدته، فإن بالغت في إيلامها أخرج لنا بعض الصراخ الخفيف، فيطربنا أكثر مما يزعجنا.

(وبركات عليك وعلى أمم ممن معك)

هبط علينا بسلام وأشاع فينا جوًا من السلام والطمأنينة، إنه بركة من الله ونعمة، إنه عطاء وفضل، إنه روح وريحان، إنه نوح.

هبط من عالم الأنفس الغيبي إلى عالم الشهادة الأرضي، هاهو ذا بيننا، بذاكرة صفرية وأدوات بدائية، وعليه أن يبدأ التعلم والتأقلم، أن يتعلم الأساسيات ويتطور في الحياة إلى أن يصل إلى ما قدّر له الله أن يصل إليه، وإني لأرجو من الله أن يكون المقدر عظيمًا.
.
يقضي نوحٌ معظم وقته نائمًا، وحين تتاح له الفرصة لفتح عينيه فإنه يقلبها يمينًا ويسارًا، كلّ ما حوله غريب، حتى هذا الجسد الذي لا يدري كيف يستخدمه، ساعة يحرك يده وساعة يمطمط شفتيه، يحس بشيء مريح في جسده فيصمت متأملًا، يتألم فيبكي متوجعًا، ثم يسمع صوت بكائه مستغربًا، ما كل هذه الأصوات؟ ما كل هذه الأضواء؟ أين أنا ومن أنا؟

(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا.)

أيا نوح، هل تدرك وجودك معنا، هل تحس بذبذات الحب حين نحملك بين أذرعنا أو نقبلك بشفاهنا، لا أدري ما مستوى الوعي الذي تحمله في أسبوعك الأول، لكني أعلم أنه سيتطور، سوف تعي من حولك ثم تعي المشاعر التي يحملونها نحوك.
.
لقد هبط نوحٌ إلينا بمشيئة الله، هبط إلى عالم صاخب تتصراع فيه الأفكار والمذاهب، هبط إلى عالم وصل من التقدم العلمي مبلغًا عظيمًا، لكنه فقد من روحانيته قدرًا كبيرًا، هبط في هذه الأمة التي أضاعت طريقها وتاهت في شعابها، فهل يُحدث الله بك طوفانًا من الخير يغمر الأرض ويحيل الجدب زرعًا وخضرة، أم هل يجري الله على يديك سفينة تحمل بذور النور وتنشرها في ربوع العالم، لا ندري ما يحمله لك ولنا المستقبل، لكن الله يدري، الله يعطي وعطاؤه يُبهِر.
.
امض يا نوح في طريقك، رويدًا رويدا، ابنٍ ما عجزنا عن بنائه، كن ما عجزنا عن كونه، فأنت خلق الله الذي يقول للشيء كن فيكون، الله ربي وربك ورب العالمين، كن معه يكن معك، كن له عبدا يكن لك ربًا، كن عبده الصالح يسخر لك الدنيا، كن عبده الذليل تعش عزيزًا مكرمًا.